«ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا»
تاريخ النشر: 8th, April 2025 GMT
يمر العالم اليوم بتحدّيات واضطرابات كبرى، أثرت على جميع الجوانب سياسيّا واقتصاديّا، وأخذ عالمنا العربيّ حيّزا من هذا الصّراع والاضطراب، والّذي يهمني هنا أمر عُمان في هذه المرحلة من التّغيرات العالميّة، ليس بمعنى الأنا الملغي للآخر، وليس بمعنى وهم المؤامرة في جوّه المطلق غير النّاظر في الخلل من الدّاخل، ولكن هناك من يريد أن يمتدّ هذا الصّراع والاضطراب إلى مساحات جغرافيّة أكبر، وعُمان ليست بمعزل عنه.
في الوقت ذاته، عُمان ليست وليدة اللّحظة القريبة، فلها تأريخها الموغل في القدم، ولها ثقافتها السّياسيّة المتجذّرة في التّأريخ، كما لها جغرافيّتها الاستراتيجيّة ضمن عالمها العربيّ، والّذي يمثل قلب العالم جغرافيّا، بيد أنّ قوّة الدّول ليس في تأريخها ولا جغرافيّتها من حيث الابتداء، وإنّما قوّتها في داخلها وحاضرها إذا أدرك الجميع أهميّة هذا الأمر، فهي كالسّفينة الواحدة، إن خرق جزء منها تأثرت جميع الأجزاء.
ولا يمكن بحال نشر فوضى أو اضطراب في دولة ما إذا ما كانت قويّة في داخلها، ليس أمنيّا وعسكريّا فحسب، بل في جميع أجزائها ومكوّناتها، إذا ما شعر الجميع أنّهم عائلة واحدة يجمعهم بيت واحد، أو بالمعنى الدّقيق مواطنون في ذات واحدة متساوية، وجميع الدّول الّتي سهل إحداث فوضى فيها سببه استغلال الفوارق في داخلها، واستثمار الخلافات من داخل قطرها، كانت طائفيّة أم مناطقيّة أم قبليّة أم سياسيّة، لتتمدّد وتتحوّل إلى كتل متصارعة، لتدخل البلاد في دوّامة الحروب والصّراع والفقر والتّخلّف.
وعُمان مرّت بحالات مماثلة في تأريخها، ففي العقود الأخيرة من النّصف الثّاني من القرن الثّامن عشر بدأ الصّراع السّياسيّ يتمدّد في داخلها، ومن ثمّ الانقسام بين السّلطة المركزيّة والدّاخل، خصوصا بعد عام 1913م، لتدخل عمان في صراعات أهليّة بين السّلطة المركزيّة والحركات اليمينيّة، يتبعها لاحقا طرف ثالث من الاتّجاهات اليساريّة، فنقضت غزلها بعدما كانت قوّة مهابة ولها مكانتها، لتدخل حالة الفقر والمرض والجهل، فلم تعد لعمان قيمتها، وتعيش معزولة خارج التّأريخ، وأبناؤها مشرّدون شرقا وغربا.
وشاء القدر أن تنهض عُمان والحمد لله من جديد، ويتحدّ الجميع لبناء نهضة عصريّة جديدة، في فترة سياسيّة عالميّة مضطربة نتيجة الحرب الباردة، وصراع قطبي الشّرق والغرب، وحدوث تحوّلات في المنطقة، بيد أنّها عالجت جراحاتها، وبنت نفسها خدميّا وإنسانيّا، بالقدر الّذي استطاعت الوصول إليه، وأصبحت لها مكانتها خليجيّا وعربيّا وعالميّا، وأصبح للعمانيّ مكانته وهو يسافر شرقا وغربا، وظهر العمانيّ المبدع في كافّة المجالات.
وكما أسلفت في مقالة سابقة لي «أنّ عُمان في نهايات العقد الثّاني من القرن الحادي والعشرين (2014 - 2020م) بدأ فيها شيء من التّراجع، نتيجة ما أصاب العالم من كساد وتضخم، وهي نتيجة للأوضاع السّياسيّة السّلبيّة في العالم... تزامن مع انتشار جائحة كورونا... واستمرت الجائحة لأكثر من عامين، كانت لها تداعياتها الاقتصاديّة في الخارج والدّاخل، ممّا أوقف الحياة العمليّة والاعتياديّة، فارتفع عدد الباحثين عن عمل لسبب كثرة المسرحين، كما تأثرت الشّركات الصّغيرة والمتوسطة خصوصا، نتيجة توقف حركة البيع والشّراء، كما توقفت رحلات الطّيران، وتوقفت حركة السّياحة الدّاعمة للاقتصاد المحليّ، ومع هذا استطاعت عُمان أن تحافظ على استقرارها، وحافظت على سير الرّواتب خصوصا في الجهات الحكوميّة والعسكريّة دون نقيصة، وفي موعدها، وأوجدت التّعليم والعمل عن بُعد، فلم تتوقف حركة الحياة مع شيء من المرونة، كما قامت بمحاولة تسهيل قوانين المسرحين، وفي الوقت ذاته التّعجيل في وضع قانون الحماية الاجتماعيّة، والّذي سيتوسع لاحقا إلى الباحثين عن عمل، وحماية الأسرة والطّفولة وأبناء الضّمان الاجتماعيّ».
