سامراء تقاوم فتنة التغيير الديموغرافي من بوابة المراقد - عاجل
تاريخ النشر: 6th, April 2025 GMT
بغداد اليوم - صلاح الدين
في الأزقة العتيقة لمدينة سامراء، حيث يمتزج التاريخ العباسي بصدى الأذان وأصوات الباعة، عادت الخريطة الطائفية لتخترق الجدران الحجرية، لا بصوت السلاح هذه المرة، بل بعبارات ناعمة تلفها الدعوات الإدارية وتغلفها بشعارات "حماية المراقد". وبينما يفتش أهل المدينة عن ظلال الاستقرار وسط التحديات الأمنية والاقتصادية، تنهض أمامهم أطياف مشاريع قديمة تعود بأقنعة جديدة، تحمل معها رائحة التقسيم، وملامح الإقصاء، وأشباح التغيير الديموغرافي.
لم تكن ردود الفعل المحلية في سامراء مجرد احتجاج عابر على تصريح سياسي، بل كانت صرخة متجذرة في عمق الذاكرة الجمعية للمدينة، جاءت على لسان علمائها وشيوخ عشائرها ومثقفيها، كإعلان هوية في وجه مشروع يرونه محاولة مقنّعة لسلب المدينة من تاريخها وسكّانها. ففي بيان صريح اللهجة، بدا أن وجهاء المدينة لا يتحدثون من موقع الدفاع، بل من منصة استعادة الحق، وهم يؤكدون أن "سامراء كانت وما زالت مدينة عراقية أصيلة، يسكنها أهل السنة منذ قرون"، وأنها "تراث إسلامي جامع"، لا مجال فيه لإعادة ترسيمه وفق خطوط المذهب والنفوذ.
لم تكن صياغة البيان محض رد فعل على النائب علي التركي، بل توجّهًا صريحًا لرفض أي محاولات سياسية لتحويل المدينة إلى إقليم مغلق، يُفصل عن جسد محافظة صلاح الدين، ويُلحق قسراً بجغرافيا طائفية قائمة على رمزية المراقد. هذا الرفض لم يأتِ من منطلق مذهبي مقابل، بل من حرص على وحدة العراق، وعلى إبقاء سامراء مساحة التقاء لا تقاطع، ومساحة عبور لا اصطفاف.
في شوارع سامراء التي لا تزال تشهد على أطلال الصمت بعد انفجار 2006، لا تُنسى بسهولة مشاهد الجنائز الجماعية، ولا تُمحى من الذاكرة أصوات الطائفية حين دوّت مع تفجير مرقد الإمامين العسكريين. فالحادثة التي مزّقت نسيج العراق يومها، ما زالت تنزف في ذاكرة المدينة، إذ أعقبتها موجات تهجير وقتل واصطفاف، جعلت سامراء عنوانًا للمأساة، وصندوقًا للانفجار الطائفي الأول في تاريخ ما بعد 2003.
لهذا، لم تكن الدعوة الأخيرة لتحويل سامراء إلى محافظة مستقلة حدثًا إداريًا بسيطًا، بل استدعاءً لجراح لم تندمل، وإشارة إنذار مبكر لتكرار سيناريوهات التغيير الديموغرافي، والإقصاء الناعم، وفرض الأمر الواقع بالقوة. ويخشى سكّان المدينة أن تكون هذه الخطوة مقدّمةً لتحويل سامراء إلى منطقة مغلقة مذهبيًا، تُدار بمنطق الحماية الطائفية، ويُستبعد منها المكوّن السني سياسيًا واجتماعيًا، تمهيدًا لضمّها الفعلي إلى خارطة "إقليم الطائفة" المؤجل.
فكما جُرّبت أدوات القوة بعد 2003 في فرض الهويات على الجغرافيا، فإن الخشية اليوم أن تُعاد التجربة ذاتها بأدوات السياسة، مدعومة بحماية أمنية وفصائلية تُعيد إنتاج الهيمنة ولكن هذه المرة... بأقنعة الدستور والإدارة.
ما يجري في سامراء ليس معزولًا عن المشهد العراقي الأوسع، بل هو مرآة مصغّرة لانقسام أكبر حول هوية الدولة وحدود الطائفة ومصير الجغرافيا. ففي بلد لم تحسم فيه الأسئلة الكبرى بعد: من يملك القرار؟ من يفرض السيادة؟ ومن يُعرّف معنى الوطن؟ تبقى المدن الهشة – كالأنبار وسامراء والموصل – ساحة اختبار لنية التفكيك أو إمكانية التعايش.
فالدعوات التي تتكئ على "الخصوصية الدينية" أو "الحماية الرمزية" كثيرًا ما تتحوّل إلى أدوات للتوسع السياسي، وتُوظَّف لخلق وقائع جديدة على الأرض تحت مظلة الدستور نفسه. هكذا يصبح الدستور – الذي يُفترض أن يكون مظلة للتماسك – أداة للانقسام حين يُقرأ بعيون المشاريع الطائفية.
