من التمكين إلى الثبات.. داعش بين التراجع الميداني وإعادة إنتاج الخطاب الجهادي
تاريخ النشر: 26th, February 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
يسعى تنظيم داعش من خلال افتتاحية العدد 483 الصادر في الساعات الأولى من يوم الجمعة 21 فبراير 2025، من جريدته النبأ؛ إلى إعادة تأكيد مشروعية نهجه القتالي، في ظل تراجع نفوذه الميداني وفقدانه لمساحات واسعة من الأراضي التي كان يسيطر عليها. فبعد أن كان يقدم نفسه كـ"دولة خلافة" تتمدد جغرافيًا، بات يجد نفسه محاصرًا أمام ضربات عسكرية متواصلة، إلى جانب الضغوط الأمنية التي تستهدف شبكاته وخلاياه النشطة.
لكن هذا التحول لم يكن مجرد استجابة لتغير الظروف العسكرية، بل جاء أيضًا في سياق نقاشات أوسع داخل الأوساط الجهادية حول جدوى النهج القتالي. فمع فشل محاولات إقامة "كيانات إسلامية" بالقوة المسلحة، بدأت بعض الجماعات الجهادية مراجعة خياراتها، معتبرة أن التفاوض أو الانخراط السياسي قد يكون أكثر فاعلية في تحقيق أهدافها. غير أن داعش يرفض هذه الطروحات بشكل قاطع، ويعتبرها "انتكاسة" وخيانة للمشروع الجهادي. ولهذا، تعكس الافتتاحية موقف التنظيم العدائي تجاه أي مسار غير مسلح، إذ يعيد إنتاج ثنائية "القراع والاقتراع"، ليصور العمل السياسي كمسار خادع لن يؤدي إلا إلى التفريط في "شرعية الجهاد".
ولا يمكن قراءة هذا الخطاب بمعزل عن التحولات الجيوسياسية الأوسع في المنطقة، حيث باتت القوى المناهضة للتنظيم تعتمد استراتيجيات جديدة لا تستهدفه عسكريًا فحسب، بل تعمل على استنزافه أمنيًا واقتصاديًا، عبر ملاحقة موارده البشرية والمالية. أمام هذه الضغوط، وجد التنظيم نفسه في وضع دفاعي أكثر انغلاقًا، ما دفعه إلى مضاعفة اعتماده على الخطاب العقائدي الذي يربط قضيته بنبوءات كبرى حول "الصراع النهائي"، في محاولة للحفاظ على تماسكه الداخلي، حتى مع تآكل نفوذه الواقعي.
السياق العام للنصتأتي هذه الافتتاحية في سياق تراجع تنظيم داعش ميدانيًا وفقدانه لمساحات واسعة من الأراضي التي كان يسيطر عليها، نتيجة العمليات العسكرية المتواصلة التي شنتها قوى دولية وإقليمية، بالإضافة إلى الانقسامات الداخلية التي أضعفت بنيته التنظيمية. فبعد أن كان التنظيم يروّج لنفسه ككيان "خلافة" يمتد على مساحات واسعة، أصبح يواجه حالة من الانحسار الجغرافي، مما دفعه إلى إعادة صياغة خطابه الدعائي ليواكب هذه المرحلة، حيث لم يعد التركيز على "التمكين" بقدر ما أصبح على "الثبات" والاستمرار في القتال رغم التراجع. وتكشف هذه الافتتاحية عن محاولة التنظيم الحفاظ على معنويات أتباعه، عبر تصوير الهزائم على أنها اختبارات إلهية، وتعزيز فكرة أن الجهاد لا يُقاس بالمكاسب المادية، بل هو طريق مستمر بغض النظر عن النتائج الآنية.
