الجزيرة:
2025-08-02@23:46:28 GMT

الشاب الذي اغتالته إسرائيل.. لكنه فضحهم إلى الأبد

تاريخ النشر: 29th, April 2025 GMT

الشاب الذي اغتالته إسرائيل.. لكنه فضحهم إلى الأبد

قُتل الصحفي الشابّ في قناة الجزيرة، حسام شبات، يوم الرابع والعشرين من مارس/ آذار، حين استهدفته طائرة مُسيّرة إسرائيلية بصاروخ واحد أثناء وجوده داخل سيارته.

وقد أفاد صحفي آخر قام بتوثيق آثار الجريمة أن حسام كان قد أنهى للتوّ مقابلة صحفية، وكان متوجهًا إلى المستشفى الإندونيسي في شمال غزة من أجل بث حي على قناة الجزيرة مباشر.

وقد اعتبرت لجنة حماية الصحفيين عملية قتله جريمة قتل متعمدة. وكان حسام يساهم أيضًا في موقع "دروب سايت نيوز" الأميركي، حيث استخدم الصحفي جيفري سانت كلير تقاريره الميدانية الحية ضمن "يوميات غزة" التي نشرها.

ترك حسام رسالة قبل استشهاده جاء فيها:

"إذا كنتم تقرؤون هذه الكلمات، فهذا يعني أنني قد قُتلت – على الأرجح استُهدفت – من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي.. لقد كرست الثمانية عشر شهرًا الماضية من حياتي كاملةً لخدمة شعبي.

وثقتُ أهوال شمال غزة دقيقةً بدقيقة، مصممًا على كشف الحقيقة التي حاولوا طمسها.. وأقسم بالله إنني قد أديتُ واجبي كصحفي. خاطرتُ بكل شيء لنقل الحقيقة، والآن، أرقد بسلام…".

في وقت سابق من يوم استشهاده، استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي الصحفي محمد منصور، العامل لدى قناة فلسطين اليوم، مع زوجته وابنه، عبر قصف مباشر لمنزله في خان يونس.

إعلان

وبعد اغتيال شبات، احتفى الجيش الإسرائيلي بقتله علانيةً، إذ نشر عبر حسابه الرسمي على منصة "إكس" منشورًا تفاخر فيه بـ"تصفية" حسام، قائلًا: "لا تدعوا السترة الصحفية تخدعكم، حسام كان إرهابيًا". وكان الاحتلال قد زعم قبل ستة أشهر أن شبات وخمسة صحفيين آخرين – جميعهم يعملون لدى قناة الجزيرة – ينتمون إلى حركة حماس.

في ذلك الوقت، كان شبات يغطي الأحداث من شمال غزة، تلك المنطقة التي لم يتبقَّ فيها سوى قلة من الصحفيين، حيث كانت إسرائيل قد أطلقت حملة إبادة مركزة، وكان شبات وزملاؤه يرابطون هناك لتوثيق الجرائم الإسرائيلية وتقديم تغطية مستمرة.

كان حسام يدرك أن إعلان الاحتلال له كـ"عنصر من حماس" يعني نية مبيّتة لاستهدافه. لذلك دعا مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي إلى رفع أصواتهم مستخدمين وسم "#احموا_الصحفيين"، قائلًا:

"أناشد الجميع نشر الحقيقة حول ما يتعرض له الصحفيون، لفضح خطط الاحتلال الإسرائيلي الرامية إلى فرض تعتيم إعلامي. انشروا الوسم وتحدثوا عنا!".

وكانت آخر رسالة صحفية له، والتي أُرسلت قبل ساعات من مقتله، قد تُرجمت من العربية إلى الإنجليزية بواسطة شريف عبد القدوس، وافتتحت بهذه الكلمات:

"كانت الليلة حالكة السواد، يغمرها هدوء حذر. خلد الجميع إلى نومٍ قلق. لكن السكون سرعان ما تحطّم تحت وطأة صرخات مفزعة. وبينما كانت القنابل تمطر السماء، كانت صرخات الجيران تعلن اللحظات الأولى لاستئناف الحملة العسكرية الإسرائيلية. غرقت بيت حانون في الذعر والرعب".

إنه وصف مروع للواقع، يكشف بوضوح السبب الذي دفع إسرائيل إلى إسكات حسام شبات.

