بقلم: عمر سيد احمد
مارس 2025

[email protected]

المقدمة

يُعتبر النظام المصرفي ركيزة أساسية لأي اقتصاد، حيث يسهم في تحفيز النمو، تنظيم العمليات المالية، وتوفير التمويل اللازم للأفراد والشركات.
في السودان، شهد القطاع المصرفي تطورات كبيرة منذ نشأته، متأثرًا بعوامل متعددة، أبرزها التغيرات السياسية، التقلبات الاقتصادية، والإصلاحات الهيكلية.



وخلال العامين الماضيين، تعرض القطاع المصرفي لأزمات حادة بسبب الحرب التي اندلعت في أبريل 2023، مما أدى إلى تدمير البنية التحتية للمؤسسات المالية، وتوقف عدد كبير من الفروع عن العمل. كما تراجع الشمول المالي، وفقد العملاء ثقتهم في المصارف، ما أدى إلى انهيار جزئي في العمليات المصرفية.

يستعرض هذا التقرير تطور النظام المصرفي السوداني، هيكليته الحالية، مدى التزامه بالمعايير الدولية، تأثير الحرب عليه، وأهم الأولويات لإصلاحه بعد الأزمة، بما في ذلك ضرورة التحول الرقمي، الالتزام بالحوكمة، ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

نشأة وتطور النظام المصرفي السوداني:
بدأ النظام المصرفي في السودان في أوائل القرن العشرين مع دخول البنوك الأجنبية، حيث أُنشئ فرع للبنك الأهلي المصري عام 1903، تلاه بنك باركليز عام 1913، بالإضافة إلى فروع لبنوك أخرى مثل بنك مصر والبنك الإثيوبي والكريديت ليونيه.

في عام 1959، تأسس بنك السودان المركزي ليكون الجهة المنظمة للقطاع المصرفي، والمسؤول عن إصدار العملة وإدارة الاحتياطي النقدي. بعد الاستقلال، شهد القطاع تطورات كبيرة، حيث تم تأميم بعض البنوك الأجنبية، وإنشاء مصارف حكومية وخاصة لدعم الاقتصاد الوطني.
في عام 1978، تم تأسيس بنك فيصل الإسلامي، مما أدخل النظام المصرفي الإسلامي إلى السودان. وفي عام 1983، بدأت الحكومة تطبيق أسلمة المصارف، ومع حلول 1990، أصبح النظام المصرفي السوداني إسلاميًا بالكامل، مما أدى إلى تحول المعاملات البنكية إلى صيغ التمويل الإسلامية مثل المرابحة والمضاربة، وغيرها بديلا لصيغ الاستدانة التمويل المرنة والمعروفة عالميا مثل السحب علي المكشوف والقروض بكل اشكالها وقد فرض تطبيق النظام الإسلامي تحديات في التعامل مع الأسواق المالية العالمية وتسبب مع أسباب اخري في ضعف النظام المصرفي الهش وعزلة من التعامل مع النظام المصرفي العالمي .
هيكلة وملكية المصارف في السودان حتى عام 2023، كان يوجد في السودان 39 بنكًا، تتوزع على النحو التالي:
- 15 بنكًا حكوميًا أو بشراكات حكومية.
- 24 بنكًا خاصًا تجاريًا بعضها فروع لبنوك إقليمية خارجية .

تخضع المصارف السودانية لإشراف بنك السودان المركزي، الذي يمنح الترخيص ويحدد السياسات النقدية ويصدر التوجيهات للبنوك التجارية ويراقب البنوك الي جانب دوره كمقرض اخيرر.
إلا أن عدم استقلالية البنك المركزي يجعله عرضة للتدخلات السياسية، مما يحد من فاعليته في الرقابة المالية، ويؤدي إلى ضعف الشفافية وغياب السياسات المستقرة التي تعزز ثقة المتعاملين مع البنوك والمستثمرين.
عدم التزام البنوك السودانية بمقررات لجنة بازل :تواجه المصارف السودانية صعوبات في الامتثال لمقررات لجنة بازل الخاصة بكفاية رأس المال، والتي تتطلب أن تحتفظ البنوك بنسبة 8%-12% من رأس المال مقارنة بالأصول الخطرة.