في هذا السياق، تبدو سامراء من جديد على مفترق طرق: بين أن تبقى مدينة عابرة للطوائف، محتفظة برمزيتها الجامعة، أو أن تُدفع تدريجيًا إلى فلك مشروع مذهبي مغلق، يُدار من خلف الحدود، وتُرسم له خارطة لا علاقة لها بتاريخ المدينة ولا بأهلها، بل بمخيلة فصائل ترى في الجغرافيا رصيدًا سياسياً لا نسيجًا بشريًا.
وفي ظل غياب رؤية وطنية جامعة، لا تُستبعد أي مدينة من أن تُصبح هدفًا لخرائط النفوذ، ولا يُستبعد أن تتحوّل مشاريع التقسيم من الفكرة إلى الفعل، حين يتراجع صوت الدولة وتعلو أصوات الطائفة. لذلك، فإن قضية سامراء ليست مجرد شأن محلي، بل اختبار جديد لوحدة العراق، ولقدرة سكانه على الوقوف بوجه من يُعيد تدوير الماضي بوسائل الحاضر.
المصدر: وكالة بغداد اليوم
إقرأ أيضاً:
الرقابة المالية: نسعى لتعزيز الشفافية لتحويل النمو الاقتصادي إلى فرص تمويل للشركات
شارك الدكتور محمد فريد، رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية، في حوارات مفتوحة نظمها بنكا ستاندرد تشارترد وسيتي بنك مع مجموعة من كبار المستثمرين الدوليين ومديري الأصول وممثلي مؤسسات التمويل العالمية.
جاء ذلك على هامش اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين بالعاصمة الأمريكية واشنطن، وذلك لاستعراض تطورات السياسات التنظيمية والرقابية خاصة في ظل تنفيذ مصر برنامج شامل لإصلاح الاقتصاد على المستوى المالي والنقدي والهيكلي وكذلك القطاع المالي غير المصرفي.
وتأتي مشاركة الهيئة في هذه اللقاءات في إطار حرصها على مد جسور التواصل مع مجتمع الاستثمار العالمي، وتبادل الرؤى حول التطورات التنظيمية والرقابية في الأسواق المالية، إلى جانب عرض التقدم المحرز في إصلاح وتطوير القطاع المالي غير المصرفي المصري الذي يشكل ركيزة رئيسية لدعم النمو الاقتصادي وتمويل التنمية المستدامة.
وخلال اللقاءات، أكد الدكتور فريد أن ما تقوم به الهيئة من إصلاحات شاملة لتطوير وتنظيم الأسواق المالية غير المصرفية يمثل امتدادًا وتكاملًا مع الإصلاحات الاقتصادية الكلية التي تنفذها الحكومة المصرية، موضحًا أن فعالية الإصلاحات الاقتصادية تُقاس بقدرتها على الوصول إلى الشركات والأفراد من خلال الأسواق المالية المنظمة والرقابة الفعالة.
وأضاف أن هذا التكامل بين الإصلاحين الكلي والقطاعي يسهم في تعزيز فعالية ما يُعرف اقتصاديًا بـآلية انتقال أثر الإصلاحات (Transmission Mechanism)، والتي تضمن أن ينعكس اثار استقرار الاقتصاد الكلي على أداء الأسواق، وعلى فرص التمويل والاستثمار المتاحة أمام المواطنين والشركات.
وأوضح الدكتور فريد أن الهيئة تعمل على تعميق الأسواق وتوسيع قاعدة المتعاملين وتعزيز الكفاءة والشفافية بما يتيح تحويل النمو الاقتصادي إلى فرص تمويل حقيقية للشركات ومشاركة مجتمعية أوسع في النشاط الاقتصادي، مشيرًا إلى أن القطاع المالي غير المصرفي يلعب دورًا حيويًا في تعبئة الموارد المحلية وتوجيهها نحو مشروعات إنتاجية واستثمارية متنوعة.
وفي هذا الإطار، استعرض الدكتور فريد أهم الإصلاحات الهيكلية والتشريعية والتنظيمية التي نفذتها الهيئة خلال الفترة الأخيرة في قطاعات التأمين وسوق رأس المال والتمويل غير المصرفي، والتي استهدفت بناء قطاع مالي أكثر كفاءة، واستدامة، وقدرة على مواجهة التحديات العالمية.
ففي قطاع التأمين، أشار رئيس الهيئة إلى تعزيز رسملة الشركات وزيادة ملاءتها المالية ورفع قدراتها الإدارية والفنية لحماية حقوق حملة الوثائق، مؤكدًا أن تطبيق قانون التأمين الموحد رقم 155 لسنة 2024 يمثل نقطة تحول رئيسية في مسار تطوير القطاع، من خلال توحيد الإطار التشريعي وتعزيز الشمول التأميني وتوسيع قاعدة المستفيدين من الخدمات التأمينية، بما يسهم في تحقيق الاستقرار المالي للأفراد والمؤسسات.
