قبل نحو ثمانية أعوام، عرف المسرحيون ياسر بن أسلم البلوشي ممثلًا على الخشبة، لكنه لم يتوقف عند حدود الأداء، بل شق طريقه بثبات ليصبح اليوم أحد الأسماء الفارقة في المشهد المسرحي العماني. خطوة بعد أخرى، بنى نفسه مسرحيًا، متنقلًا بين أدوار عناصر المسرح المهمة، فهو الممثل، والكاتب، والمخرج، الذي لا يكتفي بالإبداع، بل يسعى دائمًا إلى تطويره.

حريصٌ على المشاركة في المهرجانات المسرحية العمانية والخليجية، لا لمجرد الحضور، بل لتوسيع مداركه وبناء قاعدة معرفية متينة، يضيف إليها من رؤاه الإبداعية الخاصة، وعلى الرغم من هدوئه خارج الخشبة، إلا أن أعماله تحمل دائمًا عنصر المفاجأة، تمامًا كما فعل في مسرحية "من بعثنا من مرقدنا"، التي جمع فيها بين التأليف والإخراج، وقدمها في مهرجان المسرح العماني الثامن، حيث كانت واحدة من ثمانية عروض اختيرت بعناية لتكون ضمن الصفوة المتنافسة على منصة التتويج.

وحول هذا العمل وأمور عديدة أخرى، تحدث ياسر لـ"عُمان" في هذا الحوار:

**********************************************************************************************

• كيف كانت بدايتك في المسرح؟ وما الذي جذبك إلى عالم الكتابة والإخراج؟

- قبل أن أدخل عالم المسرح، كنت أكتب الشعر، وما زلت أكتبه حتى اليوم، لكن المسرح كان تجربة مختلفة تمامًا، إذ يجمع كل الفنون على خشبته السمراء، فاستحوذ على اهتمامي وأخذني إليه بكل تفاصيله.

وبدايتي مع المسرح كانت غريبة نوعًا ما، كنت طالبًا عندما دخلت لحضور عرض مسرحي في مسرح الكلية التقنية العليا، وحينها أذهلتني التجربة المسرحية بكل أبعادها، شعرت بانجذاب عميق وتمنيت لو أقف يومًا على تلك الخشبة، وبعد سنوات، تحقق ذلك الحلم، وكنت على الخشبة نفسها ممثلًا لأول مرة عام 2018، في مسرحية "نسيًا منسيًا" من تأليف الدكتورة وفاء الشامسية، وإخراج عمير أنور.

وقبل تلك التجربة، كنت قد خضعت لعدة حلقات عمل مسرحية، منها حلقة عمل في التمثيل المسرحي بتونس بإشراف المخرج الكبير فاضل الجعايبي، وهو ما ساعدني على التعمق أكثر في فهم تقنيات المسرح، لكن نقطة التحول الأبرز جاءت خلال لقاء ودي مع المخرج والصديق سامي الزهراني، بعد انتهاء مهرجان المسرح العربي في إحدى دوراته، كنا في المطار، أنا متوجه إلى عُمان، وهو إلى السعودية، وحينها قال لي: "أنت شاعر، ولديك حس الكتابة، فلماذا لا تكتب نصوصًا مسرحية؟ المسرح مثل كرة القدم، فقط افهم قوانينه وابدأ اللعب"، أخذت نصيحته بمحمل الجد، فكتبت أول نص مسرحي، لكنه بقي طي النسيان، ثم كتبت نصًا آخر بعنوان "أرواح مفقودة"، وأخرجته ضمن مسابقة إبداعات شبابية عام 2020، حيث تأهلنا للعرض النهائي، ولكن بسبب جائحة كورونا، أُلغيت المنافسة النهائية، وبعد انحسار الجائحة، قدمت نصًا آخر بعنوان "صفعة"، وتوليت إخراجه أيضًا في المسابقة نفسها.

أما الإخراج، فقد استهواني لأنه منحني شعورًا بأنني أملك أدواته، وأني قادر على تشكيل العرض المسرحي برؤية خاصة.

**********************************************************************************************

• من هم أبرز المسرحيين أو الكُتّاب الذين تأثرت بهم في رحلتك المسرحية؟

- لن أذكر أسماء مثل شكسبير أو بيكيت أو غيرهم من الكُتّاب العالميين، فهؤلاء أثّروا في جميع المسرحيين بلا شك؛ لكن ما يهمني هنا هم أولئك الذين كان لهم تأثير مباشر في رحلتي المسرحية، وتركوا بصمة واضحة في مسيرتي، على المستوى العماني، كان لمحمد النبهاني رئيس فرقة الدن للثقافة والفن دور كبير في دخولي إلى عالم المسرح، هو من قدّمني إلى هذا العالم، وأسهم في مشاركتي في حلقة عمل لفاضل الجعايبي، وبعد عودتي، وجدت في فرقة مسرح الشرق مساحة رحبة لصقل تجربتي، حيث منحتني الفرصة لأكون ممثلًا وكاتبًا ومخرجًا، مما أسهم في تنويع تجربتي، كما لا أنسى توجيهات الدكتورة وفاء الشامسية في بداياتي مع الكتابة المسرحية، فقد أثرت في تطوير رؤيتي للنصوص وديناميكيات السرد المسرحي.