أبرز التحديات التي تمنع الالتزام بهذه المعايير:
1. انخفاض قيمة العملة الوطنية، مما أدى إلى تآكل رؤوس أموال البنوك.
2. أثر الحرب على القطاع المصرفي، حيث تعرضت البنوك لخسائر كبيرة وفقدت نسبة كبيرة من أصولها.
3. ضعف دور بنك السودان المركزي بسبب التدخلات السياسية، مما أضعف الرقابة المصرفية وتسبب في عدم استقرار السياسات النقدية.
دور الاقتصاد الموازي في ضعف النظام المصرفي السوداني
يُعد الاقتصاد الموازي من أكبر التحديات التي تواجه النظام المصرفي السوداني، حيث يسيطر على جزء كبير من النشاط الاقتصادي يقدر ب85 % من الاقتصاد الكلي مما يؤدي إلى ضعف دور المصارف في التمويل، وانخفاض نسبة الأموال المتداولة داخل النظام المصرفي الرسمي.
إن الحد من سيطرة الاقتصاد الموازي على النشاط المالي في السودان يمثل خطوة ضرورية لاستعادة دور النظام المصرفي، وزيادة فاعلية السياسات النقدية، وضمان استقرار الاقتصاد الوطني.
تشير التقديرات إلى أن 95% من الكتلة النقدية في السودان توجد خارج النظام المصرفي، مما يعني أن المصارف لا تتحكم إلا في 5% فقط من النقد المتداول. ويعود ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها:
1. هيمنة الاقتصاد غير الرسمي:في ظل نظام الإنقاذ والعزلة المصرفية والاقتصادية التي ظل يعاني منها السودان بسبب المقاطعة الاقتصادية الأمريكية تمدد الاقتصاد الموازي الذي تتحكم فيه أجهزة الدولة النظامية وغيرها من الطبقة الطفيلية للحزب الحاكم واعتماد شريحة واسعة من السودانيين على الأنشطة غير المنظمة، مما يقلل من اعتمادهم على المصارف في التعاملات المالية وعجز وزارة المالية والدولة عن أداء دورها في وضع الجزء الأكبر من الاقتصاد تحت ولايتها كما ينبغي .
2. مشكلة الديون المتعثرة بسبب الحرب :
أدت الحرب إلى ارتفاع نسبة الديون المتعثرة في المصارف السودانية إلى مستويات غير مسبوقة، حيث تشير التقديرات إلى أن %50 من القروض والتمويلات المصرفية أصبحت غير مستردة بسبب تعطل الأنشطة الاقتصادية وتدمير العديد من المنشآت التجارية والصناعية. و يجب على الدولة التدخل لتخفيف هذه الأزمة عبر تبني حلول مماثلة لما قامت به دول أخرى في أوقات الأزمات، مثل:-

1. منحالبنوك المتضررة قروضًا مدعومة من الحكومة لمساعدتها على استعادة سيولتها.
2. إنشاء صندوق لإعادة هيكلة الديون المتعثرة، بحيث يتم جدولة السداد لفترات أطول بفوائد/ بعوائد مخفضة
3. تقديم ضمانات حكومية للبنوك لمساعدتها في استعادة ثقة المستثمرين والعملا
4. تحفيز الشركات المتضررة على إعادة جدولة قروضها عبر تقديم إعفاءات ضريبية أو دعم مالي لتخفيف الأعباء
5. تبني حلول شاملة لإعادة بناء القطاع الخاص المتضرر، مما سيسهم في استعادة قدرة الشركات على الوفاء بالتزاماتها المصرفية.
3 .ضعف التعامل والثقة مع القطاع المصرفي نتيجة الأزمات الاقتصادية والسياسية ، يلجأ المواطنون إلى الاحتفاظ بالنقد خارج البنوك لتجنب مخاطر التقلبات الاقتصادية.
4. تأثير العقوبات الاقتصادية السابقة: أدت العقوبات المالية إلى عزلة القطاع المصرفي، مما دفع الأفراد والشركات إلى التعامل بالنقد المباشر أو عبر شبكات مالية غير رسمية وتحول الجزء الأعظم من التجارة الخارجية ليدار من مدن الخليج وأسواق تجارة العملة الرائجة وقد تم تقنين هذه الممارسات بسماح ضوابط البنك المركزي بالاستيراد بدون تحويل عمله والممارسات الفاسدة في عمليات الصادرات السودانية في ظل اقتصاد الريع وتصدير وتهريب السلع والمنتجات والمحاصيل النقدية السودانية خاما بلا أي قيمة مضافة بالتصنيع والتي لا تعود عائداتها الي داخل السودان .
5 . غياب الحوافز للإيداع المصرفي: لا توفر البنوك حوافز كافية للمواطنين لإيداع أموالهم، بسبب ارتفاع تكاليف الخدمات المصرفية وضعف العائد على الودائع وعدم منح اية عوايد علي ارصدة الحسابات الجارية وفق النظام المصرفي الإسلامي مما ضاعف في ضعف الشمول المالي حيث يعد السودان من أضعفها .