وصل عدد الصحفيين الفلسطينيين الذين قُتلوا منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى 236 شهيدًا، بانضمام حسام شبات إلى هذه القائمة الدامية. وفي السابع من أبريل/ نيسان، قصفت إسرائيل خيمة إعلامية في خان يونس، مما زاد من ارتفاع عدد الضحايا.

إعلان

منذ أن أنهى نتنياهو وقف إطلاق النار، انطلقت إسرائيل في موجة قتل عارمة، أسفرت خلال الأيام الثلاثة الأولى عن استشهاد 700 شخص وإصابة 900 آخرين، ولا تزال المجازر مستمرة.

يعلم دعاة الدعاية الحربيّة أنّ خططهم تنهار أمام الشهادات الصادقة والمعارضة الحرة. فالبروباغاندا الحربية تقتضي دومًا فرض الرقابة والصمت.

لم يكن حسام شبات الفلسطيني الوحيد الذي ترك خلفه توثيقًا لعملية قتله والمسؤولين عنها. فقد كان رفاعة رضوان من بين خمسة عشر مسعفًا تم إعدامهم على يد إسرائيل، قبل يوم من اغتيال شبات، وقد ترك تسجيلًا مصورًا لعملية قتله، مما أسقط روايات الاحتلال الكاذبة.

في صباح الثالث والعشرين من مارس/ آذار، قتلت قوات الاحتلال العاملين في الإغاثة الإنسانية برفح، وكانوا ثمانية من طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني، وستة من الدفاع المدني الفلسطيني، وموظفًا من وكالة الأونروا، أثناء تنفيذهم مهمة انتشال الجرحى والشهداء المدنيين.

وبعد انطلاقهم لتنفيذ مهمتهم، انقطعت أخبارهم لأيام. وأطلق الناطق باسم الدفاع المدني، محمود بصل، مناشدات يائسة إلى العالم للضغط على إسرائيل لكشف مصيرهم. حتى الثلاثين من مارس/ آذار، حين تم استخراج جثثهم من قبر جماعي ضحل، وهم لا يزالون يرتدون زيهم الرسمي المضيء.

وقد كشفت الفحوصات الجنائية التي أجراها طبيب تعاقد مع مستشفى في خان يونس عن علامات تشير إلى "عمليات إعدام ميداني" بناءً على أماكن الإصابة القريبة والمقصودة.

وقد عُثر على الضحايا وهم لا يزالون يحملون أجهزة الاتصال، والقفازات، والحقائب الطبية. ونشرت صحيفة الغارديان البريطانية شهادات الطبيب، وأشارت إلى أن إسرائيل قد دمرت النظام الصحي في غزة وقتلت ألفًا من العاملين في القطاع الطبي، وهو ما يرقى إلى جرائم حرب.

وفي الأول من أبريل/ نيسان، غطت صحيفة "نيويورك تايمز" المجزرة، واضعة في عنوانها اقتباسًا على لسان الأمم المتحدة يتهم إسرائيل بقتل عمال الإنقاذ. لكنها افتتحت التقرير بإبراز نفي الاحتلال، حيث ادّعت إسرائيل أن تسعة من القتلى كانوا "مقاتلين فلسطينيين".

إعلان

واتّبعت الصحيفة أسلوبها المعتاد في تقديم الروايتين (رغم الفارق بينهما)، مستعرضةً بشاعة المشهد وشهادات وكالات غزة والأمم المتحدة، ثم منح المساحة مجددًا لدفاعات الجيش الإسرائيلي غير القابلة للتصديق، بزعم أن "عددًا من المركبات كانت تتقدم نحو الجنود الإسرائيليين بطريقة مريبة ومن دون إشارات طوارئ".

وزعمت إسرائيل أن من بين القتلى محمد أمين إبراهيم شوبكي، الذي شارك في هجمات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، رغم استحالة تصديق هذه الرواية في ظل الكم الهائل من القنابل التي أسقطت على غزة – بكمية تفوق ما أُلقي خلال الحرب العالمية الثانية – بزعم استهداف حركة حماس فقط، لا عشرين ألف طفل فلسطيني قتلوا جراء ذلك.

