من وحي صلاة الفاتح: دولة ٥٦ ماني حي
تاريخ النشر: 25th, August 2023 GMT
صلاة الفاتح (عند صاحبها الشيخ أحمد التجاني الياقوتة الفريدة): "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الفاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ والخاتِمِ لِمَا سَبَقَ نَاصِرِ الحَقِّ بِالحَقَِ والهَادِي إلى صِرَاطِكَ المُسْتَقِيمِ وعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ ومِقْدَارِهِ العَظِيمِ".
عرضت في الجزء الأول من هذه الكلمة لسيرتي الشيخين مدثر إبراهيم الحجاز وإبراهيم سيدي من شيوخ الطريقة التجانية، وموقعهما من أممية تجانية أو إسلامية يجيز فيها الشيخ الفوتي تلميذه مدثر الحجاز في مكة وينافح فيها إبراهيم سيدي في الفاشر عن منهج التربية لشيخ الإسلام إبراهيم نياس السنغالي ضد أقطاب التجانية في نيجيريا.
نشأت الدولة الاستعمارية كمشروع عسكري لتأمين مياه النيل، ونصت شهادة بحثها، اتفاقية الحكم الثنائي بين الحكومتين البريطانية والمصرية (يناير ١٨٩٩)، في مادتها الثالثة على أن تفوض الرئاسة العليا العسكرية والمدنية في السودان إلى موظف واحد ترشحه الحكومة البريطانية وتعينه الحكومة المصرية، ذلك في منصب "حاكم عموم السودان". صار بذلك سردار (قائد) الجيش المصري حاكم السودان العام، وتقلد المنصب الجنرال اللورد كتشنر (١٩ يناير ١٨٩٩ – ٢٢ ديسمبر ١٨٩٩) ثم الجنرال ونجت (٢٣ ديسمبر ١٨٩٩ – ٣١ ديسمبر ١٩١٦) وتبعه الميجر جنرال السير لي ستاك (١ يناير ١٩١٧ – ١٩ نوفمبر ١٩٢٤). اغتال مناضلون مصريون السير لي ستاك في وضح النار بالقرب من مبنى الحربية في القاهرة، وبموته أخذت الحكومة الإنجليزية بوصية اللورد ملنر (أغسطس ١٩٢٠) فصل القيادة المدنية عن العسكرية فتولى السير جيفري آرثر منصب حاكم عام السودان وتم تعيين اللواء هدلستون قائدا عام لقوة دفاع السودان التي نشأت في أعقاب ثورة ١٩٢٤ بغرض تحصين الجندية السودانية من نفوذ حركة التحرر المصرية.
أما السودان كاجتماع حي من أبطاله مثل الشيخ مدثر الحجاز والشيخ إبراهيم سيدي فأمر آخر. يطمس فلاسفة الدعم السريع وأنصاره الذين يلهجون اليوم بلعن دولة ٥٦ هذا التمييز بين الدولة الاستعمارية والاجتماع البشري طمسا، هذا ومدافعهم تدك الحصاد الحضري لهذا الاجتماع وتطلب إعدامه بالكلية. جاز اليوم وقد انكسر مرق هذا الدولة أكثر من مرة، بانفصال الجنوب في ٢٠١١ وبالحرب الضروس على سلطانها اليوم في الخرطوم، التأمل في مصادر أخرى لبراكسيس الحياة المشتركة، وترجمة البراكسيس من القاموس الماركسي وحدة العلم والعمل؛ من هذه المصادر المربع الديمقراطي المتقدم الذي جادت به الطبقة العاملة وآركيولوجي الاقتصاد القيمي للطرق الصوفية. قد يفتح إذن تاريخ مثل الشيخ مدثر الحجاز والشيخ إبراهيم سيدي شباكا على خيال آخر لهذا الاجتماع، غير الذي كان منبعه أقلام الخريجين الصحفية ووظائفهم الحكومية.
إن كانت المدارس الثانوية ومركزها كلية غردون هي أوتاد دولة الخريجين فقد تناقصت هذه الأوتاد (والتعبير لمنصور خالد) بتفكيك دولة الرعاية صامولة صامولة منذ تحرير المرحوم بدر الدين سليمان للجنيه في سبعينات القرن العشرين مرورا بتحريره مجددا بيد المرحوم عبد الرحيم حمدي في تسعينات القرن العشرين ثم تحريره الأخير بيد إبراهيم البدوي وجبريل إبراهيم حتى تدهورت إلى بنشات في شارع المين وسيل لا ينقطع من المكاواة. في المقابل، سكنت الطبقة العاملة فضاءا آخر خطوط جغرافيته ومادة اجتماعه السكك الحديد وورشها ومحطاتها وورش الغابات والري والخزانات وما استقر من عمارة الصناعة الحديثة. أما مثل المرحوم مدثر الحجاز والمرحوم ابراهيم سيدي من رعايا دولة ٥٦ فوطنهم فضاء اجتماعي وثقافي للسودان للكبير يمتد من سواكن حتى مايدوغري ونواكشوط وفاس، ركائزه سلسلة الخلاوى والزوايا وتنظيمات الطرق الصوفية التي أوكل الناس إليها تأمين جزء كبير من مؤونتهم وإصلاح ما بينهم وسلامة معادهم.
