سامح قاسم يكتب | محمود الورداني.. صائد الخسارات النبيلة
تاريخ النشر: 24th, April 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أن تكتب كأنك تلتقط ما يتساقط من ذاتك في الطريق، أن تتقصّى أثرك لا لتخلّده، بل لتفهم كيف تسرّب منك، هذا ما فعله محمود الورداني طوال تجربته الأدبية والإنسانية. ليس كاتبًا بالمعنى الذي يُدرّس، بل شاهقٌ في هامشيّته، كثيفٌ في بساطته، وصدقه ليس موقفًا أخلاقيًا بل شرطًا وجوديًا. هو من أولئك الكتّاب الذين يكتبون لا ليقولوا شيئًا، بل لأنهم عاجزون عن التزام الصمت، ولأن ما في داخلهم أَثقل من أن يُحتمَل بلا ورق.
الورداني لا يكتب من علٍ، بل من زقاق ضيّق في شبرا، من عنابر السجن، من ليل الخنادق، من العتمة التي لا ينتبه لها الضوء، من وجوه العابرين الذين لا يُسجَّلون في قوائم "الرواة".
كتابته ليست واقعية ولا رمزية، بل تمشي على حافة الهاوية: لا تُجمل القبح، ولا تفضحه، بل تنظر فيه طويلًا حتى يتعذّر على القارئ أن يُحوّله إلى خبر عابر.
في روايته الموجعة "نوبة رجوع"، يُفكك محمود الورداني مفهوم البطولة كما تُسوّقه السلطة، ويعيده إلى مكانه الأصلي: في جسد الجندي، في خوفه، في تردّده، في نظرته الملتبسة إلى العالم. إنها ليست رواية عن الحرب، بل عن الحرب التي تظل في الرأس، وتظلّ تنهش الروح حتى بعد العودة، حتى بعد أن تنطفئ صافرات الإنذار. لم يكتب عن النصر، بل عن ما بعده، عن تلك اللحظة التي يشعر فيها المحارب أنه لم يعد يخصّ أحدًا، لا السلطة، ولا الثورة، ولا نفسه.
وفي "رائحة البرتقال"، يتجاوز سرد الحكاية إلى ما يشبه التلمّس داخل الذاكرة، لا بصفتها أرشيفًا، بل ككائن هشّ، حيّ، معطوب. المدينة ليست خلفية، بل بطلة منسية. العاطفة ليست موضوعًا، بل هواء تتنفّسه اللغة. اللغة هنا مشروخة، ومقصودة أن تكون كذلك. كل جملة كأنها خارجة من فم مرتجف، وكل فصل كأن الكاتب يكتبه وهو ينظر خلفه، لا خوفًا، بل كمن يتحقق من أن ماضيه لا يلاحقه.
أما كتابه الساحق في فرادته "الإمساك بالقمر"، فهو عمل لا يُصنَّف، لأنه لا يريد أن يُصنَّف. ليس سيرة ذاتية، ولا رواية، ولا شهادة. إنه قوس من الكتابة يتّسع لكل ما لا تقوله السير الرسمية: الشكّ، والسجن، وتحوّلات الجسد، وتآكل الحلم، وتحلل الرفاق. هنا، يكتب محمود الورداني كمن يكتب من الداخل، لا عن الذات، بل من داخل الذات. كمن يحفر في اللحم ليصل إلى العظم، لا ليعرضه، بل ليفهم كيف انكسر.
الورداني لا يكتب عن الطبقة، بل من داخلها. لا يكتب عن الناس، بل كواحد منهم. ومن هنا تأتي خطورته: إنه لا يسمح للقارئ بأن يتفرّج. يسحبك معه إلى الحارة، إلى العتمة، إلى عرق الظهيرة في المصنع، إلى همهمة الرفاق في الزنزانة. لا يبحث عن مجاز، بل عن ما هو أوضح من أن يُقال: الألم حين لا تجد له اسمًا، والخذلان حين يصبح روتينًا، والحنين الذي لا يعود إلى شيء بعينه.