أما على المستوى العربي، فأبرز من تأثرت بهم هو الكاتب فهد ردة الحارثي، ليس فقط بكتاباته المسرحية المتميزة، بل بشخصه أيضًا، هو إنسان قبل أن يكون كاتبًا، اعتدت أن أبعث له نصوصي المسرحية فور انتهائها، وكان يقرؤها ويرد عليّ برأيه وتوجيهاته خلال ساعة فقط، وهو أمر أقدّره كثيرًا.

كذلك، كان للمسرحي الكبير غنام غنام أثر عميق، فهو شخصية نذرت نفسها لخدمة المسرح العربي، وترك بصمته في كل بقعة من الوطن العربي، إلى جانب دعم أمين الهيئة العربية للمسرح إسماعيل عبدالله، فله دور محوري في حضوري لمهرجان المسرح العربي وحلقات العمل المسرحية المصاحبة له، وهو مهرجان يشرف عليه الشيخ الدكتور سلطان القاسمي، الذي يمثل النموذج الأعلى لكل المسرحيين العرب.

**********************************************************************************************

• لذلك نجدك حريصًا على متابعة العروض المسرحية المحلية والعربية؟ هل تتابع بعين الجمهور أم عين الناقد أم عين المتعلِّم؟

- المسرحي لا يجب أن يتوقف عن متابعة العروض، وإلا سيفوته الزمن ويَبقَ حبيس قوالب قديمة، لهذا اتخذت من المتابعة مبدأ ثابتًا في تجربتي المسرحية، فأحرص على مشاهدة العروض المحلية والعربية وحتى الغربية، ليس فقط بدافع المشاهدة، بل لمعرفة أين وصل المسرح اليوم، وكيف يمكنني تقديم عرض يواكب زمنه ومسيرته.

نحن، في العالم العربي، لا نزال متأخرين عن المسرح الغربي بعقود، ليس بسبب غياب الإبداع، ولكن بسبب محدودية الإنتاجية، على سبيل المثال، الإنتاج المسرحي في لندن يُموَّل بملايين الدولارات، بينما لا يزال مسرحنا يعاني من قلة الموارد، مما يدفعنا إلى العمل ضمن إطار المسرح الفقير.

أما عن زاوية المشاهدة، فقد بدأت بمتابعة العروض بعين الجمهور، لكن مع مرور الوقت، أصبحت أتابعها بعين الناقد المتعلِّم، حيث أُحلل وأُفكر في تفاصيل العرض، وهو ما أضاف إلى تجربتي المسرحية، لكنه يحمل جانبًا سلبيًا أيضًا، إذ قد يجعلني أفقد المتعة البسيطة التي يجدها الجمهور في المشاهدة، حيث يصبح التحليل والتفكيك جزءًا من التجربة.

**********************************************************************************************

• قدمت عملًا رائعًا "من بعثنا من مرقدنا" إخراجًا وتأليفًا، كيف وُلِدت فكرة العمل؟ وهل كنت تفكر في القضية الفلسطينية منذ البداية أم جاءت لاحقًا أثناء الكتابة؟

- فكرة من بعثنا من مرقدنا وُلدت قبل عامين، وكان دافعها الأساسي حادثة أثرت فيّ بشدة، وهي انتحار زميلة لي، حيث انتشرت رسالتها بشكل واسع في الوطن العربي، ووجدت نفسي أمام تساؤل ملحّ: لماذا يُقدِم الإنسان على الانتحار؟ ومن هنا نشأت فكرة المسرحية، حيث جعلت "الجثة" تعود للحياة ليتم التحقيق معها حول سبب موتها، ولكن دون طرح القصة بشكل مباشر.

في البداية، كنت أكتب عن الفتاة فقط، وعن معاناتها الداخلية، لكن أثناء الكتابة شعرت بأنني لا أريد حصر القصة في تجربة فردية، تساءلت: لماذا أُقصر هذه الفكرة على شخص واحد؟ لماذا لا أوسّعها لتشمل قضية الإنسان عمومًا، بكل أبعاده الوجودية والحقوقية؟ وهكذا بدأت الفكرة تتشكّل بحيث لا ترتبط بزمان أو مكان معيّن، بل تصبح حكاية كل إنسان سُلبت منه حقوقه أو صوته أو حتى حياته.