إلى جانب ذلك، تأتي هذه الافتتاحية وسط جدل أوسع داخل التيارات الجهادية حول فعالية النهج القتالي مقارنة بالبدائل الأخرى التي اعتمدتها بعض الحركات الإسلامية، مثل العمل السياسي أو التفاوض مع القوى الإقليمية والدولية. فبعد عقود من الصراع، بدأت بعض الفصائل الجهادية إعادة تقييم خياراتها، خاصة في ظل الفشل المتكرر لمحاولات إقامة "كيانات إسلامية" بالقوة المسلحة. لكن تنظيم داعش يرفض هذه المراجعات تمامًا، ويعتبرها انحرافًا عن "الطريق الصحيح"، وهو ما يظهر في النبرة الهجومية للخطاب ضد من اختاروا السلمية أو الانخراط في العملية السياسية. وهذا يعكس أزمة داخلية داخل التيارات الجهادية نفسها، حيث لم يعد الانقسام فقط بين "الجهاديين" وخصومهم، بل أصبح داخل المشهد الجهادي ذاته، بين من يصرون على القتال كخيار وحيد، ومن بدأوا يبحثون عن استراتيجيات بديلة أكثر واقعية.
علاوة على ذلك، لا يمكن فصل هذه الافتتاحية عن السياق الأوسع المرتبط بتغير أولويات الفاعلين الدوليين والإقليميين في المنطقة. فمع تراجع قوة التنظيم ميدانيًا، تحولت استراتيجيات القوى المناهضة له من المواجهة العسكرية المباشرة إلى التركيز على الاستنزاف الأمني والاقتصادي، عبر ملاحقة الخلايا النائمة وقطع مصادر التمويل والتجنيد. هذا التحول زاد من عزلة التنظيم، ليس فقط على المستوى الجغرافي، ولكن أيضًا على المستوى الأيديولوجي، حيث بات أكثر تطرفًا في خطابه، في محاولة لتعويض فقدانه للنفوذ الميداني بجاذبية خطابية تبقي على ولاء أتباعه. كما أن تصاعد الضغوط الأمنية جعل التنظيم أكثر انغلاقًا على نفسه، إذ لم يعد قادرًا على تقديم صورة "الدولة" كما كان في السابق، ما دفعه إلى التركيز على الخطاب العقائدي التحفيزي، الذي يصور القتال المستمر كغاية بحد ذاتها، وليس مجرد وسيلة لتحقيق أهداف سياسية أو عسكرية ملموسة.
البنية الخطابية وأسلوب الحجاجيتبنى الخطاب في هذه الافتتاحية أسلوبًا وعظيًا عاطفيًا، يعتمد على استثارة المشاعر الدينية من خلال استدعاء النصوص المقدسة (القرآن والسنة) لتبرير موقف التنظيم وإضفاء الشرعية عليه. وهذا الأسلوب ليس جديدًا في خطاب داعش، لكنه يبرز هنا بشكل أكثر وضوحًا في ظل تراجع التنظيم، حيث يسعى إلى إعادة تأطير الهزائم باعتبارها "ابتلاءات" تستوجب المزيد من الصبر والثبات. كما يعتمد على الحجج الإيمانية أكثر من الواقعية، في محاولة لتوجيه جمهوره نحو رؤية دينية مغلقة ترفض أي مراجعة أو إعادة تقييم للمسار.
المقابلة بين الثابتين على "الحق" والخاذلين لهيركز الخطاب على رسم ثنائية واضحة بين فئتين متناقضتين: "الثابتين على الحق"، وهم مقاتلو التنظيم الذين يواصلون القتال رغم التحديات، و"المنتكسين"، أي أولئك الذين تراجعوا عن المواجهة بحجج مثل "حفظ الأرواح" أو الواقعية السياسية. هذه الثنائية ليست مجرد توصيف للوضع الداخلي، بل هي أداة لحماية صورة التنظيم من التصدع الداخلي، حيث يواجه في الواقع انشقاقات متزايدة بين أتباعه نتيجة الخسائر المتكررة والظروف القاسية. وعليه، يتم تصوير أولئك الذين يراجعون موقفهم أو يغادرون صفوف التنظيم على أنهم خونة انحرفوا عن المنهج الصحيح، مما يسهم في تشويه صورتهم بين الأعضاء الحاليين ويحدّ من انتشار الشكوك داخل التنظيم.