غير أن العثور على الهاتف المحمول الذي سجل ما حدث قلب الرواية الإسرائيلية رأسًا على عقب. فقد التقط رفاعة رضوان هاتفه المحمول أثناء تعرض قافلتهم للنيران، وسجل رسالة مؤثرة وهو يركض باتجاه النيران الإسرائيلية محاولًا إنقاذ المصابين. خاطب والدته قائلًا:

"أمي، سامحيني… أقسم بالله إنني اخترت هذا الطريق فقط لأساعد الناس".

وأظهرت اللقطات أن أضواء سيارات الإسعاف كانت تعمل بوضوح، ومع ذلك لم توفر لهم أي حماية.

أكد الشريط المصور ما كان العالم يعرفه بالفعل، وكشف عن شجاعة إنسانية نادرة لشاب فلسطيني واصل إنقاذ الأرواح وسط إبادة جماعية لا توصف.

لقد كان شريط رفاعة رضوان مؤثرًا إلى درجة أن صحيفة "نيويورك تايمز" اضطرت، في السادس من أبريل/ نيسان، إلى نشر عنوان صريح يشير إلى أن "عمال الإغاثة في غزة قُتلوا برصاص إسرائيلي". ومع ذلك، منح التقرير، الذي كتبته إيزابيل كيرشنر، مساحة واسعة لمسؤولي الاحتلال لتقديم دفاعاتهم مجددًا، متجاهلًا المنهجية الإسرائيلية في استهداف القطاع الصحي في غزة.

إن المؤرخين الفلسطينيين يتحدثون بلغة الإنسانية. فهم يروون ما يجري بحقهم كما كتب حسام شبات:

إعلان

"كنت أنام على الأرصفة، في المدارس، في الخيام – في أي مكان أجده. كانت كل يوم معركة من أجل البقاء. تحملت الجوع لأشهر، ومع ذلك لم أتخلَّ يومًا عن شعبي".

كما ترك كلمات خالدة:

"لا تتوقفوا عن الحديث عن غزة. لا تسمحوا للعالم أن يغض الطرف. استمروا في النضال، وواصلوا رواية قصصنا – حتى تتحرر فلسطين".

إنها كلمات حكيمة ومؤثرة، ورسالة بالغة الأهمية لشعب يتعرض لإبادة جماعية. وهي تمامًا الكلمات التي يحتاج العالم إلى سماعها اليوم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات حسام شبات

إقرأ أيضاً:

مراسلة الجزيرة نت.. قصة أم تطعم أبناءها من رماد المجاعة

غزة- في معركة الجوع يكون صراعك مع شبح وهمي، حتما يهزمك لأنه يوهن قوتك من الداخل، يرديك صريعا، أو يصنع منك جثة واهنة أشبه ما تكون برجل آلي، تجرُّ الخطى جرا.

تحتاج أن تكرر قراءة الخبر كي تفهمه، ويحتاج من يحدثك أن يعيد مرارا كي تدرك ما يقول، ستضطر للجلوس لالتقاط أنفاسك بعد عدة أمتار من المشي.

أنت كصائم منذ مدة، لكن صيامه مستمر لأجل غير معلوم، وليس في جسده وقود مخزّن أو زاد مشبّع إلا بألم الفقد وشحنات الخوف وبؤس النزوح.

وكل ذلك عاشته ولا تزال مراسلة الجزيرة نت في غزة يسرى العكلوك، وهي اليوم تروي تفاصيله كواحدة من أهالي القطاع الذين يواجهون التجويع الإسرائيلي بكل أشكاله، ويعيشون الحصار والحرب دون حول ولا قوة بتأمين حتى أبسط احتياجاتهم.

الصحفية الأم

صباح أمس، هرول طفلي الصغير نحوي حاملا حذاءه، يطلب مني أن أساعده في انتعاله، أسأله عن السبب، فيجيبني أنه يريد أن يصطف كما الأطفال الذين رآهم من النافذة حاملين أواني ليعبئوها طعاما أمام قدور التكية في المخيم المقابل أسفل المنزل، كان الطلب أشبه بصفعة على وجه أم لم تتخيل يوما أن تعجز عن "إشباع" أطفالها!

"لقيمات يقمن صلبه" قاعدة جديدة كلَّفني إقناع أطفالي بها جهدا، واستغرقت مني وقتا وجدالا مطولا حتى أُعوِّد أولادي عليها، فملء المعدة ترف نحن في غنى عنه حاليا، لكنني اليوم بتّ أتبعهم كي يأكلوا أو أن يزيدوا لكنهم يرفضون، لا أدري أهو انكماش المعدة، أم أن أنفسهم عافت الأصناف نفسها التي يتناولونها منذ أشهر.