لكن المفاجئ في الأمر أنني، دون قصد، كتبت تفاصيل عن حياتها لم أكن أعرفها من قبل، ولم أدرك ذلك إلا بعد عرض المسرحية، حين أخبرني بعض أصدقائنا المشتركين أنني، بطريقة ما، وصفت جوانب حقيقية من حياتها الشخصية، رغم أنني لم أكن على دراية بها عند الكتابة، وكان ذلك اكتشافًا مُربكًا، وكأن النص استدعى هذه التفاصيل من تلقاء نفسه، أو أن روحها كانت حاضرة بطريقة ما أثناء صياغته.

ومع هذا التوسع في الرؤية، وجدت أن بعض أبعاد المسرحية تلامس القضية الفلسطينية، كما تلامس قضايا أخرى يعاني منها الإنسان في كل مكان وزمان، وشخصيًا، أرى أن القضية الفلسطينية ليست مجرد قضية سياسية أو إقليمية، بل هي قضية إنسانية بامتياز، تُمثّل كل من وقع عليه ظلم الاحتلال والاستلاب، وهي اختبار حقيقي للضمير الإنساني، ولهذا فإن أي عمل يتناول فكرة القهر الإنساني يمكن أن يتلاقى معها بشكل أو بآخر، حتى لو لم يكن ذلك مقصودًا منذ البداية.

**********************************************************************************************

• العمل يحمل طابعًا فلسفيًا وسرياليًا، فهل كنت تقصد هذه الرمزية منذ البداية؟

- نعم، كنت أقصد الرمزية منذ البداية، وكما ذكرت سابقًا، لم أرغب في طرح القصة بشكل مباشر، وذلك لتجنُّب العديد من الاعتبارات، وأيضًا لإعطاء النص أبعادًا أعمق تتيح لكل متلقٍّ أن يقرأه بطريقته الخاصة، والجميل في الرمزية أنها تمنحني حرية الطرح، حيث أستطيع إيصال فكرتي دون أن أفرضها على المتلقي، بل أجعله شريكًا في اكتشاف المعنى، كما أنني أستمتع بتقديم فكرة قد تكون مؤلمة، لكن في قالب يجعل من أمامي يبتسم وهو يتلقى الاتهام دون أن يدرك ذلك فورًا، والرمزية هنا ليست مجرد أداة تعبيرية، بل هي جزء من رؤيتي للمسرح كفضاء مفتوح للتأويل والأسئلة.

**********************************************************************************************

• كان هناك توظيف مميز للموسيقى والغناء في العرض، كيف خططت لهذا العنصر؟

- أنا شخصيًا أميل إلى المسرح التفاعلي الذي يجعل الجمهور مرتبطًا بالعرض من بدايته حتى نهايته، إيمانًا مني بأن المسرح وُجد من أجل الجمهور، وأن من يترك مشاغله والتزاماته ليحضر عرضًا مسرحيًا، فمن واجبنا أن نقدم له تجربة تجعله يعيش لحظات استثنائية رغم قسوة الطرح والتساؤلات، والموسيقى والغناء عنصران أساسيان في تحقيق هذا التفاعل، فهما لا يضيفان فقط بعدًا جماليًا، بل يمنحان الجمهور تجربة حسية وروحية تُعزز استقبال الفكرة وتُعمّق أثرها؛ لهذا كنت حريصًا على أن يكون توظيفهما جزءًا من نسيج العرض، بحيث يخدمان السرد المسرحي ولا يكونان مجرد إضافات تجميلية.

كما أنني أصررت على أن تُكتب الأغاني من قبل شاعر آخر، رغم أنني أكتب الشعر بنفسي، وذلك حتى تأتي الكلمات برؤية مختلفة عن رؤيتي الإخراجية، مما يمنحها روحًا مستقلة وإحساسًا جديدًا يُكمل العمل، وهنا لا بد أن أشكر الشاعر طلال الصلتي على إبداعه في صياغة الكلمات بروحه الخاصة، التي أسهمت في إثراء التجربة المسرحية.

**********************************************************************************************

• شخصية "الجثة" كانت محور العمل، كيف بنيت ملامحها الفكرية والجسدية؟

- شخصية "الجثة" في المسرحية لم تكن مجرد جسد هامد، بل كانت وسيلتي لطرح القضايا الجوهرية التي يناقشها النص، وجعلتها تعود إلى الحياة بأمر صادر من نظام غامض يفوق كل الأنظمة، ليس بدافع الرحمة، ولكن للتحقيق معها حول سبب موتها، وهو السبب الذي لم يستطع هذا النظام أن يفهمه أو يُحدِّد ماهيته.