علاوة على ذلك، فإن هذا التقسيم يخدم غرضًا تحفيزيًا، إذ يعزز من إحساس الأفراد المنتمين إلى التنظيم بأنهم "طليعة مختارة" تواجه الابتلاءات بصبر وثبات، في مقابل أولئك الذين انشغلوا بالمصالح الدنيوية. ويحرص الخطاب على تقديم صورة بطولية للذين بقوا، مصورًا إياهم كأصحاب عقيدة راسخة يدفعون "ضريبة الثبات" في سبيل الله، بينما يتم شيطنة أولئك الذين انسحبوا باعتبارهم متخاذلين اختاروا طريق الراحة والاستسلام. وبهذه الطريقة، يصبح أي نقد داخلي غير مقبول، حيث يتم تأطير أي دعوة لإعادة النظر في الاستراتيجيات على أنها انحراف عقدي وليس مجرد خلاف في التكتيكات.
إدانة المسارات السلميةيتمحور الخطاب حول رفض قاطع لأي مسار سياسي أو تفاوضي، مستندًا إلى الثنائية التقليدية بين "القراع" (القتال) و"الاقتراع" (الخيار السياسي)، حيث يُنظر إلى الخيار الثاني على أنه انحراف عن المنهج الشرعي وخيانة للمشروع الإسلامي. وفقًا لهذه الرؤية، فإن أي محاولة لاستخدام الأدوات السياسية تُعتبر مهادنة للأنظمة الحاكمة ورضوخًا للقوى الغربية، ما يجعل التنظيم يرى في نفسه الكيان الوحيد الذي لا يزال متمسكًا بالنقاء الأيديولوجي للجهاد. ومن خلال هذا الطرح، يتم توجيه انتقادات غير مباشرة للحركات الإسلامية الأخرى التي لجأت إلى العمل السياسي، حيث يُتهم أعضاؤها بأنهم باعوا الدين مقابل مكاسب دنيوية زائلة.
علاوة على ذلك، يعكس هذا التشدد في الموقف قلق التنظيم من تآكل تأثيره أمام أتباعه، خاصة في ظل نجاح بعض الحركات الإسلامية في تحقيق مكاسب سياسية دون اللجوء إلى العنف. فمع مرور الوقت، أصبح من الواضح أن بعض الجماعات التي اختارت العمل السياسي استطاعت تحقيق اختراقات داخل المشهد السياسي، مما قد يُغري بعض أتباع التنظيم بإعادة التفكير في جدوى القتال المستمر. لذا، يسعى الخطاب إلى إعادة التأكيد على حتمية الصراع المسلح، ليس فقط كوسيلة لتحقيق الأهداف، ولكن كمبدأ ديني يُمنع الحياد عنه. وهكذا، يصبح الخيار السلمي مرفوضًا بالكامل، ويتم تحميل الجماعات التي اختارت هذا المسار مسئولية الفشل، بهدف منع أي مقارنات قد تُضعف موقف التنظيم بين أنصاره.
إحياء النبوءات الأخيرةيلجأ الخطاب إلى توظيف نبوءات الفتن الكبرى والملاحم الأخيرة، مثل نزول الروم بالأعماق وظهور الدجال، لتبرير استمرار القتال رغم التراجع الميداني الكبير. يُصور التنظيم نفسه كجزء من مخطط إلهي حتمي، حيث يُعتبر استمرار المعركة ضرورة دينية وليس مجرد خيار استراتيجي. من خلال هذه المقاربة، يتم تحويل أي هزيمة عسكرية من مجرد خسارة تكتيكية إلى اختبار إيماني يسبق النصر الموعود، ما يساعد على الحفاظ على تماسك الأتباع ورفع معنوياتهم. فبدلًا من الاعتراف بأن التراجع العسكري هو نتيجة طبيعية للضغوط الأمنية والعسكرية، يتم ربطه بسياق أكبر يجعل التوقف عن القتال أمرًا مستحيلًا من الناحية العقدية.