يبدو طبق "البقلة" وجبة أساسية، وهي عشبة تنمو من تلقاء نفسها، كنّا قديما في بستاننا المُجرَّف نجمعها مع خشاش الأرض ونرميها، لكن أمي تراها ورقا يؤكل، تُجمّل طعمها مع قليل من الملح والخل، تجيب عن تساؤلات أحفادها عنها، حين تذوقوا اللقمة الأولى منها "كلها حديد يا تيتا (جدة) مفيدة كثيرا كسبانخ باباي (فلم كرتوني للأطفال)"، يبتلعونها، لكني أزدريها وأبتلع معها دمعي.

إعلان

أما أنا فأخجل من الشكوى بين أهلي وصديقاتي، أو أن أعبّر عن حاجتي الملحة للقهوة التي تعد وقودا للتركيز عندي، بعدما صرنا نحتسي بذور الحمص المحمص والمطحون بدلا منها، شراب لا يشبه القهوة إلا في لونها ومراراتها، لا يعدل مزاجا ولا يبدد شتاتا ولا يصلب تركيزا.

لماذا أصبحت مدة إعدادي لقصة إنسانية تستغرق أكثر من أسبوع بعد أن كنت أتمها بيومين أو 3؟ تتساءل الصحفية يسرى ثم تواصل، كيف تمكنت الحرب مني فنهشت عافيتي حتى صرت أتمنى أن يمر يوم من دون أن أتناول فيه جرعات أدويتي المكثفة؟، والتي أتجرَّعُها معظم الأحيان على معدة فارغة، معدة تستقر فيها الجرثومة، وتتطفل عليها الأنتميبا، ويتفنن القولون العصبي بإيلامي، وترتبك فيه أمعائي المتلبكة من الماء المسموم الذي نملؤه من صهاريج جوالة لا نعرف مصدرها.

الوقوف في الطوابير للحصول على الطعام من التكايا الخيرية صار حال الغزيين جميعا (الجزيرة)حال مشترك

في شوارع غزة جلها كل الآباء نكسوا رؤوسهم، يُرتِّقون عِفَّتهم بالصمت، كخاسر عائد من حرب ضارية مع معركة الظفر بلقمة، مع التجار الذين يتخذون من الجوع صفقات للبيع والشراء.

والناس هائمة على وجوهها، صامتة بملامح يفضحها البؤس، سيدات عفيفات كريمات بشفاه متشققة ووجوه شاحبة يحملن أواني وقدورا في أكياس سوداء لئلا يراها الناس، ويسابقن الخطى قبل أن تنفض التكايا.

يُصرُّ المجوَّعون أن سلاح الجوع بات أشد فتكا من صاروخ يقتلك أو يفتك بك أو يُذيبك مرة واحدة، فالجوع يقتلك ببطء وبرود، ويميت فيك خلاياك، وتتصارع فيه أنفاسك فتسمعها وهي تختفي منك شيئا فشيئا.

صار مشهد فتح أكياس القمامة والتجمع حول الحاويات اعتياديا، أطفال يترصدون حبات حمص تساقطت تحت أقدام الباعة، يلعقون بقايا المكمل الغذائي من قلب سلال القمامة، أو يمدون أصابعهم في داخل المعلبات الفارغة للملمة العوالق في الحواف.

وأطفال آخرون ينتظرون أن يفرغ بائع الفلافل من عمله حتى يلتقطوا فتات ما تناثر ويأكلوها بِنَهم، ورضُع جياع تختلط أصواتهم المنبعثة طيلة الليل جوعا، تسقيهم أمهاتهن ماء أو يغلون لهم الحلبة بدلا من الحليب الصناعي الذي يصل سعره إلى 100 دولار نقدا، غير أن تاريخ صلاحيته منته أصلا.

قرصة الجوع وقرقرتها هو صوت أنين النفس المنكسرة، لأعزة قوم أذلتهم الحرب وأهانهم الجوع، بعد أن كانوا أهل الرفاه وأصحاب الوفرة، حين فاضت أطباقهم بما لذ وطاب.