ولذلك، فإن محمود الورداني هو كاتب "المواربة النبيلة". لا يصرخ، بل يوشوش. لا يقدّم خلاصات، بل شكوكًا. لا يفتح النوافذ، بل يريك كيف يُمكن لظلّ صغير أن يُنقذ نهارًا بأكمله. هو كاتب يتقن الصمت، لكنه يعرف تمامًا متى يقول الكلمة التي لا تُنسى.
وفي زمن تُشترى فيه الأصوات، وتُباع فيه الحكايات كسلع في أسواق الجوائز، يبقى الورداني شاهدًا نادرًا على ما يُنسى. كاتبًا لا يعيد صياغة العالم، بل يجلس على رصيفه، ويكتب عنه كما هو، لا كما ينبغي أن يكون. وهذا وحده يكفي. بل هذا، وحده، هو الأدب.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: یکتب عن
إقرأ أيضاً:
كاتب سعودي يطالب بإحالة جرائم الإنتقالي بحضرموت إلى الجنائية الدولية
قال الكاتب والمحلل السياسي السعودي، د. تركي القبلان، إن جرائم الإنتقالي المرتكبة ضد أفراد القوات المسلحة اليمنية في حضرموت، شرق اليمن، ليست حوادث معزولة بل تمثل انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني وترتقي إلى جرائم حرب ينبغي عدم التساهل معها.
وطالب القبلان بإحالة هذا الملف للمحكمة الجنائية الدولية.. معتبرا ذلك خطوة ضرورية لترسيخ مبدأ عدم الإفلات من العقاب وتثبيت حق الضحايا في العدالة والإنصاف.
وأضاف في منشور -رصده محرر مأرب برس- على حسابه في منصة إكس: '' كما أن الجرائم المرتكبة في كل من حضرموت والفاشر لا يمكن فصلها عن السياق الأوسع الذي تلقت فيه الأطراف المنفذة دعمًا إقليميًا سياسيًا أو لوجستيًا أسهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، في تمكينها من الاستمرار في ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني''.
ووفقًا للمادة 25(3)(ج) و(د) من نظام روما الأساسي فإن أي طرف يقدّم مساعدة أو دعمًا أو تسهيلًا لارتكاب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة ، مع علمه بالظروف الواقعية التي تُرتكب فيها يتحمل مسؤولية جنائية فردية . كما تنشأ المسؤولية بموجب المادة 28 إذا ثبت علم القادة أو قدرتهم على منع الجرائم وامتناعهم عن ذلك، بحسب القبلان.
واعتبر الكاتب السعودي، إن استمرار هذا الدعم الإقليمي في ظل نمط موثّق من القتل خارج نطاق القانون ، وتصفية الجرحى ، والإعدامات الميدانية ، والإخفاء القسري ، أسهم في خلق بيئة إفلات من العقاب شجّعت على تكرار الجرائم في مسارح مختلفة، من حضرموت في اليمن إلى الفاشر في السودان، بما يؤكد أن هذه الانتهاكات ليست فقط أفعالًا فردية، بل نتيجة بنية دعم مكّنت الجناة من الاستمرار دون مساءلة.
ويوم أمس قال بيان رئاسة هيئة الأركان العامة في الجيش اليمني، إن اعتداءات سافرة ارتكبتها مجاميع تابعة للمجلس الانتقالي بحق منتسبي المنطقة الأولى في وادي وصحراء وهضبة حضرموت أسفرت عن استشهاد 32 مضابطا وجنديا وجرح 45 آخرين.
واشار البيان إلى إنه لا يزال عدد من الضباط والأفراد في عداد المفقودين، كما قامت تلك المجاميع المسلحة بتصفية عدد من الجرحى وإعدام المحتجزين، في انتهاك صارخ لكافة القوانين المحلية والدولية.