سُــفراءٌ أفارقـة ضــدّ أنظــمـة انقـلابـيــة

جمال محمد إبراهيم

(1)

جاء في الأنباء أن منفذي الانقلاب العسكري في النيجر أصدروا قراراً في الثالث من أغسطس 2023م، بإنـهاء مهمّات سـفراء النيجـر المعنمدين في كلٍّ من فرنسا والولايات المتحدة وتوجو ونيجيريا، في وقت تتصاعد فيه الضغوط الدولية والإقليمية من أجل عودة النظام الدستوري إلى البلاد.

ليستْ هذه هي الحالة الأولى التي تنهى فيها مهمات سفراء معتمدين من طرف انقلابيين ينقلبون على نظـام الحكم القائم بليـل. إذ في حالة الســـودان، وبعد وقـوع انقــلاب الجـنــرال البرهان في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2021م، على حكــومة اختيــرت وفـق اتفاق وطـني انتقــالي، وبموافقته كرئيس يمثل سـيادة الدولة، بصفة مؤقتة، إثر ثورة شــعبية أطاحت بحكـم الطاغية البشير عام 2019، فاجأ الجنـرال بالتنصل من مقررات ذلك الاتفاق الدستوري وأنهى حكومة انتقالية فانتفض الشارع السوداني ضده. لمّا وقف عدد من السفراء المهنيين ضد تلـك الخطوة الانقلابية، قرر إنهاء مهمات عدد من السفراء السودانيين في الخارج. ممن عارضـوا انقلابه على الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية والتي كانت تعـدّ لإدارة فترة انتقالية في البلاد، تعقبها انتخابات قومية تجري وفق دستور وطني مؤقت يرسي دعـائم حكــم ديمقــراطي راسخ.

بدا لكثيرٍ من المتابعين للأوضاع في القارة الأفريقية مؤخراً، أنّ معاملة السفراء- خاصة المهنيين منهم وليس الذين يجري تعيينهم ســياسـياً- على هذا النحـو، هي من الظواهــر التي اسـتجدتْ بصورة لافتة إثر كلّ انقلاب في نظام الحكم في دول تلك القارة.

(2)

يمثل السـفراء دولهم بما يتفق مع الضوابط والقواعد نصّت عليها الاتفاقيات الدبلوماسية والقنصلية المعتمــدة، وهم من تبعث بهم دولهم وفق اجراءات وتقاليد مرعية وفق تلك الضوابط ويتمّ عـبرها تحــديـد صــلاحيـات وامتـيــازات البعـثــات الدبلـوماســية التي تمكِّـن أولــئــك السّــفراء والدبلوماسيين من أداء وظائفهم دون خوف من إكـراه أو مضــايقات، كما تبيّن كيفية انهاء مهامهم الدبلوماسية. ويجــوزلـلـدولة الموفدة أن تنهي مهمة سفرائها وفق المادة 43 من اتفاقية فيينا المشار إليها، بما لا يسيء سـلبا على علاقات التمثيل الدبلوماسي المتبادل..

لعلّ المعروف أن اتفاقـية فيينا للعلاقات الدبلوماسية السارية منذ عام 1961م، هي التي تشـير إلى أن الســفراء ترشـحهم دولهم. غير أن الملاحظ أن تلك الاتفاقــية لم تورد تعريفاً مفصلاً إن كانت لرئاسة الدولة حصراً، أم للحكومة الشــرعية القائمة كجهـة تنفــيـذية، أو من يمثلهـما معاً، صلاحيات ترشـيـح الســفير ليعتمد في الدولة التي يبتعث إليها، أو إنهاء مهمــته. غـيـاب ذلــك التفصيل، هو الذي فـتح باباً لـتساؤلٍ مشروع، وأثار حــالات من الالتباس حول الجهـة التي ترشح السفير أو تنهي مهمته، والأسلوب الذي يتبع في كلا الحالتين، وهـو ما قد شكّل هاجسـاً لسـفراء بعض البلدان التي تقع فـيها تغييرات في حكوماتهم عن طريق انقلابات العسكرية لا تكتسب حسب نظرهم، الشرعية اللازمة.