وتبدأ الجثة في التجاوب مع المحققين، تُجيب عن أسئلتهم وتخوض في ذكرياتها، حتى تصل إلى اللحظة التي تُدرك فيها أن السبب الحقيقي وراء موتها مرتبط مباشرة بالرئيس الذي يدير هذه المنظمة، وهنا، تنقلب المعادلة، فبدلًا من أن يكونوا هم من يُحققون معها، يصبح وجودها نفسه تهديدًا لهم، وبدلًا من أن يُواجهوا الحقيقة، يُفضلون نفيها، فيتَّهمونها بالجنون والاضطراب، ثم يتركونها وكأنها تنتحر مرة أخرى، ولكن هذه المرة تحت سلطة القمع والتجاهل، دون أي معالجة تقليدية أو نهاية واضحة.

أما الملامح الجسدية، فقد صُمِّمت لتعكس فكرة العبور من الموت إلى الحياة بطريقة مشوشة وغير مكتملة، وبدت كأنها خرجت تَوًّا من القبر، لا يزال كفنها ملتصقًا بجسدها، وقد امتزج مع ملامحها كأنه أصبح جزءًا منها، وتبدأ بالتحرر منه تدريجيًا، لكن حركتها تبقى ثقيلة ومترددة، وكأنها نسيت كيف تتحرك، كما أن نبرتها الصوتية بدت متقطعة ومترددة، وكأنها تحاول تذكّر كيفية الكلام من جديد، وكانت أقرب إلى مولود جديد، لكنه مولود يعود للحياة بدلًا من أن يبدأها، ناسيًا كل شيء عن ماضيه، لكنه يستعيده شيئًا فشيئًا خلال التحقيق، وكأن الذاكرة تعود إليه على شكل صدمات متتالية.

**********************************************************************************************

• لماذا اخترت أن يكون هناك أكثر من محقق بدلًا من شخصية محقق واحدة؟ هل لهذا دلالة رمزية؟

- في البداية، كان النص مكتوبًا لمحقق واحد، لكن أثناء البروفات، لاحظنا أن هناك أكثر من ممثل في الفرقة يُقدِّم أداءً قويًا للدور نفسه، فقررنا كفريق عمل أن نقسم الدور إلى ثلاثة محققين، بحيث يكون لكل واحد منهم صفة مميزة، إلى جانب رئيس المحققين، ومع هذا التغيير، اكتشفت أن وجود عدة محققين أضاف بعدًا رمزيًا غير مخطَّط له في البداية، لكنه أصبح جزءًا من رؤية العمل، فبدلًا من أن يكون التحقيق قائمًا على وجهة نظر فرد واحد، تحوَّل إلى منظومة كاملة تمثل السلطة بأشكالها المختلفة، حيث يرمز تعدد المحققين إلى تعدد الأصوات التي تفرض سلطتها على الفرد، وإلى فكرة أن القمع لا يأتي من جهة واحدة.

**********************************************************************************************

• ماذا أردت من توظيف شخصيات بدينة في العمل، مقابل شخصية الجثة "الهزيلة"؟

- شخصية "الجثة" تمثّل الإنسان المظلوم، المسلوب من كل شيء، حتى جسده الذي أصبح هزيلًا بفعل القهر والحرمان، في المقابل، جاءت شخصيات المحققين ببطون ممتلئة، ليس لأنها دليل على القوة، بل لأنها تعكس الشراهة التي امتلأت بها من سرقاتهم وأرباحهم غير المشروعة على حساب الآخرين، وهذا التباين الجسدي لم يكن مجرد اختيار بصري، بل هو دلالة رمزية على الفارق بين الضحية والجلاد، بين من يُستنزف حتى آخر قطرة، ومن يزداد انتفاخًا من امتصاص حقوق غيره، وبهذا الشكل، أصبح الجسد نفسه لغة تعبيرية تعكس الصراع الأساسي في المسرحية.

**********************************************************************************************

• كيف تعاملت مع الفرق بين "المخرج/الراوي" وبين باقي الشخصيات؟ وهل ترى أن فكرة "المسرح داخل المسرح" أضافت للعرض؟

- المخرج في المسرحية لم يكن مجرد صانع عرض، بل كان هو الذي يدير اللعبة كلها، العارف المُسبق بالأحداث، لكنه لا يريد أن يحتفظ بالقصة لنفسه، بل يريد أن يكشفها للجمهور، والمسرحية تبدأ من واقعة موت ممثلة قبل العرض، لكنه يقرِّر المضي قدمًا بتقديم مسرحية جديدة تعكس قصتها، إلا أنه يستبدل جثتها بجثة رجل، ليشير ضمنيًا إلى معاناة جانبية أخرى، وهي قلة عدد الممثلات في المسرح العماني، وكأن هذا التغيير القسري يكشف اختلالًا آخر في الواقع المسرحي.