إضافة إلى ذلك، يمنح هذا السرد التنظيم إحساسًا بالتفوق والتميز، حيث يتم تصوير مقاتليه على أنهم "الفرقة الناجية" التي ستظل ثابتة حتى النهاية، بينما سيتخلى الجميع عن المبادئ. ومن خلال التذكير بهذه النبوءات، يسعى التنظيم إلى تحصين أتباعه ضد أي نزعة للشك أو التساؤل حول جدوى القتال، إذ يتم تصوير كل من يعترض على الاستمرار في المواجهة على أنه يفتقر إلى الفهم العميق للبعد الغيبي للصراع. وهكذا، تتحول هذه النبوءات إلى أداة مزدوجة: فمن ناحية، تُستخدم لتعزيز شرعية التنظيم وترسيخ التفوق الأخلاقي لمقاتليه، ومن ناحية أخرى، يتم توظيفها لقمع أي محاولة للتفكير في بدائل أخرى غير العنف المسلح.
الدلالات والسياقاتالشرعنة الدينية للعنف
يعتمد الخطاب على تأصيل فكرة القتال باعتباره فريضة دينية لا يمكن مراجعتها أو التراجع عنها، مستخدمًا في ذلك سردية تكفيرية تُقصي المخالفين وتُجرّم كل من يرفض النهج القتالي. فالتنظيم لا يكتفي بتبرير العنف، بل يجعله ضرورة شرعية يُنظر إلى التراجع عنها على أنه خيانة، ما يلغي أي مساحة للنقاش حول مدى ملاءمة الخيار المسلح مقارنة ببدائل أخرى. هذه الشرعنة تستند إلى إعادة تفسير النصوص الدينية بما يخدم تصور التنظيم للصراع، بحيث يُقدَّم القتال على أنه واجب مستمر لا يخضع لظروف سياسية أو عسكرية، بل هو ثابت ديني مطلق.
كما تُستخدم هذه السردية لرفض أي مراجعة داخلية قد تنشأ بسبب الضغوط الواقعية، حيث يُربط كل تراجع بالمؤامرة أو الخذلان، ويُوصف كل نقد بأنه علامة "انتكاس" أو "ضعف إيماني". وبهذا، يُجبر الأفراد داخل التنظيم على الاستمرار في القتال مهما كانت المعطيات، إذ يصبح التساؤل عن فاعلية النهج القتالي ضربًا من التشكيك في العقيدة. وهذا النمط الخطابي يرسّخ دائرة مغلقة تمنع أتباع التنظيم من التفكير في خيارات أخرى، كما أنه يسمح لقادته بمواصلة الزجّ بمقاتليهم في معارك خاسرة تحت غطاء ديني مُلزم.
محاولة استعادة الزخم بعد الهزائمتعكس إعادة توظيف نبوءات الفتن الكبرى رغبة التنظيم في الحفاظ على تماسكه الداخلي بعد سلسلة من الهزائم الميدانية التي أفقدته السيطرة على العديد من المناطق. فمع تراجع العمليات النوعية وفقدان القدرة على شن هجمات كبيرة، يصبح اللجوء إلى النبوءات الدينية وسيلة لإعادة شحن معنويات الأتباع، عبر إقناعهم بأن ما يحدث ليس إلا جزءًا من اختبار إلهي قبل النصر النهائي. يشير التنظيم إلى معارك مثل نزول الروم بالأعماق وظهور الدجال، ليؤكد أن المواجهة الحالية ليست مجرد معركة سياسية أو عسكرية، بل هي حلقة في "الملحمة الكبرى" التي ستنتهي بتمكين الفئة المؤمنة.