6.انعكاسات ضعف الشمول المالي على الاقتصاد
- انخفاض قدرة المصارف على تقديم التموي: بسبب قلة الأموال المودعة، تعجز المصارف عن تمويل المشروعات الإنتاجية.
- زيادة معدلات التضخم*: يؤدي تداول النقد خارج النظام المصرفي إلى ضعف قدرة البنك المركزي على التحكم في المعروض النقدي، مما يزيد التضخم.
- ضعف دور السياسة النقدية*: مع تحكم الاقتصاد الموازي في الجزء الأكبر من النقد، يصبح تأثير قرارات البنك المركزي محدودًا.
- صعوبة تنفيذ الإصلاحات المال: أي محاولات لتطبيق سياسات نقدية تواجه عقبات كبيرة بسبب سيطرة الاقتصاد الموازي على الكتلة النقدية.
أولويات إصلاح القطاع المصرفي بعد الحرب
1.التحول الرقمي في الخدمات المصرفية
- تطوير الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول لتعويض تراجع الفروع المصرفية.
- تعزيز أنظمة الدفع الإلكتروني لتسهيل التحويلات وتقليل مخاطر التعامل النقدي.
- تحديث الأنظمة المصرفية الرقمية لمواكبة التطورات العالمية وتعزيز كفاءة العمليات المالية.
2. الالتزام بالحوكمة ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لإعادة اندماج الجهاز المصرفي في المنظومة المصرفية الدولية .
- فرض لوائح صارمة للحوكمة والشفافية للحد من التدخلات السياسية في قرارات المصارف.
- تطبيق إجراءات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بما يتماشى مع المعايير الدولية.
- تعزيز الرقابة المصرفية لضمان الامتثال للقوانين الدولية واستعادة ثقة المستثمرين.

3. تعزيز الشمول المالي
- إطلاق برامج لزيادة الوعي المالي وتشجيع المواطنين على فتح حسابات مصرفية.
- خفض تكاليف الخدمات المصرفية لجذب الفئات غير المشمولة مصرفيًا.
- توسيع الخدمات المالية الرقمية للوصول إلى المناطق الريفية والنائية بالتوسع بالخدمات والتطبيقات المصرفية الرقمية في التحويلات
الحلول المطلوبة
1. تحفيز المواطنين على التعامل مع البنوك عبر تقديم مزايا مثل تخفيض الرسوم المصرفية، وزيادة العوائد على الودائع.
2. توسيع نطاق الشمول المالي عبر الخدمات المصرفية الرقمية، وتسهيل إجراءات فتح الحسابات البنكية، خاصة في المناطق الريفية.
3. محاربة الأنشطة غير المشروع التي تعتمد على التعامل النقدي خارج النظام المصرفي، مثل تجارة السوق السوداء والتهريب.
4. إعادة هيكلة السياسات النقدية لضبط الكتلة النقدية، وإجبار الشركات الكبرى على التعامل عبر المصارف بدلًا من النقد المباشر.
5. تطوير آليات الدفع الإلكتروني ليكون بديلًا أكثر أمانًا وفعالية من التعاملات النقدية التقليدية.
6. إعادة العمل بالنظام المصرفي التقليدي بالسماح للبنوك بتطبيق نظام النافذتين وتغيير القوانين التي تمنع من إعادة تطبيق سعر الفائدة كأحد الأدوات الاقتصادية المهمة في التحكم في السيولة للتحكم في التضخم .