(3)

كما هو الحال الذي ساد في السنوات الأخيرة في عـدد من البلدان الأفريقية، ومنها حالة الانقلاب في السودان، فقد صارت رئاسة البلاد بيد قائد الجيش كأمرٍ واقع. ولقد قــدّر الجنـرال قائد الجيش أنه يملك صلاحية إدارة كل الأحوال في البلاد، بما في ذلك صلاحية ترشيح وإعفاء السفراء، فأعلن عبر أجهزة الإعــلام- وليس وفق ما نصّت عليه الاتفاقية الدولية- إنهاء مهام بعض ســفراء بلاده ممّـن عارضـوا انقلابه على حكومة انتقالية جاءت بها ترتيات دستورية مؤقـتة، توافقت في نظرهم عليها، تلك المكوّنات المدنـيـة والعسكرية التي أسـقطت حكومــة شمولية اسنبدادية سيطرت على السودان وعزلته دوليا لقرابة ثلاثة عقود. كان طبـيـعياً أن لا يقبل أولئك السفراء، قراراً بإعفائهم من قائد الجيش الذي لا يملك مسـوّغاً شرعياً أو دستوريا يخوله إصدار ذلك القرار. خلق ذلــك الوضع الدبلوماسي الشـاذ، حالة من الارتباك ، استمرّت لشهور طوال، تجلى في تعامل بعض البلــدان- وأيضاً تعامل المنظـمة الأممـية- مع الوضع الانقلابي القائم في السودان..

(4)

يقع الانقلاب العسكري في النيجر، وكأن عدوى الانقلابات لا تعرف حدودا في الغرب الأفريقي. بادر الاتحاد الأفريقي بامهال الانقلابيين أسبوعين لإعادة الأوضاع الدستورية التي كانت سائدة قبل وقوع الانقلاب، وإنْ لم يستجب أن يتم تجميد عضوية النيجــر في الاتحــاد الأفريقي. حذت مجموعة اللجنة الاقتصادية لغرب أفريقيا: “الإيكواس” حذو الاتحاد الأفريقي، بل وهددت بعد اجتماعها الطارئ، أن تنظر في قرار بتدخل عسكري يعـيـد الأوضاع في النيجر إلى ما كانت عليه قبل الانقلاب الغسكري.

ثم يفاجيء الانقلابيون بعض سفراء بلادهم في الخارج بإعلان إعفائهم وإنهاء مهامهم، على ذات النحو الذي أنهى به العسكريون في السودان بعض سفراء السودان في الخارج، وهو ما بات يعدّ تجاوزا لافتا في ضوابط وتقاليد العلاقات الدبلوماسية الثنائية والجماعية..

تحدث مثل هذه القرارات المتسرعة بإعفاء السفراء، حالة من الارتباك فيما يتصل بضبط العلاقات الدبلوماسية، على المستويين الثنائي والجماعي. لا تملك منظمة إقليمية مثل الاتحاد الأفريقي، غير أن تجنح لتجميد عضوية الدولة العضو التي يقع فيها انقلاب عسكري على الحكومة الشرعية القائمة.

(5)

بالنسبة لهيئة الأمم المتحــدة، وفيما يتصل بحـالات انقلابات عسكرية في بعض بلدان، ويقرر الانقلابيون إعفاء بعض سفراء بلادهم في الخارج ممن عارض انقلابهم فإنه لا يوجد نص قاطع بشأن رد الفعل، برغم أن الانقلابات العسكرية شكلت ظاهرة تواصلت منذ سنوات الخرب الباردة، أواسط القرن الماضي. وقد لا يتجاوز رد الفعل على مثل هذه القرارات غير إدانات إعلاميـة خجولة، تصدر عن قيادة تلــك المنظمة، ســواءً من الأميـن الـعـام أو من مجلــس الأمن

تمثل حالتا ميانمـار وأفعانستان، مثلين يثيران الجدل لاضطراب اعــتماد ممثلـيهم الدبلوماسيين في المنظمة الأممية، فتجد لجـنـة قـبـول الترشيحات في الأمـانة العامة للمنظــمة الدوليــة، عسراً في حسم الجدل.