من خلال هذا الطرح، يحاول التنظيم تطمين عناصره بأن خسارة الأراضي والموارد لا تعني الفشل، بل قد تكون جزءًا من مسار طويل يسبق النصر الحتمي. وهذا يُسهم في إدامة الولاء للتنظيم، إذ يُطلب من الأتباع الصبر والثبات بدلًا من التشكك في جدوى القتال. كما أن هذا الخطاب يساعد في استقطاب مجندين جدد من الأوساط التي تتأثر بالسرديات المهدوية والغيبيات، حيث يجدون في خطاب التنظيم تأكيدًا لرؤى دينية مشبعة بالأحداث الكونية الكبرى التي تمنحهم إحساسًا بالمشاركة في "المعركة الأخيرة" قبل يوم القيامة.
معاداة التيارات الإسلامية الأخرىيتضمن الخطاب إدانة ضمنية وصريحة للتيارات الإسلامية التي اختارت العمل السياسي، حيث يُتهم هؤلاء بأنهم "باعوا الدين" من أجل تحقيق مكاسب دنيوية. ويصفهم التنظيم بأنهم تخلوا عن خيار الجهاد الحقيقي، مفضلين المساومة والتنازلات التي يراها شكلًا من أشكال "المفارقة للدين". وبهذا، يحاول التنظيم تصوير نفسه على أنه الحامل الوحيد للراية الإسلامية الصافية، بينما يُصنَّف الآخرون كخونة أو ضعفاء فقدوا شرف المواجهة. هذه الإدانة لا تستهدف فقط الحركات الإسلامية المشاركة في السياسة، بل تمتد إلى الجماعات الجهادية الأخرى التي ربما اتبعت تكتيكات مختلفة، مما يعكس نزعة إقصائية حتى داخل الدوائر الجهادية نفسها.
بالإضافة إلى ذلك، يهاجم الخطاب بشكل غير مباشر التيارات الشيعية وبعض التيارات السلفية التي تنتظر "المهدي" ليقود المعركة النهائية، حيث يرى التنظيم أن هذه النظرة مجرد تبرير للتقاعس عن القتال في الحاضر. يربط التنظيم بين هذه الفكرة وبين موقف اليهود الذين كانوا ينتظرون النبي الموعود، لكنهم عندما بُعث محمد ﷺ أنكروه. وبهذا، يحاول الخطاب تصوير أي جماعة ترفض القتال الفوري على أنها تُعيد إنتاج خطأ اليهود، في تكتيك يستهدف دفع الأتباع للانخراط في المعارك دون تأجيل أو تساؤل.
إعادة تعريف مفهوم النصر والهزيمةيحاول الخطاب رسم صورة جديدة للهزيمة العسكرية بحيث لا تُفهم على أنها خسارة حقيقية، بل مجرد "دولة" مؤقتة في سياق صراع مستمر. يستند التنظيم إلى الرؤية التاريخية التي ترى أن "الدولة لله" تتعرض للتقلبات لكنها لا تزول، وبالتالي فإن فقدان المدن والمعاقل لا يعني نهاية المشروع، بل هو مجرد مرحلة من مراحل الاختبار. وبهذا، يسعى التنظيم إلى تقويض أي استنتاج منطقي قد يتوصل إليه أنصاره بشأن فشل استراتيجيته القتالية، ويحوّل كل تراجع إلى محطة عابرة ضمن سيناريو طويل الأمد يقتضي الصبر والتضحية.