4. إعادة هيكلة القطاع المصرفي
- إصلاح بنك السودان المركزي لضمان استقلاليته وتعزيز دوره الرقابي.
-إصلاح الجهاز المصرفي برفع رؤوس أموال المصارف خلال فترة لا تتجاوز ثلاثة أعوام بما يحقق الالتزام بتطبيق المعايير الدولية للحد الادني لكفاءة راس المال ( مقررات لجنة بازل )
- إعادة رسملة البنوك المتضررة وجذب استثمارات لدعم استقرارها المالي.
- دمج وإصلاح البنوك الضعيفة لإنشاء مؤسسات مالية أكثر قوة وكفاءة.
الخاتمة
يواجه القطاع المصرفي السوداني تحديات غير مسبوقة بسبب الحرب، ضعف البنية التحتية المالية، وانخفاض كفاية رأس المال.
لكن مع الإصلاحات الصحيحة، يمكن إعادة بناء قطاع مصرفي أكثر استدامة وكفاءة.

**التوصيات الأساسية:**
1. تسريع التحول الرقمي لتوسيع نطاق الخدمات المصرفية وإدخال أنظمة التحويلات المالية الرقمية مثل M-Pesa و Wave والاستفادة من النسبة العالية لمستخدمي الموبيلات ( يقدر ب74 % من السكان )
2. تعزيز الشفافية والحوكمة لضمان بيئة مصرفية مستقرة.
3. إصلاح السياسات النقدية لتعزيز استقرار العملة المحلية وزيادة ثقة المستثمرين.
4. تقديم حوافز لجذب الاستثمارات الأجنبية وتطوير الشراكات مع المؤسسات المالية العالمية.
5. إعادة هيكلة بنك السودان المركزي ليعمل كمؤسسة مستقلة ذات سياسات نقدية فعالة.

إن تنفيذ هذه الإصلاحات سيمكن السودان من إعادة بناء وإصلاح نظام مصرفي حديث قادر على دعم الاقتصاد الوطني، وتعزيز الثقة المحلية والدولية في القطاع المالي.

المراجع:
• البنك الدولي (2023). تقرير التنمية المالية في السودان.
• الهيئة العامة للإحصاء (2022). البيانات الاقتصادية والمصرفية.
• تقرير البنك المركزي السوداني حول أداء القطاع المصرفي (2023).
• دراسات حول الشمول المالي والاقتصاد الموازي في السودان - المراكز البحثية المحلية والدولية.
• Sudantransparency.org: آثار الحرب على النظام المصرفي السوداني.
• Mohsin Mergni Blogspot: تاريخ النظام المصرفي في السودان.
• Addustour.com: تطورات النظام المصرفي السوداني وتعاظم البنوك الإسلامية

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: بنک السودان المرکزی السیاسات النقدیة الاقتصاد الموازی الخدمات المصرفیة القطاع المصرفی البنک المرکزی الشمول المالی إعادة هیکلة فی السودان أدى إلى

إقرأ أيضاً:

الحرب الإسرائيلية الإيرانية القادمة.. هذا موعدها ومساراتها

نشرت مجلة" فورين بوليسي" مقالا لنائب الرئيس التنفيذي لمعهد كوينسي للحوكمة الرشيدة، تريتا بارسي، تناول الحرب "القادمة" بين إيران وإسرائيل.

وقال بارسي، إن من المرجح أن تشن إسرائيل حربا أخرى على إيران قبل كانون الأول/ ديسمبر - وربما حتى أواخر آب/ أغسطس.

وأضاف، إن إيران تتوقع الهجوم وتستعد له، فلقد انتهجت استراتيجية طويلة المدى في الحرب الأولى، حيث رتّبت هجماتها الصاروخية بما يتوافق مع توقعها لصراع طويل الأمد.

أما في الجولة التالية، فمن المرجح أن تشن إيران هجوما حاسما منذ البداية، بهدف تبديد أي فكرة بإمكانية إخضاعها تحت الهيمنة العسكرية الإسرائيلية.

وأوضح، أنه من المرجح أن تكون الحرب القادمة أكثر دموية بكثير من الأولى. إذا رضخ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للضغوط الإسرائيلية مرة أخرى وانضم إلى القتال، فقد تواجه الولايات المتحدة حربا شاملة مع إيران، مما سيجعل العراق يبدو سهلا بالمقارنة.

ولم تكن حرب إسرائيل في حزيران/ يونيو تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني فحسب، بل كانت تتعلق بتغيير ميزان القوى في الشرق الأوسط، حيث تُعدّ القدرات النووية الإيرانية عاملا مهما ولكنه ليس حاسما.