لاشكّ هناك تحدّيّات كبرى ليست على مستوى عُمان، بل على مستوى العالم أجمع، بما في ذلك العديد من المجتمعات الغربيّة والشّرقيّة، وعلى رأسها تحدّيّات الباحثين عن عمل، والمسرحين من العمل، والأجور المنخفضة فيما لا تتناسب وتكاليف الضّرورات الحياتيّة نتيجة التّضخم في الاقتصاد العالميّ، وفي الوقت نفسه خلال الخمس السّنوات الماضية كانت هناك مراجعات جديّة في العديد من الملفات الاقتصاديّة والمعيشيّة في عُمان، وهذا مدرك تماما، وإن كان بحاجة إلى التّعجيل المحكم في بعض جوانبه، خصوصا فيما يتعلّق بالتّأمين وتحقيق درجة الاكتفاء لتشجيع دوران المال في المجتمع، بما فيها ذلك حاليا استثمار أموال الزّكاة والصّدقات مثلا، وسبق أن كتبتُ في ذلك بحثا على نهايات أزمة كورونا بعنوان «تنمية إيرادات أموال الزّكاة والصّدقات»، وتوظيفها في تحقيق الاكتفاء عند الباحثين والمسرحين عن طريق مركزيّة الدّولة نفسها، وليس عن طريق اللّجان المتناثرة.
إنّنا اليوم ينبغي أن نكون أكثر وعيا وتعقّلا أمام اضطرابات ليست بعيدة عنّا، ولا يمكن لأيّ دولة أن تعالج تحدّياتها الدّاخليّة في الجوانب الاقتصاديّة خصوصا إذا اختلّت فيها الجوانب الأمنيّة والسّياسيّة، والّتي ستقودها إلى دوامة الصّراع، ولا قدّر الله قد تقودها إلى الاحتراب والتّدخلات الخارجيّة، وحينها يصعب الرّجوع إلى النّقطة الأولى، بل ستتمدّد بشكل أكبر، وتكون جزءا من الصّراع ذاته، فلا ينبغي السّذاجة في معالجة هذه القضايا، وإنّما تعالج في مختبراتها الاقتصاديّة والوطنيّة الخالصة، والّتي غايتها المواطن ذاته، مدركة لما يدور حولها من تحدّيّات مختلفة ومتباينة.
وكما أسلفت لابدّ من الإسراع المحكم في علاج العديد من الملفات الدّاخليّة، فلست مع الإسراع غير المدروس لأجل التّسكين، ولست مع البطيء الّذي ينتج عنه تمدّد منطقة المرض، وهذا لا يحدث عن طريق الهرج والمسميات الوهميّة في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وإنّما عن طريق المختبرات والمراكز الاستراتيجيّة الوطنيّة، إذ يتقدّمها المخلصون، والّذين غايتهم الوطن واستقراره، والحفاظ على أمنه، وغايتهم معالجة قضاياه بعقلانيّة وواقعيّة وحكمة؛ لأنّ الجميع مدرك أنّ قوّة الوطن في الخارج هو قوّته ذاتيّا في داخله، وهذا يحتاج إلى شيء من القرب والشّفافيّة والحوار مع المكوّنات الوطنيّة، خصوصا من الشّباب والجيل الجديد، ونحن والحمد لله نعيش اليوم حالة متقدّمة جدّا من الاستقرار الأمنيّ، والاطمئنان المجتمعيّ، والتّقدّم الخدميّ والمعرفيّ، وحفاظنا على هذا القدر مع الرّغبة في استثماره إيجابا في ظلّ من الوحدة الوطنيّة؛ يجعل الطّريق مختصرا لعلاج التّحديّات الحالية وغيرها ممّا يجدُّ في المستقبل، وهذا لا يأتي إلّا عن طريق التّعقل والعمل، وليس عن طريق الشّعارات غير المنضبطة، وإلّا سنكون كالّتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.
بدر العبري كاتب مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاقتصادی ة فی داخلها الس یاسی عن طریق یاسی ة
إقرأ أيضاً:
إبراهيم شقلاوي يكتب: إلتقينا في طريق الجامعة
تستعيد اليوم الجامعات السودانية دورها الطليعي في الاستنارة والوعي وإعادة بناء المشروع الوطني. مستلهمة أبيات عبد المجيد حاج الأمين، التي غناها عبد الكريم الكابلي، “هبت الخرطوم في جنح الدجى ضمدت بالعزم هاتيك الجراح … والتقينا في “طريق الجامعة”، هذه المعاني تظل رمزًا حيًا للنضال الوطني والنهضة المجتمعية التي تقودها الجامعات في بناء المستقبل وشهادة التاريخ .
بالأمس اصدر رئيس الوزراء ، كامل الطيب إدريس، توجيهات لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بعودة الجامعات إلى العاصمة الخرطوم. بعد توقف قسري دام عامين بسبب الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 إثر الانقلاب الفاشل لمليشيا الدعم السريع وداعميها المحليين والإقليميين، لحظة فارقة تعكس تقاطع التحولات السياسية والاجتماعية والتعليمية في السودان.