يقع القارئ على مادية هذه الفضاء في خرائط سياحة المشايخ، ذلك في مقابل سجل نقليات الموظفين أو منفستو عمليات الضباط. من ذلك جدول أسفار الشريف يوسف السيد شرف الدين من الأشراف الحسينية. ولد الشريف عام ١٩١٢ في فارس الواقعة بين مكوار والحاج عبد الله وغادرها في عمر العشرين إلى المندرة على النيل الأبيض، ومنها توجه غربا إلى أم سدر والشويحات بجبال التيوس وأم قرفة وكجمر حتى بلغ بارا، فسكن إلى أهله فيها. ثم قام إلى سودري ومنها إلى أرمل ثم أم قوزين في ديار الكبابيش ومنها إلى الملك الصياح وجبل العطرون والجزو والكيسان والفيسان وجبل الحلة حتى بلغ مليط التي انتقل منها إلى الفاشر. وغادر الفاشر إلى الجنينة ثم بلغ أبشي وعاد راجعا إلى الفاشر وبعدها توجه إلى كاس وجبل مرة ونيالا والنهود حتى وصل الأبيض ومنها إلى الرهد التي أقام فيها سبعة أشهر. وسافر بعدها إلى أم روابة وتندلتي وجبال تقلي ومركز رشاد. ومن هذه البلاد عاد راجعا إلى كوستي ومنها إلى الدويم ثم بلغ جبل أولياء فالخرطوم وأم درمان. وسافر من أم درمان إلى السوكي وسنجة والروصيرص ثم الكرمك وبايرص ثم رجع إلى تقلي والرحماتو ومنها توجه إلى القضارف وقلع النحل ثم الشوك ومنها إلى كسلا. ثم عبر إلى الحبشة فبلغ أسمره وأديس أبابا وغردة ثم مصوع ورجع منها إلى أروما ثم طوكر وسنكات وأركويت وبورتسودان ومنها إلى سواكن. ثم عبر البحر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج. واتصل هذا العشريني في أسفاره هذه بشيوخ عظام منهم السيد جعفر بغردة والسيدة علوية بأسمرة والشريف مريم بسنكات والسيد عبد الله العجوز والسيد أحمد الرحمانو بالحبشة والكوقلي بقلابات. وعند عودته إلى أم درمان من حجه انتقل إلى القضارف ومنها إلى دوكة ثم البويضة وفيها بدأ نشر طريقته البهارية القادرية وكان عندها في عمر الخامسة والعشرين. ثم استقر رأيه علي الإقامة في أم درمان فظل فيها أربعة أشهر، ثم غادر إلى عطبرة ومكث فيها عاما، ثم انتقل إلى حلفا وظل فيها سبعة أشهر وعاد منها إلى دنقلا ومنها إلى أرض الجعليين فعطبرة ومنها إلى البطانة ثم ود حاشي بقوز رجب حتى عاد به الحنين إلى فارس.
ربما أصاب الشريف يوسف من سياحته في هذه الجغرافية الأخرى وقع "التعدد" و"التنوع" من باب البراكسيس بأكثر مما فعل من يتربص بهذه المعاني تربصا، يتنطع بها للفوز بسلطان دولة ٥٦ فوق الرقاب. يريد فلاسفة الدعم السريع تجريف الأساس المادي للروابط التي تجعل مثل هذه السياحة أمر ممكنا. لكن فاتهم ربما أن للثقافة كثافة لا يمكن إعدامها بالرصاص مرة واحدة. فتحت سياحة الشيخ إبراهيم نياس الكولخي السنغالي، شيخ الإسلام عند الشيخين مدثر الحجاز والشيخ إبراهيم سيدي وعموم التجانية، باب فيوضه العرفانية، وهو القائل:
تطاول ليلي في دكار مؤرقا حنينا لما بين النقا وقباء
وفي موضع آخر:
وتيمني حبيك صرت مجمجما على البر والأجوا أروم وصالا
فغادرت أوطاني وأهلي وأسرتي أجوب الفلا لم أشك قط كلالا
بكولخ طورا أو بيوف ومرة بباريس دار الفاسقين كسالى
لبكين من كنتون بالصين نائيا وكولخ تدعو قد أبنت رحالا
وفي سواه:
حياتي بسنغال وطيبة جنتي وجدة من دون الجنان صراط
فأن مس عبدا أن يقيم بجدة فصبرا فهذاك المقام رباط
اعتمدت في هذه الكلمة على كتاب العميد عبد الرحمن الفكي ”تاريخ قوة دفاع السودان“ (الدار السودانية للكتب، ١٩٧١) وكتاب الشريف يوسف السيد شرف الدين ”قلب وادي النيل“ (بدون تاريخ) و“آفق الشعر عند الشيخ ابراهيم نياس رضي الله عنه“ المجلد الأول (بدون تاريخ).