أما من حيث التكوين المسرحي، فالمخرج/الراوي كان متموضعًا في منصة دائرية منفصلة، على ارتفاع مترين تقريبًا، مما منحه حضورًا يشبه "القوة العليا" التي تتحكم بمجريات المسرحية، في المقابل، كانت الشخصيات الأخرى في وسط المسرح، مُقيَّدة في مساحة مغلقة، وكأنها بيادق في يد المخرج، يُحرِّكها كيفما شاء ليُعيد صياغة الحكاية وفق رؤيته.

لكن البُعد الأعمق لفكرة المسرح داخل المسرح لم يكن في طريقة تقديم القصة فقط، بل في إشراك الجمهور نفسه في الجريمة، لم يكن الجمهور مجرد متفرج، بل كان شاهدًا على ما يحدث، والمخرج كان يوجّه أصابعه إليهم بشكل مباشر، محمِّلًا إياهم مسؤولية موت الجثة، ليس لأنهم ارتكبوا الفعل، بل لأنهم ظلوا ساكنين بينما كانت الجثة تصرخ طلبًا للمساعدة، وهنا يصبح الجمهور متورطًا في الحدث، سواء بوعيه أو دون وعي، ويبدأ في التساؤل: "هل نحن، بصمتنا وتجاهلنا، نشارك في مثل هذه الجرائم دون أن ندرك؟".

**********************************************************************************************

• بالحديث عن شخصية المخرج/الراوي، فقد حمل هو جزءًا كبيرًا من الموسيقى التصويرية، بعزفه وغنائه، حدِّثنا عن بناء هذه الشخصية؟

- شخصية الراوي/المخرج لم تكن مجرد راوي تقليدي، بل كانت المُحرِّك الأساسي للأحداث، يُدير اللعبة المسرحية ويُوجّه الشخصيات والجمهور نحو الحقائق المخفية، ووُضِع على منصة مرتفعة ليعكس حضوره كسلطة عليا تتحكم في مجريات العرض، لكنه في النهاية عاجز عن تغيير مصير القصة، وكأنه محكوم بدوره الأبدي.

أما الموسيقى والغناء، فكانا جزءًا من هوية الشخصية، وليس مجرد عنصر فني، إذ عبَّرا عن حالتها النفسية، وخلقا تواصلًا مباشرًا مع الجمهور، مما جعل المسرح يبدو وكأنه ينبض بالحياة.

**********************************************************************************************

• إلى أي مدرسة مسرحية ترى نفسك منتميًا؟ وهل تستوحي أعمالك من تيار مسرحي معين؟

- أميل إلى المسرح العبثي، فهو الأقرب إلى رؤيتي الفنية والفكرية، حيث أجد فيه مساحة واسعة للتعبير عن تناقضات الواقع الإنساني بشكل حرّ وغير تقليدي، أما على مستوى الإخراج، فأرى نفسي أقرب إلى مزيج من التجريبي والعبثي، حيث أبحث دائمًا عن طرق جديدة لكسر القوالب المعتادة، وإشراك الجمهور في تجربة تتجاوز السرد التقليدي.

أما بالنسبة لمصادر الإلهام، فلا أستمد أعمالي من تيار مسرحي معيَّن بقدر ما أستلهمها من الهمّ الإنساني بكل أبعاده، والواقع الذي نعيشه مليء بالعبثية والتناقضات، وهو ما يجعلني أجد في المسرح وسيلة للكشف عن هذه التناقضات، وليس مجرد تقليد لأي مدرسة بعينها.

**********************************************************************************************

• هل تعتقد أن المسرح العماني قادر على تقديم تجارب مسرحية تنافس على المستوى العربي؟

- المسرح العماني لا يُطرَح عليه سؤال "هل هو قادر؟" لأنه قدَّم بالفعل تجارب مسرحية نافست بجدارة على المستوى العربي، وأثبت حضوره بقوة في العديد من المهرجانات والفعاليات المسرحية، واليوم، يشهد المسرح العماني تطورًا سريعًا وملحوظًا، سواء من حيث النصوص، أو الرؤى الإخراجية، أو الأداء، مما يجعله حاضرًا في المشهد المسرحي العربي كمنافس حقيقي، وليس مجرد مشارك.