هذا الطرح يخدم إستراتيجية التنظيم في استنزاف خصومه، حيث يرفض الاعتراف بالهزيمة مهما كانت المعطيات، مما يدفع عناصره إلى مواصلة القتال رغم انعدام فرص النجاح. كما أن هذا التأطير يُبقي التنظيم نشطًا حتى في حال فقدان السيطرة على الأرض، حيث يروّج لفكرة أن الجهاد لا يتوقف بانتهاء "دولة الخلافة"، بل يستمر كحركة لا مركزية تتبنى أسلوب العصابات والخلايا النائمة. وبهذه الطريقة، يضمن التنظيم استمرارية الصراع، حتى في ظل انحساره الميداني، عبر ترسيخ قناعة لدى أتباعه بأنهم لم يُهزموا فعليًا، بل هم جزء من معركة ممتدة لا نهاية لها إلا بالنصر النهائي.
تأثير الافتتاحية على تنامي الإرهابتعكس هذه الافتتاحية استراتيجية إعلامية تسعى إلى إعادة تعبئة أنصار تنظيم داعش وتعزيز قناعتهم بضرورة الاستمرار في القتال، رغم التراجع الميداني والهزائم المتلاحقة. ومن خلال تصوير الهزيمة على أنها "ابتلاء إلهي" وليس مؤشرًا على فشل المشروع الجهادي، تسهم هذه الرسائل في منع أي مراجعات داخلية قد تدفع بعض الأفراد إلى الانسحاب أو إعادة التفكير في جدوى العنف المسلح. وبدلًا من الاعتراف بالتغيرات الواقعية، يعمل الخطاب على ترسيخ قناعة مفادها أن التراجع الحالي مؤقت، وأن الصراع جزء من مخطط إلهي أكبر، مما يعزز عقلية الاستمرار في العنف بوصفه التزامًا دينيًا لا يرتبط بالنتائج المباشرة.
إلى جانب ذلك، تلعب هذه الافتتاحية دورًا في إعادة إنتاج الخطاب التكفيري الذي يضع خصوم التنظيم – بمن فيهم جماعات إسلامية أخرى – في خانة "الخونة" و"المرتدين". وهذا التصعيد في لهجة التكفير يسهم في تأجيج النزاعات الداخلية بين التيارات الإسلامية، ويدفع بعض الأفراد إلى تبني مواقف أكثر تشددًا، خاصة مع تصوير أي مسار غير عنيف على أنه خيانة للإسلام. ومن خلال هذا النهج، يضمن التنظيم استمرار تدفق المقاتلين المحتملين إلى صفوفه، إذ يغذي لديهم الشعور بأنهم يخوضون معركة مصيرية لا تقبل التردد أو التراجع.
أما على المستوى الأوسع، فإن هذه الافتتاحية تساهم في تعزيز بيئة التطرف عبر استدعاء النبوءات الكبرى والملاحم الغيبية، مما يحوّل العنف من مجرد أداة لتحقيق هدف سياسي إلى جزء من "نهاية كونية محتومة". وهذا النوع من السرديات يشجع الأفراد، حتى من خارج الدوائر الجهادية التقليدية، على تبني قناعات متشددة تؤمن بأن المواجهة العسكرية ليست مجرد صراع سياسي، بل هي امتداد لمعركة دينية كبرى لا يمكن التراجع عنها. وبهذا الشكل، يصبح الخطاب الجهادي أكثر قدرة على اختراق البيئات الاجتماعية المختلفة، مما يعقّد جهود مكافحته، ويمنحه قدرة على الاستمرار رغم الضغوط الأمنية والعسكرية.
الخلاصةتعكس هذه الافتتاحية جهود تنظيم داعش في الحفاظ على تماسكه الداخلي رغم التراجع الميداني الكبير الذي مُني به، حيث يعتمد على تأطير الهزيمة ضمن إطار عقدي يجعلها مجرد اختبار إلهي لا يعني نهاية المشروع الجهادي. فبدلًا من الاعتراف بالواقع العسكري المتغير، يسعى التنظيم إلى إعادة تعريف النصر والهزيمة، مؤكدًا أن فقدان الأراضي لا يُلغي شرعية القتال، بل يُمثل مرحلة من مراحل التمحيص. كما يعيد الخطاب التشديد على العنف المسلح كخيار وحيد، رافضًا أي بدائل سياسية أو مراجعات فكرية، ما يعكس نزعة إقصائية متشددة تجاه حتى التيارات الإسلامية الأخرى، سواء الجهادية أو السياسية.