أما في حالة انقلاب السودان وإعلان قائد الجيش إعفاء بعض من عـارضوا انقــلابه من سفراء البلاد في الخارج، حتى قبل أن يخطر الدول المعتمدين لديها رسميا بذلــك، فإن اعـتمـاد ســـفـيرٍ/ مــنــدوب دائـــم للسـودان في نيويورك، وســفيرٍ/ مندوب دائـــم في مقــر المنظمة الأممية في جنيف، فقد مثلت حالة استــثنائية، بسبب وقــوع انقلاب لم يتغـيّـر فيه رأس النظام في الخرطــوم. إلى ذلـك لم تجد المنظــمة الدوليــة حـرجـاً في اعتماد وجـهــة النظر القانونية للجنة القبول، التي استندت على حجة تفـيـد أن تعيـيـن ممثل للســـودان في نيويورك، أو ممثل السودان في مقر الأمم المتحدة الثاني في جنــيـف، جاء كتصرّف داخــلي مـن قيادة سـلطة الأمر الواقع القائمــة في الخرطوم، ورأت أن لا غـبار علـيه. ورغم ذلك يظل الجدل يحيط بالموضوع.

(6)

غير أنَّ حالة سُـفراء النيجـر الذين أنهى الانقلاب العسكري مهامهم أوائل أغسطس/ آب الحالي، فهم عارضوا انقلاباً أزاح رأس السلطة الشرعية المنتخب ديمقراطياً في بلادهم، فذلك قـد يرجّـح قبول الدول التي جـرى اعتمادهم فيها، خاصة تلـك التي أدانت ذلك الانقــلاب في الاستمرار في أداء مهامهم، دون الالتفات لقرار الانقلابيين، وذلك في إطار الضغـط الجاري حالياً ليعــود العســكريون إلــى ثكناتـهـم، ليعــود الرئيس الشرعي للنـيجــر إلى الحكم مــن جديد. وفوق ذلك فإن إنهاء مهام السفراء دون التقيد بمقررات الاتفاقــيات الدولية التي تضبـط الممارسات الدبلوماســية التقليدية، يشجع بعض الدول لعدم اعتماد قــرار الانقلابيين المشــار إليه لما حمل من استخفافٍ باتفاقية فيينا للعـلاقات الدبلوماسية.

ثمّة وجهان في الأمر، أولهما سياسي والثاني أخلاقي. لربما يكون الخيــار للسفير أو الدبلوماسي الـــذي يعارض انقـلابا على نظام حكـمٍ شرعي قائـم في بلاده- حســب تقــديــره- أن يبادر بمغادرة مهمـته، كأن يطلب إعفاءه من مهمته، أو ربما يتقــدم باســتقالته للحكومة التي جـاءت عبر انقلابٍ لا يتوافق مع قناعاته السياسية. لكن أليس مطلوباً من ذلك السـفير أو الدبلوماسي، أن يمضي خطوة إلى الأمام ليعـلن موقفه الســياسي المعارض، وأن لا يكتــفي بمجرّد الاســتقالة، أو ربما تتسع خياراته في أقصى الحالات، فيتـبـنى موقفا سياسياً وأخلاقيا ويعلن إدانته الصريحــة لذلك الانقــلاب، بما قد يعـني انقطاعــه عن مهنـته الدبلوماســـية نهائيـاً..؟

(7)

لننظر في حالة أكثر وضوحاً وإبانة، وتتصل بالموقف البريطاني من الحرب ضد العــراق في عام 2003م. لقد لعبت الإدارة الأمريكية دوراً تحريضياً لاقناع المجتمع الدولي أن عراق صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل. وحدها بريطانيا التي سارع رئيس وزرائها ليساند المزاعم الأمريكية بقوة، وهي مزاعم ثبت خطلها.

كان لبعض ســفراء المملكة المتحدة، مواقـف لم تقبل بالحجج الواهيـة لإشــعال حـربٍ ضد العـــراق، بذريعــة امتلاك ذلـك النظــام لأســلحة دمــارٍ شــامل، كـمـا ادّعــت الإدارة الأمريكية. غير أن أولئك الســفراء البريطانيين لــم يفصحوا عن خطـل موقــف بلادهــم، إلا بعــد أن تقـاعــدوا عن مهـنـتهـم، فعلـتْ أصـــواتهم عالياً أثناء الحـرب، ولكن لم يشـكّل ذلـك حـرجـاً لحكومة رئيس الوزراء الأسـبق طوني بليـر القائمة وقتـذاك. لـم يأبه بليــر لاعتراضـاتهم، ولم يتخـذ أي إجـراءاً ضدهم، فهم سـفراء متقاعدون، لا ولاية له عليهم.