**********************************************************************************************

• تتسم بالهدوء كما يلاحظك الجميع، وفي "من بعثنا من مرقدنا" فجَّرت مفاجأة بشهادة عدد كبير من الأدباء والمسرحيين، ماذا تُخبِّئ حاليًا خلف هذا الهدوء؟

- ربما أبدو هادئًا للبعض، لكنني أؤمن بأن المسرح والأدب يحتاجان إلى المراقبة الصامتة أكثر من الضجيج، "من بعثنا من مرقدنا" كانت تجربة تحدٍّ، وحمل الإشادات حولها مسؤولية كبيرة تدفعني نحو البحث عن أفق جديد للمسرح، أكثر عمقًا وأكثر جرأة.

حاليًا، أعمل على تطوير فكرة مسرحية تتناول موضوعًا حساسًا جدًا، ولكن بطريقة رمزية تفتح المجال للعديد من الإسقاطات والتأويلات، ولا أسعى إلى تقديم الفكرة بشكل مباشر، بل أريد أن تكون ذات أبعاد متعددة، بحيث يستطيع كل متلقٍّ قراءتها من زاويته الخاصة، وفقًا لتجربته ورؤيته، ولا تزال الفكرة في مرحلة التطوير، وأبحث عن الطريقة المناسبة لتنفيذها بالشكل الذي يخدمها ويجعلها تجربة ذات أثر حقيقي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المسرح العمانی منذ البدایة على المستوى بشکل مباشر فی المسرح ا من أن ی جزء ا من مسرحی ا أن یکون لم یکن بل کان

إقرأ أيضاً:

المقاومة الفلسطينية بين المناورة والندية والقدر

في مسرح السياسة الدولية، هناك لحظات نادرة تنقلب فيها الطاولة بشكل دراماتيكي، حيث تتحول الخطوة التي صُممت لتكون "الضربة القاضية" إلى "طلقة مرتدة" تصيب صاحبها في مقتل. وما نشهده هذه الأيام، من دراما "صفقة ترامب" وفعاليات تبادل الأسرى، وصولا إلى قمة شرم الشيخ التي تمهد لاتفاق سلام إقليمي؛ ليس مجرد جولة مفاوضات، بل هو التجسيد الحي لثلاثية استراتيجية حكمت الصراع: براعة المناورة، وفرض الندية، وحتمية القدر.

مناورة حماس أفضل مخرج من غرفة الإعدام

عندما وجدت المقاومة نفسها في فخ "صفقة ترامب"، محاطة بنيران الحرب وكارثة إنسانية، كانت الخيارات البديلة أشبه بأبواب تقود إلى أشكال مختلفة من الفناء الاستراتيجي، فإما الرفض العنيد والذي كان سيمثل انتحارا مبدئيا يمنح نتنياهو تفويضا دوليا مفتوحا لسحق غزة تحت شعار "لا يوجد من نتحدث معه"، أو القبول المطلق، والذي كان يعد انتحارا استسلاميا يؤدي إلى "صفقة الخاسر الأكبر"؛ حيث التخلي عن كل أوراق القوة مقابل سراب من الوعود ومحو كل ما تم بناؤه في "حرب الوعي"، أو الصمت والتسويف، وهي استراتيجية سلبية كانت ستغرق فيها المقاومة ببطء قبل أن تنتهي إلى نفس مصير الرفض العنيد.

أمام هذه المسارات الثلاثة نحو الفناء، لم تكن "مناورة القبول التفكيكي" مجرد خيار جيد، بل كانت السبيل الوحيد للبقاء في ساحة الصراع. لقد كانت الحركة الوحيدة التي تتجنب "الموت السريري" للمعركة، وتنقلها إلى أرض جديدة تكون فيها انقسامات الخصم هي السلاح الأقوى.

لقد كان ردا بمثابة رافعة سياسية، حوّلت الضغط الدولي الهائل المسلط على المقاومة إلى قوة مركّزة ومضاعفة، وجهتها بدقة متناهية لتضرب نقطة الضعف القاتلة لدى الخصم: التناقض بين بقاء نتنياهو السياسي ونرجسية حليفه الأمريكي. السؤال الاستراتيجي لم يعد "هل ستقبل المقاومة بالصفقة؟"، بل أصبح: "كيف سينجو الكيان الصهيوني من الصفقة التي صممها بنفسه؟".

وهل النصر إلا ندّا على الطاولة؟

ولعل أحد أعمق الانتصارات التي حققتها هذه المناورة، والذي غالبا ما يغيب عن التحليلات، هو النصر في "حرب الاعتراف". فاليوم، على طاولة المفاوضات، لا تجلس "منظمة إرهابية" كما أراد لها خصومها، بل تجلس "المقاومة الفلسطينية" كطرف أصيل وند ومكافئ، في مواجهة خصم لا يمثل نفسه فقط، بل يمثل المشروع الغربي بأكمله، من بريطانيا التي منحت الوعد، إلى أمريكا التي توفر الحماية.