وفي سوق رأس المال، لفت الدكتور فريد إلى أن الهيئة تبنت ونفذت إصلاحات مؤسسية عميقة تستهدف تعزيز الانضباط والشفافية والإفصاح وحماية المستثمرين، مع تحفيز مشاركة المواطنين في الاستثمار بالبورصة كوسيلة لربط النشاط الاقتصادي العام بمشاركة جماهيرية في خلق الثروة والنمو. وبيّن أن الهيئة تعمل على إطلاق أدوات تمويل واستثمار جديدة تدعم تمويل الشركات الناشئة والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتطوير أسواق التمويل المستدام وسوق الكربون الطوعي بما يرسخ دور مصر كمركز إقليمي للتمويل الأخضر والمستدام.
واستكمالًا لمسار الإصلاحات الهيكلية، شدد رئيس الهيئة على أن التطوير التشريعي والتنظيمي لا يكتمل دون التحول الرقمي والابتكار التكنولوجي، مشيرًا إلى أن الهيئة العامة للرقابة المالية تقوم بدور محوري في قيادة التحول الرقمي داخل القطاع المالي غير المصرفي من خلال دعم وتبني التكنولوجيا المالية (FinTech) كأداة استراتيجية لتوسيع نطاق الوصول إلى الخدمات المالية وتعزيز الشمول المالي. وانطلاقًا من رؤيتها لبناء قطاع مالي أكثر كفاءة وابتكارًا، تعمل الهيئة على تهيئة بيئة تنظيمية مرنة ومتطورة تشجع على استخدام الحلول التكنولوجية في مجالات التمويل متناهي الصغر، والتأجير التمويلي، والتمويل العقاري، والتمويل الاستهلاكي، بما يتيح الوصول إلى شرائح أوسع من الأفراد والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، ويُسهم في خفض تكلفة الخدمات المالية وتسريع دورة التمويل وتحسين جودة القرار الائتماني. كما تعمل الهيئة على تطوير البنية التحتية الرقمية للأسواق، من خلال إطلاق منصات إلكترونية للترخيص والرقابة والإفصاح، وتبني آليات التحليل الذكي للبيانات لضمان كفاءة الرقابة وجودة المعلومات.
وفي هذا السياق، تقود الهيئة جهودًا متكاملة لتعزيز التكامل بين التكنولوجيا المالية والشمول المالي عبر بناء منظومة تشريعية وتنظيمية داعمة للابتكار، وإتاحة المجال أمام الشركات الناشئة ومقدمي الخدمات الرقمية لتطوير منتجات جديدة تلبي احتياجات مُختلف الفئات. وقد أطلقت الهيئة مختبر التكنولوجيا المالية كمنصة تجريبية لتقييم وتطوير الابتكارات المالية تحت إشرافها، بما يحقق التوازن بين حماية المتعاملين وتشجيع الأفكار الجديدة. كما تركز الهيئة على رفع الوعي والثقافة المالية الرقمية لدى المتعاملين والمؤسسات، إدراكًا منها بأن التكنولوجيا ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لتحقيق شمول مالي حقيقي ومستدام يمكّن المواطنين من الوصول العادل إلى التمويل، ويجعل القطاع المالي غير المصرفي أكثر مرونة وقدرة على دعم النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، ما يسهم في دعم النمو الاقتصادي وتوليد فرص العمل وزيادة الإنتاجية.
وأكد الدكتور فريد أن الإصلاحات الرقابية والتنظيمية التي تقودها هيئة الرقابة المالية تُعدّ ركيزة أساسية لبناء سوق منضبط، ومرن، وعادل، يوازن بين حماية المستثمرين وتحفيز النمو، مشددًا على أن الرقابة ليست غاية في ذاتها، بل أداة لتحقيق الاستقرار، وكفاءة تخصيص الموارد، وتحفيز الابتكار في المنتجات والخدمات المالية.
وأشار إلى أن الهيئة تعمل على تطبيق أفضل معايير الحوكمة والممارسات الدولية في الإشراف والرقابة، وتطوير قدرات الكوادر الفنية والمهنية داخل الهيئة والمؤسسات المالية غير المصرفية، إلى جانب تعزيز الثقافة المالية والاستثمارية لضمان فهم أعمق للأدوات والأسواق الجديدة.
وأشار إلى أن الهيئة مستمرة في تطوير الإطار الرقابي والتشريعي وتبني سياسات تحفز الابتكار المالي دون الإخلال بالانضباط المؤسسي، بما يعزز ثقة المستثمرين المحليين والدوليين ويضمن أن تكون الأسواق المالية المصرية قادرة على تمويل التنمية الاقتصادية ودعم التحول نحو اقتصاد أكثر مرونة واستدامة وتنافسية.
اختتم رئيس الهيئة تصريحاته بالتأكيد على أن عملية تطوير القطاع المالي غير المصرفي رحلة مستمرة وتمثل أولوية لعمل الهيئة العامة للرقابة المالية، كونه أحد المحركات الرئيسة لتحقيق النمو الشامل والمستدام في الاقتصاد المصري.