الحالة الأمريكية، كانت أشـدَّ غـرابة. ثمّة سـفير الأمريكي عمل في بلــد في غرب أفريقيا قبل تقاعده، كلفـته المخابرات الأمريكية بزيارة ذلـك البلد الأفريقي ، للتأكد من قيـام العراق باستيراد “الكيكة الصفراء”- اليورانيوم، من تلك الدولة. عاد السفير المتقاعد ليكذب القصة، غير أن الإدارة الأمريكية تجاهلت تقريره الرّصين، وأصرَّت على التمسك بالتهمة الملفـقة. لكن بعــد القضــاء على نظام صدام في العــراق، خرج السفير المتقاعد ليعلن وفي صحف أمريكية، بأن الأمر محض أكـذوبة.

شريط سينمائي خطير جاء من هوليوود، بعنوان “اللعـبة المموّهـة” بُنيـت حبكـتـه علـى تلك القصة، ولك أن تعلم أن ذلك البلد الأفريقي هو النيجـر- أجل النيجر الذي نقـف على قصة انقلابه الآن. لا نطيل السّـرد حول علاقات بعض السّــفراء ممثـلي بلدانهـم في الخارج بتوجهات حكوماتهم، وما يلاقونه من عنت في القيام بمهامهم الدبلوماسية على النحو المهني المرضي.

(8)

لعلَّ مثل هـذه الظواهـر، خاصة في التمثيل الدبلوماسي في المنظمــات الدولية والإقليمية، والتي تكرّر حدوثها في الحالات التي أشرنا إليها عاليه، قد تحيل المنظمات الدولـية والإقليميـة إلى ضرورة النظر مجدّداً في الحاجة الملحّـة لمراجعة بعض ضــوابط التمثيل الدبلوماسي على المستويين الثنائي والجماعي، وســد تلك الثغــرات بمـزيدٍ من إحكامٍ قانونيٍّ في بعض مـواد اتفاقية فـيـيـنا للعلاقات الدبلوماســية لعام 1961م، والتي تم توقيعها منذ عقــود خلتْ، مــن قبل الدول الأعضاء قي الأمـم المتحدة.

4 أغسطس 2023

الوسومأمريكا الأمم المتحدة الجنرال البرهان السفراء العلاقات الدبلوماسية النيجر انقلاب السودان بريطانيا جمال محمد إبراهيم طوني بلير

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: أمريكا الأمم المتحدة السفراء العلاقات الدبلوماسية النيجر انقلاب السودان بريطانيا جمال محمد إبراهيم قائد الجیش فی الخارج غیر أن

إقرأ أيضاً:

ما أهداف الحملة الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية ضد فنزويلا؟

أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرا عن غلق المجال الجوي فوق فنزويلا. جاء ذلك في رسالة تحذير نشرها على موقعه للتواصل الاجتماعي. وقد أثار هذا الفعل الكثير من التكهنات حول ما الذي سوف يحصل لاحقا، خاصة أن هناك حشودا عسكرية أمريكية بدأت في الكاريبي منذ أغسطس/ آب الماضي، حيث نشرت الولايات المتحدة قوات بحرية وجوية، بما في ذلك غواصة تعمل بالطاقة النووية، وحاملات طائرات، وسفن هجومية برمائية، وإنزال 15 ألف جندي قبالة السواحل الفنزولية. كما شهدت قواعدها في المنطقة نشر طائرات أف 35، وتغطية المجال الجوي بطائرات تجسس.

يُذكر أن واشنطن كانت قد نفذت ضربات جوية، على أكثر من 20 سفينة تابعة لفنزويلا في البحر الكاريبي والمحيط الهادئ في بداية سبتمبر/أيلول الماضي، قالت إنها تشتبه في تهريبها للمخدرات إلى أمريكا، لكن من دون تقديم أي دليل يؤكد هذه التهمة، وقد أسفر ذلك عن مقتل أكثر من 80 شخصا. لقد بينت الولايات المتحدة الأمريكية، أن الهدف من هذا الانتشار العسكري واسع النطاق، هو الحد من تهريب المخدرات والبشر إلى أراضيها.