إن رمزية المشهد تتجاوز أي مكسب مادي: فالقوى الإقليمية الكبرى (مصر، تركيا، قطر) هي من تدير الوساطة، والقوة العظمى (أمريكا) هي من ترعى الاتفاق، والدول الأوروبية والإسلامية الكبرى هي التي تبارك الاتفاق وتحضر توقيعه؛ هذا المشهد هو بحد ذاته اعتراف دولي بأن المقاومة، التي كان يُراد سحقها، قد نجحت في فرض نفسها كحقيقة سياسية لا يمكن تجاوزها. لقد تحولت من "مشكلة أمنية" يجب احتواؤها، إلى "فاعل استراتيجي" يجب التفاوض معه. هذا التحول في "الوضع الوجودي" (Existential Status) للمقاومة هو نصر بحد ذاته، لأنه يغير منطق اللعبة بأكملها للمستقبل.

صدام العقائد

وهنا، بينما نقدر عبقرية المناورة وما حققته من ندية، يجب أن نصغي لصوت الحقيقة القاسية؛ الذي يذكرنا بأن هذه الرقعة محكومة بـ"قدر" أعمق، وهو حتمية الصدام العقائدي. فالتحالف الحاكم في الكيان الصهيوني اليوم ليس مجرد تحالف سياسي، بل هو تحالف أيديولوجي تقوده تيارات الصهيونية الدينية والمسيانية التي لا تفكر بمنطق "إدارة الصراع"، بل بمنطق "الحسم التاريخي". هذه التيارات لا ترى في غزة مشكلة أمنية، بل فرصة "إلهية" لإعادة الاستيطان وتوسيع "إسرائيل الكبرى". إنها لا تفهم لغة القانون الدولي، بل لغة القوة المطلقة والعقيدة الدينية.

وفي المقابل، من الخطأ أيضا قراءة دوافع المقاومة بمنطق استراتيجي مادي بحت، فالمقاومة الفلسطينية تستمد قدرتها الهائلة على الصمود والتضحية من عقيدة إسلامية راسخة تعتبر الدفاع عن الأرض والوجود جهادا وواجبا مقدسا. لكن هنا يكمن الفارق الجوهري بين العقيدتين: فبينما تُستخدم "العقيبة الصهيونية" كأداة لتبرير التوسع والاقتلاع، تُستخدم "العقيدة الإسلامية" كدرع للدفاع عن الوجود والبقاء. إذن، نحن لا نشهد مجرد صراع بين "سياسي براغماتي" و"مقاوم براغماتي"، بل نشهد صداما بين عقيدتين غير قابلتين للتسوية، مما يجعل أي اتفاق مجرد هدنة مؤقتة في نظر الطرفين.

استراتيجية تعطيل الاندفاع

إدراكا لهذا القدر الحتمي، لم تُصمم المناورة لحل الصراع، بل لتعطيل آثاره وتغيير شروطه. قبل المناورة، كان نتنياهو وترامب يندفعان بأقصى سرعة في قطار "الحسم العسكري" و"التهجير"، مدعومين بغطاء دولي شبه كامل. لم تكن المناورة تهدف إلى إيقاف هذا القطار بشكل دائم، وهو أمر مستحيل، بل كانت تهدف إلى إلقاء صخرة ضخمة على قضبانه. هذه الصخرة أجبرت القطار على التوقف المفاجئ، وأحدثت ارتباكا هائلا في قاطرته، وكشفت عن تصدعات في هيكله. حتى لو عاد القطار إلى الحركة بعد فترة، فإنه لن يعود بنفس السرعة أو بنفس القوة. لقد فقد جزءا من زخمه، وخسر بعضا من شرعيته، وأصبح سائقوه (نتنياهو وترامب) في حالة من الارتباك والصراع الداخلي. المناورة لم تغير "وجهة" القطار، لكنها غيرت "سرعته" و"حالته الميكانيكية" و"علاقة سائقيه ببعضهم البعض". لقد حولت "الاندفاع الأعمى" إلى "سير متعثر"، وهذا بحد ذاته مكسب استراتيجي ثمين.

كيف سترقص حماس فوق فوهة البركان؟

إن ما قامت به المقاومة هو أشبه بـ"رقصة محسوبة إلى حد ما فوق فوهة بركان نشط". هي ليست رقصة احتفالية، بل رقصة بقاء، حيث كل خطوة يجب أن تُحسب بدقة متناهية لتجنب السقوط في الحمم الملتهبة. فوهة البركان هي الواقع الاستراتيجي القاسي: خصم عقائدي، وقوة عظمى منحازة، وكارثة إنسانية تضغط على الأعصاب. والحمم التي تغلي في الأسفل هي "ثوابت العقيدة" الأيديولوجية للخصم التي لا تهدأ.