ومع ذلك، تُظهر الافتتاحية بوضوح الأزمة الفكرية والعملية التي يعيشها التنظيم، إذ أصبح خطابه أكثر انعزالًا عن الواقع وأكثر ارتكازًا على النبوءات الغيبية لتعويض فقدان الإنجازات الميدانية. فتوظيف نبوءات الفتن الكبرى والملاحم المستقبلية يأتي كمحاولة لتبرير الفشل وإبقاء المقاتلين في حالة استنفار دائم، رغم تراجع العمليات النوعية وفقدان الزخم السابق. كما أن الخطاب يكشف عن معضلة التنظيم في التعامل مع التغيرات الداخلية، حيث يواجه تحديات في ضبط عناصره ومنع التشكيك في جدوى القتال، ما يدفعه إلى تعزيز السرديات العاطفية والدينية بهدف إحكام قبضته الأيديولوجية على أتباعه.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: داعش التمكين هذه الافتتاحیة العمل السیاسی الاستمرار فی الترکیز على رغم التراجع التنظیم إلى أولئک الذین الخطاب على تنظیم داعش الحفاظ على القتال رغم فی محاولة سیاسیة أو إلى إعادة على أنها ومن خلال على أنه لا یمکن من خلال فی جدوى جزء من کما أن
إقرأ أيضاً:
الدويري: المقاومة أعادت ترتيب أوراقها وتنفذ عملياتها بعمق جيش الاحتلال
قال الخبير العسكري والإستراتيجي اللواء المتقاعد فايز الدويري إن فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة أعادت تنظيم صفوفها ورتبت أوراقها من جديد، وهي تنفذ الآن عمليات مركزة في عمق تشكيلات جيش الاحتلال الإسرائيلي، في ظل اتساع هامش المناورة لديها وتبدّل طبيعة المناطق التي تشهد المواجهات.
وأشار الدويري -في تحليل للمشهد العسكري بقطاع غزة- إلى أن العمليات المتكررة في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة تمثل نمطا متقدما من القتال، تتسم بالاحتكاك المباشر والتسلل إلى عمق التشكيلات الإسرائيلية، باستخدام تكتيكات تستند إلى كمائن مُعدة سلفا وتفجيرات هندسية داخل المنازل المستهدفة.
وتأتي هذه التصريحات في ظل إعلان وسائل إعلام إسرائيلية عن "حدث أمني" جديد في حي الشجاعية، تزامن مع هبوط مروحية عسكرية إسرائيلية في مستشفى "شاعري تصيدق" في القدس المحتلة، وسط تقديرات بنقل جرحى من ساحة العمليات.
وكانت كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) أعلنت في وقت سابق تنفيذ عملية من نقطة صفر أجهزت فيها على جنديين إسرائيليين في الشارع ذاته.
وأوضح الدويري أن المقاومة استفادت من إخلاء السكان قسريا في المناطق الحمراء، مما أطلق يدها وأعطاها مساحة أكبر للحركة، وسمح لها بتكثيف عملياتها خلف خطوط التمركز الأمامية لقوات الاحتلال، وليس بالضرورة خلف الجبهة بكاملها، ما يعكس مرونة وتطورا واضحا في الأداء الميداني.
إعلانوأضاف أن هذه الكتائب باتت تستدرج الجنود الإسرائيليين إلى مناطق "تقتيل"، تستخدم فيها العبوات الناسفة والتفجيرات المؤجلة داخل المنازل، بالإضافة إلى أسلحة مثل قذائف "الياسين 105" و"الثاقبة" وقناصة "الغول"، وهو ما يشير إلى حزمة متكاملة من التكتيكات التي يتم تفعيلها بدقة في الميدان.