وتابع، "لأكثر من عقدين، دفعت إسرائيل الولايات المتحدة إلى اتخاذ إجراء عسكري ضد إيران لإضعافها واستعادة توازن إقليمي إيجابي - وهو ما لا تستطيع إسرائيل تحقيقه بمفردها".

وفي هذا السياق، كان لضربات إسرائيل ثلاثة أهداف رئيسية تتجاوز إضعاف البنية التحتية النووية الإيرانية.

وسعت إلى جر الولايات المتحدة إلى صراع عسكري مباشر مع إيران، وإضعاف النظام الإيراني، وتحويل البلاد إلى سوريا أو لبنان أخرى - دول يمكن لإسرائيل قصفها دون عقاب ودون أي تدخل أمريكي بحسب الكاتب.

وأوضح بارسي، أنه "لم يتحقق سوى هدف واحد من الأهداف الثلاثة. علاوة على ذلك، لم يقضِ ترامب على البرنامج النووي الإيراني، ولم يُعاد إلى نقطة يُمكن اعتبار القضية فيها محلولة".

وبعبارة أخرى، حققت إسرائيل بهجماتها في حزيران/ يونيو نصرا جزئيا في أحسن الأحوال. كانت النتيجة المفضلة لإسرائيل هي أن ينجر ترامب إلى التدخل الكامل، واستهداف القوات التقليدية الإيرانية والبنية التحتية الاقتصادية.

وأردف، "بينما يُفضل ترامب العمل العسكري السريع والحاسم، فإنه يخشى حربا شاملة. وهكذا، صُممت استراتيجيته في مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية للحد من التصعيد بدلا من توسيعه".

وعلى المدى القصير، نجح ترامب ما أثار استياء إسرائيل ولكن على المدى البعيد، سمح لإسرائيل بحصره في دائرة تصعيدية، وكان رفضه التصعيد إلى ما هو أبعد من حملة قصف محدودة سببا رئيسيا لموافقة إسرائيل على وقف إطلاق النار.

ومع استمرار الحرب، تكبدت إسرائيل خسائر فادحة: تدهورت دفاعاتها الجوية، وأصبحت إيران أكثر فعالية في اختراقها بصواريخها، وبينما كان من المرجح أن تواصل إسرائيل الصراع لو التزمت الولايات المتحدة التزاما كاملا، تغيرت الحسابات بمجرد أن اتضح أن ضربات ترامب كانت لمرة واحدة فيما نجحت إسرائيل في جر ترامب والولايات المتحدة إلى الحرب، لكنها فشلت في إبقائهما هناك.

ومع ذلك، كان الهدفان الآخران لإسرائيل إخفاقات واضحة. فعلى الرغم من النجاحات الاستخباراتية المبكرة - مثل قتل 30 من كبار القادة و19 عالما نوويا - إلا أنها لم تتمكن إلا من تعطيل القيادة والسيطرة الإيرانية مؤقتا. ف

وي غضون 18 ساعة، استبدلت إيران معظم هؤلاء القادة، إن لم يكن جميعهم، وأطلقت وابلا صاروخيا كثيفا، مُظهرة قدرتها على استيعاب خسائر فادحة وشن هجوم مضاد شرس.

ووفق الكاتب، فقد أمِلت إسرائيل أن تُثير ضرباتها الأولية الذعر داخل النظام الإيراني وتُعجّل بانهياره.

ووفقا لصحيفة واشنطن بوست، اتصل عملاء الموساد، الذين يجيدون اللغة الفارسية، بكبار المسؤولين الإيرانيين على هواتفهم المحمولة، مُهددين بقتلهم وعائلاتهم ما لم يُصوّروا مقاطع فيديو تُدين النظام وتنشق عنه علنا.

وأُجريت أكثر من 20 مكالمة من هذا القبيل في الساعات الأولى من الحرب، عندما كانت النخبة الحاكمة في إيران لا تزال في حالة صدمة وتعاني من خسائر فادحة، ومع ذلك، لا يوجد دليل على استسلام أي جنرال إيراني للتهديدات، وظل تماسك النظام سليما.

وعلى عكس توقعات إسرائيل، لم يُؤدِّ مقتل كبار القادة من الحرس الثوري الإسلامي إلى احتجاجات جماهيرية أو انتفاضة ضد الجمهورية الإسلامية، وبدلا من ذلك، احتشد الإيرانيون من جميع الأطياف السياسية حول العلم، إن لم يكن حول النظام نفسه، مع تصاعد موجة القومية في جميع أنحاء البلاد.