والرقص هو فن المناورة التكتيكية، القدرة على الحركة برشاقة في مساحة ضيقة ومحفوفة بالمخاطر. كل قفزة هي "قبول مبدئي" يمتص الضغط، وكل دورة هي "تحفّظ على التفاصيل" يضع الكرة في ملعب الخصم. الراقص هنا لا يهدف لإطفاء البركان، فهو يعلم أن هذا مستحيل؛ هدفه هو البقاء على الحافة، وشراء الوقت، واستخدام حرارة البركان نفسها لإرباك الخصوم. لقد أدهشت هذه الرقصة العالم بجمالها التكتيكي، لكن يجب ألا ننسى أن الراقص، مهما بلغت براعته، لا يزال فوق فوهة البركان؛ الخطر لم يزل، بل تم "إدارته" بذكاء.

الطريق من إدارة الهزيمة إلى صناعة النصر

وهنا نصل إلى جوهر المفارقة: إن الخيار الذي اتخذته المقاومة كان، بلا شك، هو الأمثل بين كل الخيارات المتاحة. لكن يجب ألا نخلط بين الفوز بـ"معركة" والفوز بـ"الحرب". فكما يذكرنا صوت الحقيقة القاسية، في هذه اللعبة الطويلة، قد تكون المناورات التكتيكية البارعة مجرد فصول مؤقتة في ملحمة كبرى، نهايتها محكومة بثوابت القوة والعقيدة، وهذا لا يقلل من الانتصار الاستراتيجي الذي حققته المقاومة في حرب الوعي ضد الكيان الصهيوني، والذي حطمت فيه سردياته الثلاثة (الوطن الآمن، والجيش الذي لا يقهر، وادعاء التفوق الأخلاقي للشعب المختار).

لقد كانت حركة مذهلة على رقعة الشطرنج، لكنها حركة تهدف إلى "إعادة تدوير الهزيمة المحتملة" وتحويلها إلى "شروط لصناعة النصر المستقبلي"، وتتمثل هذه الشروط عمليا في: كسب الوقت اللازم لإعادة بناء القدرات، وتعميق الشرخ بين الكيان الصهيوني وحلفائه، والاستثمار في التحول الحاصل في الرأي العام العالمي لتحويله إلى ضغط سياسي حقيقي، والأهم من ذلك، السماح لـ"حصاد الوعي" بأن ينضج في جيل جديد، وليس تحقيق النصر النهائي اليوم.

وفي نهاية المطاف، فإن عبقرية المناورة لا تكمن فقط في البقاء، بل في النجاح بتحقيق أهداف استراتيجية واضحة رغم الثمن الباهظ. فبينما ارتكب العدو خطأه القاتل بالخلط بين هدفه الاستراتيجي (القضاء على المقاومة) ومحركاته (التدمير الشامل)، نجحت المقاومة في استخدام محركاتها الدقيقة -من العملية الخاطفة إلى إدارة حرب الاستنزاف- لتحقيق أهدافها العليا: فقد حطمت هيبة الردع، وفرضت نفسها ندّا على طاولة المفاوضات، وأعادت القضية الفلسطينية كعامل لا يمكن تجاوزه في استقرار العالم. لقد أثبتت أن الفشل في التمييز بين الأهداف والمحركات ليس مجرد خطأ أكاديمي، بل هو وصفة مباشرة للفشل الاستراتيجي في ساحة المعركة.

وهذا الفهم متعدد الأبعاد والطبقات، هو وحده الذي يمنحنا رؤية كاملة للمشهد، حيث يجمع بين الإعجاب بعبقرية التكتيك والإقرار بندية المقاومة، والتحسب للتحديات التي ستوجهها، مع الوعي الكامل بقدر الله سبحانه وتعالى وأسباب النصر.

مقالات مشابهة

  • موسم الرياض يطرح تذاكر المسرحية الكوميدية “النداء الأخير”
  • السليمانية.. انتحار عنصر في البيشمركة داخل سيارته
  • المقاومة الفلسطينية بين المناورة والندية والقدر
  • فرقة آدم المسرحية تقدم يوم عادي جدًا على مسرح الحياة.. الخميس القادم
  • إنقاذ امرأة من موت محقق في كركوك وإحباط محاولة انتحار فتاة بديالى
  • ما هو “سكري النوع الخامس” الذي يصيب 25 مليون شخص حول العالم؟
  • أشرف زكي يتوسط لجنة تحكيم مهرجان نقابة المهن التمثيلية المسرحي
  • لجنة تحكيم مهرجان المهن التمثيلية المسرحي يتوسطهم أشرف زكي قبل متابعة العروض
  • إسرائيل تسجل حالات انتحار جديدة
  • 7 فرص لغرف الأخبار في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي.. ما الذي يريده الجمهور؟