ولا يمكن فصل هذا القرار عن السياق الأشمل لمحاولات إعادة بناء الدولة، في ظل واقع يتسم بالهشاشة والتعقيد وتعدد التحديات. لكنه يُعبّر في الوقت ذاته عن سعي حثيث لاستعادة رمزية العاصمة كمركز للسيادة والمعرفة والاستقرار، وتعزيز شرعية الدولة ومؤسساتها الأكاديمية.
ومن المهم أن يُنظر إلى هذه العودة ليس فقط كقرار إداري، بل كجزء من مشروع سياسي يسعى لإحياء الدولة من خلال ما تحمله الجامعات من رمزية وطنية ومكانة معرفية في الوجدان الجمعي السوداني. فالجامعات، بما تمثله من فضاءات للنقاش والتفكير والحراك الطلابي، تظل من أبرز المؤسسات القادرة على إعادة تشكيل المزاج الوطني وصياغة رؤى جديدة للمستقبل، في لحظة يتداخل فيها السياسي بالمجتمعي، والرمزي بالواقعي. ومن هنا، تُناط بها مسؤولية التقدم في ركب الاستقرار وإرساء دعائم الأمن والسلام.
ويكتسب هذا القرار أهميته من تزامنه مع مؤشرات أوسع على نية الحكومة الانتقال تدريجيًا من العاصمة البديلة بورتسودان إلى الخرطوم، في مسعى لاستعادة مركزية العاصمة القومية كموقع لصناعة القرار الوطني، وكمركز للحياة المدنية. وتأتي عودة الجامعات في هذا الإطار كمحاولة لإعادة رسم حدود جديدة تعبّر عن انسجام ممكن بين المكونين المدني والعسكري في الوعي العام، بعد أن كانت تلك العلاقة محل تجاذب واستقطاب واسع.
غير أن هذا الطموح، رغم وجاهته، يصطدم بواقع قاسٍ، يتمثل في هشاشة البنية التحتية للجامعات، والمخاوف الأمنية التي تحتاج الي ترسيخ ، وغياب خطة شاملة تضمن عودة آمنة ومستدامة للعملية التعليمية. وقد أدى هذا الواقع إلى انقسام داخل المجتمع الأكاديمي، عبّر عدد من الأساتذة والطلاب عن تحفظاتهم، للعودة بلا ضمانات حيث جاء الرد من وزارة التعليم العالي التي بدأت مجتهده ومهتمة بهذه العودة. .
كما تثير العودة تساؤلات جادة حول مدى استعداد الدولة لتحمل مسؤولياتها تجاه الجامعات وطلابها، من حيث إعادة تأهيل القاعات والمعامل، وتوفير بيئة تعليمية آمنة، وتخفيف الأعباء المالية عن كاهل الطلاب. ويُفاقم من هذا التحدي استمرار نزيف الكفاءات الأكاديمية إلى الخارج، في ظاهرة تهدد بانهيار منظومة التعليم العالي، وتُقوّض فرص إعادة بناء الشبكة المعرفية والمؤسسية للدولة، ما لم يتم تبنّي مقاربة إصلاحية حقيقية تنهض بها النخب وتتوافق بموجبها على مشروع وطني جامع لإعادة بناء العملية التعليمية.
من هنا، تبرز الحاجة إلى تحالفات استراتيجية مع القطاع الخاص والمجتمع المدني والشركاء الدوليين، لتوفير الموارد المالية والتقنية اللازمة لإعادة الإعمار. فالجامعات ليست كيانات منعزلة، بل هي مفاصل حيوية في جسد الدولة، تحتاج إلى بيئة حاضنة تضمن استدامتها وتعزيز دورها في مسار إعادة البناء الوطني.
إن عودة الجامعات إلى الخرطوم ليست مجرد استئناف للنشاط الأكاديمي، بل هي اختبار حقيقي لقدرة الدولة على تفعيل الاستجابات العملية، وبناء الثقة المفقودة مع المجتمعات، خاصة فئة الشباب، التي كانت ولا تزال الأكثر تضررًا من الحرب، والأكثر توقًا إلى أفق وطني جامع يعيد دمجهم في مشروع نهضوي يعبر عن تطلعاتهم.
هذا وبحسب مائراه من #وجه_ الحقيقة فإن هذه العودة محطة مفصلية في مسار إعادة البناء . لكنها تحتاج إلى ما هو أبعد من الشعارات والتصريحات، إلى رؤية سياسية متماسكة، وشراكة مجتمعية واعية، واستثمار جاد في التعليم بوصفه أداة للتحول الاجتماعي والمصالحة الوطنية. ذلك وحده هو الكفيل بإعادة الجامعات إلى سيرتها الأولى، كمنارات للمعرفة، ومراكز للإشعاع الفكري والنهضة المجتمعية.
دمتم بخير وعافية.
إبراهيم شقلاوي
الأربعاء 17 يونيو 2025 Shglawi55@gmail.com