وقال بارسي، إن إسرائيل لم تستطع استغلال عدم شعبية النظام الإيراني على نطاق واسع. فبعد ما يقرب من عامين من ارتكاب الفظائع في غزة وشن هجوم مخادع على إيران وسط المفاوضات النووية، لم ينظر إلى إسرائيل سوى شريحة صغيرة من الإيرانيين - معظمهم في الشتات – بإيجابية.



في الواقع، بدلا من حشد الشعب ضد النظام، تمكنت إسرائيل من إحياء خطاب الجمهورية الإسلامية، وبدلا من إدانة النظام لاستثماره في برنامج نووي وصواريخ وشبكة من الجهات الفاعلة غير الحكومية المتحالفة معه، يشعر العديد من الإيرانيين الآن بالغضب لأن عناصر الردع الإيرانية هذه أثبتت عدم كفايتها وفقا لكاتب المقال.

وقال فنان في طهران لنرجس باجوغلي، الأستاذة في جامعة جونز هوبكنز:  "كنتُ من الذين يهتفون خلال الاحتجاجات ضد إرسال الأموال الإيرانية إلى لبنان أو فلسطين، ولكنني الآن أدرك أن القنابل التي نواجهها جميعا واحدة، وإذا لم تكن لدينا دفاعات قوية في جميع أنحاء المنطقة، فإن الحرب ستأتي إلينا".

وليس من الواضح ما إذا كان هذا التحول سيستمر. ولكن على المدى القصير، يبدو أن هجمات إسرائيل قد عززت، على نحو متناقض، النظام الإيراني - إذ عززت التماسك الداخلي وضيّقت الفجوة بين الدولة والمجتمع.

كما فشلت إسرائيل في تحويل إيران إلى سوريا ثانية، وفي إرساء هيمنة جوية مستدامة مستقلة عن الدعم الأمريكي، وبينما سيطرت إسرائيل على المجال الجوي الإيراني خلال الحرب، إلا أنها لم تتصرف دون عقاب. فقد ألحق رد إيران الصاروخي أضرارا جسيمة.

وأردف، أنه "لولا المساعدة الأمريكية الكبيرة - بما في ذلك استخدام 25% من أنظمة اعتراض صواريخ ثاد الأمريكية في 12 يوما فقط - لربما كانت إسرائيل غير قادرة على مواصلة الحرب".

وأشار إلى أن "هذا يجعل شنّ هجوم إسرائيلي جديد أمرا مرجحا، وقد أشار كلٌّ من وزير الدفاع إسرائيل كاتس ورئيس الأركان إيال زامير إلى ذلك، كانت حرب حزيران/ يونيو مجرد المرحلة الأولى، وفقا لزامير، الذي أضاف أن إسرائيل "تدخل الآن فصلا جديدا" من الصراع".

وأردف، أنه بغض النظر عما إذا استأنفت إيران تخصيب اليورانيوم، فإن إسرائيل عازمة على حرمانها من الوقت لتجديد ترسانتها الصاروخية، أو استعادة دفاعاتها الجوية، أو نشر أنظمة مُحسّنة.

وهذا المنطق محوري في استراتيجية إسرائيل "جز العشب": الضربات الوقائية والمتكررة لمنع الخصوم من تطوير قدرات قد تُشكّل تحديا للهيمنة العسكرية الإسرائيلية.

ووفق بارسي، فإن هذا يعني أنه مع إعادة إيران بناء مواردها العسكرية بالفعل، فإن لدى إسرائيل حافزا لشن هجوم عاجلا وليس آجلا، وعلاوة على ذلك، تُصبح الحسابات السياسية المتعلقة بهجوم آخر أكثر تعقيدا بكثير بمجرد دخول الولايات المتحدة موسم انتخابات التجديد النصفي، ونتيجة لذلك، من المُرجّح جدا أن تُشنّ ضربة خلال الأشهر المقبلة.

وتابع، أن "هذه، بالطبع، هي النتيجة التي يسعى القادة الإيرانيون إلى ردعها. لتبديد أي وهم بنجاح استراتيجية جز العشب الإسرائيلية، من المرجح أن تضرب إيران بقوة وسرعة مع بداية الحرب القادمة.