استنزاف الاحتلالوأشار إلى أن المقاومة -من شمال القطاع إلى جنوبه- نجحت في الحفاظ على وتيرة عملياتها رغم تلقيها ضربات قاسية، مؤكدا أن المقاتلين ما زالوا قادرين على استنزاف الاحتلال، "حيث لا يكاد يمر يوم دون تسجيل قتلى أو جرحى في صفوف الجيش الإسرائيلي".
وأكد الدويري أن تأثير الخسائر البشرية في صفوف الجيش الإسرائيلي اليوم يختلف عما كان عليه في الأشهر الأولى للحرب، حيث باتت تحمَّل مسؤولية كل قتيل للحكومة الإسرائيلية ورئيسها بنيامين نتنياهو، وسط إدراك متزايد بأن "ضريبة الدم" أصبحت ثمنا لبقاء هذا الائتلاف في الحكم.
وفي معرض تقييمه لأداء الجيش الإسرائيلي، استشهد الدويري بما كتبه إسحاق بريك في صحيفة "معاريف"، إذ قال إن الجيش الإسرائيلي "هُزم أمام حماس"، محذرا من التورط في حرب استنزاف طويلة قد تؤدي إلى انهيار البنية التنظيمية والأمنية للجيش، وخسائر اقتصادية باهظة.
وتابع اللواء المتقاعد أن المقاومة ليست فقط بعيدة عن الانهيار، بل استعادت أنفاسها وأعادت تشكيل بنيتها التنظيمية، رغم فقدان معظم قادة الصف الأول والثاني، حيث شهدت صفوفها إعادة بناء في البعدين البشري والعسكري، وهو ما يفسر استمرارها في القتال بهذا الزخم.
الهندسة العكسيةوقال إن سؤال "من أين للمقاومة القدرة على مواصلة تصنيع الأسلحة رغم الحصار؟" يمكن الإجابة عليه من خلال فهم آليات "الهندسة العكسية" التي تعتمد عليها الفصائل، عبر تفكيك القذائف غير المنفجرة -التي تُقدّر بـ15 إلى 20% من إجمالي القنابل المسقطة على القطاع- وإعادة تدوير موادها المتفجرة لاستخدامها في عبوات ناسفة.
إعلانولفت إلى أن حماس وسرايا القدس توظف هذه المتفجرات في بعدين: الأول عبر استخدام مباشر لبعض القذائف لتفجيرها في قوات الاحتلال، والثاني -وهو الأكثر شيوعا- من خلال استخراج المواد المتفجرة لاستخدامها في تجهيز العبوات والكمائن بدقة فنية عالية.
وشدد على أن هذه القدرات التي تُبديها المقاومة اليوم ليست محض مصادفة، بل نتيجة تراكم خبرات وتطوير تقنيات القتال تحت الحصار، بما يشمل تصنيع العبوات، واستخدام أساليب الرصد والتوثيق والتخفي، وتوظيف الأدوات البسيطة لإنشاء بنية قتالية فعالة ومنظمة.
وقال إن نمط القتال الذي تتبعه المقاومة بات يرتكز على تنفيذ كمائن محكمة، واستهداف الجنود عبر القنص أو تفجير المنازل أو الحشوات المتفجرة، مضيفا أن هذه الإستراتيجيات تعكس تغيرا نوعيا في أسلوب العمل المقاوم مقارنة ببداية الحرب.
ورأى الدويري أن استمرار المقاومة في تنفيذ عمليات نوعية رغم الجسر الجوي الأميركي الداعم لإسرائيل يمثل مفارقة لافتة، معتبرا أن حجم التسليح والدعم اللوجستي للجيش الإسرائيلي لا يُترجم إلى تفوق ميداني حقيقي، في مقابل أداء فصائل المقاومة التي وصفها بـ"الخارقة للعادة".