في حين ذهبت بعض الأقوال إلى أن الهدف من الانتشار العسكري، هو الإطاحة بالرئيس الفنزولي نيكولاس مادورو والاستيلاء على بلاده، من خلال سيناريو يقوم على دفع بعض المعارضة الفنزولية للنزول الى الشارع، والمطالبة بتغيير السياسة المعادية للولايات المتحدة، والتعاون معها في وقف عمليات تهريب المخدرات، ثم إثارة الاضطرابات في داخل فنزويلا بشكل كبير، وصولا إلى إسقاط النظام السياسي بمساعدة واشنطن، ومن دون الدخول في حالة حرب. وتستند هذه الأقوال إلى بعض التصريحات الأمريكية، التي تعتبر أن فنزويلا تقوم بكل ما يزعج الولايات المتحدة، وأنها تموضعت بوضع معادٍ لواشنطن، ودخلت في أحلاف واتفاقات مع دول معادية للولايات المتحدة، ولا يظهر أي تغيير ملموس لهذا التوجه، وعليه فقد حان الوقت لمزيد من الضغط لدفع الشعب الفنزولي لإسقاط النظام.

إن تحليل السياسات الأمريكية في عهد الرئيس ترامب يُشير بوضوح، إلى أن جزءا كبيرا من تحركات البيت الأبيض، مرتبط بشخصية الرئيس نفسه، حيث إن قناعاته الشخصية تغلب على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، كما إن حاشيته يجارونه في ذلك، خاصة ماركو روبيو وزير خارجيته، فروبيو لديه فكر صقوري تجاه كل دول أمريكا اللاتينية، خاصة كوبا وفنزويلا، ويعتقد أنه لا بد من الضغط بشكل كبير جدا على هذه الدول، وعليه، حتى لو تم التعامل مع الإدعاءات الأمريكية بمنطقية، فسنجد أنها ليست مُقنعة بما فيه الكفاية. فتهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة يأتي بالدرجة الأولى من المكسيك وكولومبيا، اللتين هما من أكبر الموردين لهذه المادة، إذن لماذا يتم التركيز على فنزويلا؟

يبدو أن هناك عوامل جيوسياسية هي المُحرك للتوجه الترامبي ضد فنزويلا. فالولايات المتحدة الأمريكية اليوم منخرطة في حرب باردة مع الصين، وهذه الأخيرة لديها علاقات قوية مع فنزويلا، كما هناك ما يشبه التحالف الصيني الروسي في التعامل مع دول أمريكا اللاتينية، كذلك تأتي علاقة فنزويلا وإيران عاملا آخر، ولكن يبدو أن العامل الأهم في هذا التحرك الأمريكي ضد فنزويلا هو المعادن الثمينة. فترامب يرى أنه يجب الحصول على هذه المعادن أينما وُجدت، كي يتخلص من المساومة الصينية في هذا الجانب.