من جانبه قال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إنه "إذا تكرر العدوان، فلن نتردد في الرد بطريقة أكثر حسما وبطريقة يستحيل التستر عليها".

ويعتقد القادة الإيرانيون أن التكلفة التي ستتكبدها إسرائيل لا بد أن تكون باهظة، وإلا فإنها ستؤدي تدريجيا إلى تآكل قدرات إيران الصاروخية وترك البلاد بلا دفاع.

وفي حين أن حرب حزيران/ يونيو انتهت بشكل غير حاسم، فإن نتيجة الحرب القادمة ستتوقف على أي جانب تعلم أكثر وتحرك بشكل أسرع: هل تستطيع إسرائيل تجديد صواريخها الاعتراضية أسرع من قدرة إيران على إعادة بناء منصات إطلاقها وإعادة تزويد ترسانتها الصاروخية؟ هل لا يزال للموساد وجود عميق داخل إيران، أم أن معظم أصوله استُنفدت في السعي لانهيار النظام خلال الحرب الأولى؟ هل اكتسبت إيران فهما أعمق لاختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية أكثر مما اكتسبته إسرائيل في سد ثغراتها؟ في الوقت الحالي، لا يستطيع أي من الجانبين الإجابة على هذه الأسئلة بثقة.



وأوضح، أن إيران لا تستطيع التأكد من أن ردا أقوى سيُحيّد استراتيجية إسرائيل، فمن المرجح أن تُعيد تقييم موقفها النووي - خاصة الآن بعد أن ثبت عدم كفاية ركائز ردعها الأخرى، بما في ذلك ما يُسمى بمحور المقاومة والغموض النووي.

وقد يكون رد ترامب على حرب إسرائيلية ثانية مع إيران حاسما. يبدو أنه غير راغب في الانخراط في صراع طويل الأمد. سياسيا، أشعلت ضرباته الأولية حربا أهلية داخل حركة "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى".

وعسكريا، كشفت الحرب التي استمرت 12 يوما عن ثغرات حرجة في مخزون الصواريخ الأمريكي.

واستنفد كل من ترامب والرئيس الأمريكي السابق جو بايدن جزءا كبيرا من أنظمة الدفاع الجوي الاعتراضية الأمريكية في منطقة لا يعتبرها أي منهما حيوية للمصالح الأمريكية الأساسية.

ومع ذلك، بمنحه الضوء الأخضر للهجوم الأول، وقع ترامب في فخ إسرائيل - وليس من الواضح ما إذا كان سيجد مخرجا، خاصة إذا تمسك بوقف التخصيب تماما كأساس لاتفاق مع إيران.

ومن المرجح أن التدخل المحدود لم يعد خيارا. سيتعين على ترامب إما الانضمام الكامل إلى الحرب أو البقاء خارجها، ويتطلب البقاء خارجها أكثر من مجرد رفض لمرة واحدة، بل يتطلب مقاومة مستمرة للضغوط الإسرائيلية، وهو أمر لم يُبدِ حتى الآن الإرادة ولا القوة اللازمة للقيام به بحسب الكاتب.

مقالات مشابهة

  • الحرب الإسرائيلية الإيرانية القادمة.. هذا موعدها ومساراتها
  • السوداني: بغداد تعمل على تعزيز التنسيق والتكاتف مع دمشق لمواجهة التحديات المشتركة
  • محافظ البنك المركزي:الشعب العراقي لا يثق بالنظام المصرفي
  • تقرير دولي: ليبيا مهددة بالعزلة المصرفية ضمن أكثر 10 دول عرضة للجرائم المالية
  • بنك الخرطوم .. بإمكانك تنفيذ الحوالات المالية إلى البنوك السودانية الأخرى
  • توجيه عاجل من “المركزي” إلى كل البنوك السودانية
  • البراء بن مالك جزء من كتائب الاحتياط للجيش السوداني بموجب قانون الاحتياط الشعبي
  • محافظ سوهاج يبحث مع وفد "المالية" و"E-Finance" تطوير النظام المالي والتحول الرقمي بالمحافظة
  • قانون المالية 2026: مسار التنمية يتطلب التوفر على إدارة عمومية حديثة وأكثر قربا من المواطن
  • السوداني يوجه بتشكيل لجان فنية لمراجعة ورقة الإصلاح المصرفي