m.elgizouli@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الشیخ إبراهیم ومنها إلى أم درمان دولة ٥٦
إقرأ أيضاً:
الإنسان العُماني.. سلوكٌ مُتّزن يعكس حكمة التاريخ
سلطان بن خلفان اليحيائي
في عالمٍ يعلو فيه الضجيج، يقدِّم الإنسانُ العُماني نموذجًا فريدًا لقوة السكينة واتّزان السلوك. لا يبحث عن الصدارة بالصوت المُرتفع، بل يترك أثره بالفعل الهادئ والموقف المتوازن. هذا النمط من الحضور ليس حالة طارئة أو استجابة ظرفية؛ بل سمة أصيلة تشكّلت على مدى قرون، تفاعلت فيها القيم مع الدين، والتاريخ مع البيئة.
وفي السياسة الخارجية، أثبت العُماني أن التوازن ليس حيادًا سلبيًا، بل فعلٌ نابع من وعيٍ ناضج. حين يُدعَى للوساطة، يحضر بخطابٍ رصين، يعالج التعقيد دون أن يقطع الخيوط، ويبني الجسور بدل أن يهدمها. من هذا السلوك الهادئ، اكتسبت عُمان مكانتها كصوت موثوق في محيطٍ يموج بالتقلبات.
الإنسان العُماني لا ينجرف خلف الشعارات، ولا تُغريه الاصطفافات المؤقتة. يتحرك بثقة نابعة من احترامه لذاته ومبادئه، ما أكسبه احترام الداخل والخارج. يتجنّب التدخّل في شؤون الآخرين، مؤمنًا بأن الاستقرار لا يُبنى بالضغط؛ بل بالحوار، وبأن القوة الحقيقية تكمن في حفظ التوازن لا في فرض السيطرة.
داخليًا.. يجسّد العُماني تجربة نادرة في التعايش المذهبي والوحدة الاجتماعية. يعيش الإباضي والسنّي والشيعي في بيئة تحتفي بالتنوّع وتُقدّر الاحترام، بعيدًا عن الاستقطاب. وتبقى القبائل متماسكة بفضل وعي مشترك، لا تُحرّكها العصبيات؛ بل يجمعها الضمير الوطني وروح المسؤولية.
هذا الانسجام ليس مظهرًا اجتماعيًا عابرًا؛ بل ركيزة أساسية في بناء السِلم الأهلي؛ فالعُماني لا يرى في الاختلاف تهديدًا، وإنما فرصة للإثراء. يجنح إلى العقل عند الانفعال، ويحتكم للحكمة في زمن المزايدات، ما كوّن شخصية مدنية قادرة على حماية هويتها الجامعة دون إقصاء أو انغلاق.
في حضن الطبيعة الصارمة، تشكّلت ملامح الإنسان العُماني؛ فمن الجبال اكتسب الثبات، ومن شجرتَيِ السُّمُر والغاف تمرّس على الصبر والصمود، ومن اللُّبان فهم أن العطاء لا يصدر إلا بعد الخدش. وكانت الأرض والمناخ، بصمتهما العميق، يشكّلان وعيه، ويزرعان فيه القيم، ويُهذّبان سلوكه بعيدًا عن ضوضاء التلقين.
دينيًا.. دخل العُمانيون في الإسلام طوعًا، دون قتال أو إكراه، وساهموا في نشره في شرق إفريقيا وجنوب شرق آسيا بالأخلاق لا بالسيف. لم يكونوا غزاة، بل دُعاة بالحكمة والسلوك، يقدّمون النموذج بالفعل قبل القول، ما رسّخ صورتهم كرسل سلام واحترام.
ومع سرعة التحوّلات في العالم، ظل الإنسان العُماني وفيًّا لتاريخه، متفاعلًا مع الحداثة دون أن يفقد جوهره. لم يكن ردّ فعله حياديًا؛ بل فاعلًا، يبحث عن الاتزان ويعيده حين يختل. هذا الحضور المتوازن ليس موجّهًا أو مصطنعًا، بل خُلقٌ متجذّر يظهر في الأزمات كما في الحياة اليومية.
إنه سلوك لا يُصنع؛ بل يُولد مع الإنسان العُماني، وينمو معه، ويتجلّى في تفاصيله اليومية قبل مواقفه الكبرى. هو يعلم أن الحكمة لا تحتاج إلى صوتٍ عالٍ؛ بل إلى وعيٍ عميق وإرادة راسخة، وهذا ما يجعل أثره باقٍ وإن لم يكن صاخبًا.