كذلك هناك نقطة مهمة تُفسر الضغوط الأمريكية على الكثير من الدول، وهي أن ترامب ومنذ ولايته الأولى تشكلت لديه قناعة، بأن الضغط إلى أقصى الحدود سوف يؤدي إلى تغيير سياسات الدول بما يتلاءم ومصالحه، وهذا يُجنبه اتخاذ قرار المواجهة العسكرية الذي لا يريده، وحتى لو اضطر للدخول في المواجهة العسكرية، فهو يحسب كيف ستكون ومتى ينتهي منها، كما حدث مع إيران مؤخرا. أما بالنسبة لفنزويلا فهو يعرف جيدا أن اللعبة العسكرية معها لن تكون سهلة على الإطلاق، فالحرب في هذه الساحة لن تكون حربا كلاسيكية، بل حرب عصابات ومادورو لديه أنصار داخل البلاد وفي محيطها، كما أن الجيش الفنزولي يؤيده بشكل كبير.
أفعال عنجهية تبين بوضوح كيف أن القوة قد تسيّدت على القانون الدولي
يقينا أن التحرك بهذا الشكل الضاغط على فنزويلا سيؤدي إلى حالة اضطراب داخل دول أمريكا اللاتينية، والكل سيفكر بأنه ربما سيكون الثاني أو الثالث بعد فنزويلا على أجندة ترامب الابتزازية، فالولايات المتحدة لا تخفي عداءها ضد هذه الدول، بل تعلن ذلك صراحة وبوضوح. وهي وأحزاب اليسار التي وصلت إلى سدة الحكم في دول أمريكا اللاتينية في حالة تنافر سياسي كبير، خاصة أن الولايات المتحدة تساند بعض اليمينيين الذين وصلوا للسلطة، مثل الرئيس الأرجنتيني السابق، الذي ضغطت الولايات المتحدة من أجل عدم محاكمته. بالتالي لا شك في أن هناك مخاوف من الأحزاب اليسارية أن تدخل في مواجهة مع الولايات المتحدة، فمنذ بداية التسعينيات وبعد نهاية الحرب الباردة، تغيرت السياسة الأمريكية من التدخل العسكري المباشر في هذه الدول، إلى المعارضة السياسية وسياسة أقصى الضغوط. وهذه السياسة سمحت للكثير من الأحزاب اليسارية في أمريكا اللاتينية بالوصول إلى السلطة، مثل البرازيل والأرجنتين وكولومبيا وغيرها.

كما أنها جعلت منها أحزابا فاعلة في الحياة السياسية، وصوتها عاليا في معاداة واشنطن، لكن من دون أن تدفع تلك الضريبة التي كانت تدفعها في السبعينيات، حيث كانت الولايات المتحدة تتدخل في هذه الدول وتغير أنظمتها السياسية كما تشاء وكيفما تشاء.

إن إعطاء رئيس أكبر دولة في العالم وأعظم قوة عسكرية، الحق لنفسه بإغلاق المجال الجوي لدولة أخرى، ومحاصرتها من كل الجوانب بالقوة العسكرية، ليس له أي أساس قانوني يمكن الاستناد إليه، بل هي أفعال عنجهية تبين بوضوح كيف أن القوة قد تسيّدت على القانون الدولي في الوقت الحاضر.

فمنظمة مكافحة المُخدرات سبق وقالت في تقارير أمريكية، إن فنزويلا خالية من زراعة المخدرات. وعليه يتضح بأن السيطرة على الثروات باتت هي الشغل الشاغل لساكن البيت الأبيض، خاصة أن النفط والمعادن الثمينة والذهب، الذي مخزونه في فنزويلا، يحتل أهمية أكبر من النفط، كلها موجودة في هذه الدولة. وإذا كان هنالك من يؤيد ترامب من حاشيته، فإنه أيضا يواجه معارضة أمريكية لهذه السياسة تجاه فنزويلا. فقد قال زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ الأمريكي تشاك شومر، إن تصرفات الرئيس المتهورة تدفع أمريكا نحو حرب خارجية مُكلفة مرة أخرى. كما تعرّض لانتقادات بسبب التدخل السياسي في هندوراس. لكن يبدو أن عقلية التاجر تسيطر عليه تماما.

القدس العربي

مقالات مشابهة

  • إسقاط 31 طائرة مسيرة أوكرانية كانت تحلق باتجاه موسكو
  • روسيا: أنظمة الدفاع الجوي في موسكو تعترض 15 طائرة مسيرة قادمة من أوكرانيا
  • رئيس جهاز العلمين الجديدة يتفقد أعمال التنفيذ بالأبراج الشاطئية
  • تحالف مصري تركي يربك إسرائيل.. القاهرة تنضم لمشروع المقاتلة الشبحية
  • إل جي تكشف عن جيل جديد من أنظمة القيادة الذكية
  • ليبيا تحتل المرتبة الثالثة عربيًا في ترتيب الدول التي يعاني مواطنيها من الاكتئاب
  • ما أهداف الحملة الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية ضد فنزويلا؟
  • الدفاع المدني: عدم صيانة أنظمة الحماية من الحريق مخالفة توجب العقوبة
  • مشروع أممي- سعودي بقيمة 3.5 مليون دولار لتعزيز أنظمة المياه شرقي السودان
  • الجيش المصري يكشف عن رداء خفي!