حتى سياقات محادثاتنا ورسائلنا بين الأصدقاء تغيرت، فقد كنا عن قريب نستقبل رسائل من الصديقات يستعرضن فيها إنجازاتهن، "لقد عجنت العدس خبزا"، و "صنعت كعكة من المُكمِّل الغذائي"، لكننا اليوم صرنا نتبادل طرق النجاة من الموت جوعا، وتحولت الرسائل كيف تحمي أمعاءك من التعفن؟ من يقايضنا حفاضات أطفال بكيلو طحين؟

محاربة النفس

الناس في غزة سواسية في الجوع، إلا التاجر الفاجر واللص والمتسلقين على ظهر جوعنا إلى رغد العيش، فالفقير والغني هنا سيان، ورغم أنني أملك رصيدا في حسابي البنكي كنت أجمعه لأطفالي إلى حين يكبرون أو هكذا كنت أظن، خاصة أن عبء توفير الحياة الكريمة غير مقسوم على اثنين، فهم أبناء لرجل شهيد، وأتحمل وحدي عناء أن يعيشوا كراما.

إعلان

لكنني وجدت أني ألجأ لقرشي الأبيض لاتقاء اليوم الأسود، ولا شيء أشد سوادا من هذه الأيام، فأضطر لكل ما ادخرته يوما كي يأكلوا الحد الأدنى من الطعام الذي يبقيهم "أحياء"، أحياء فقط.

ومع هذا فلا أقبل على نفسي أن أقوم بالبذخ الذي يدفعني لشراء شوكلاتة واحدة بـ20 دولارا بعد أن كان ثمنها ربع دولار، أو شراء كيلو من المانجو بـ100 دولار بدلا من 5 دولارات.

المانجو "فاكهتي الأثيرة" التي رأيتها أول مرة منذ عامين على بسطة يتيمة، حيث مررت من أمامها، وتوقفت أمام جلالتها، خفق قلبي وأنا أقلّبها بكفي كأني أمسك كنزا أتحرّق شوقا لالتهامه، شممتها وعبأت رئتيّ من رائحتها، وبينما أنا في سكرة تذكري لمذاقها، سألت امرأة بجواري البائع كم ثمنها فرد من دون أن يلتفت 80 شيكلا (حوالي 25 دولارا).

تمعَّنتُ تلك الثمرة الجوهرة ووضعتها برفق في مكانها ثم انصرفت، فاشتعل فيّ الصراع بين أن أكون أمّا مثالية بعيون أطفالي، أو متلونة أدّعي المأساة في العلن وأخونها في الخفاء، أو أن أكون مُعينة للتاجر الذي قال للسيدة التي عاتبته من صدمتها بالسعر "ما بدك تشتري غيرك بيشتري"!

يعود الغزيون شهداء وجرحى من مراكز المساعدات التي لا بديل عنها (الفرنسية)معاناة أخرى

تجار ولصوص ينفّذون دورهم باقتدار، يتوحَّدون مع جيش الاحتلال علينا، ويؤدون دورا أساسيا في ملهاة سوداء متكاملة الأركان، تتالت مشاهدها: أن نُقتل ثم نحاصر ثم نجوّع ثم يصير غاية أهدافنا ليس النجاة بأنفسنا من الموت قصفا بل النجاة بأجسادنا منه جوعا.

ويتبع ذلك كله مشاهد إدخال المساعدات يدفعون بذلك أدواتهم من إعلاميين ونشطاء يُروِّجون لانتهاء التجويع، ثم يقتلون من ينوي تأمينها أو توزيعها بالعدل، ويُسهّلون في المقابل الأمر للصوص يسرقونها، فلا التجويع انتهى ولا المساعدات وصلت.

يسألني طفلي (10 سنوات) كيف يتركنا العالم جوعى؟ وبينما أهمّ بالإجابة، تقمّصت ابنتي الكبرى (13 عاما) دوري، وردت "نحن ننزف دما منذ عامين وقد تركونا كذلك هل سيقهرهم أن نموت جياعا؟".

لقد فهما بلا جهد مني وأصابا بلا تعب منهما، واقعٌ يشكل وعي أطفالنا، يبدو بمثابة منهاج أسقطت مدينتهم معظم المسلمات منه حين مات فيها الناس جوعا، وصار دمهم ماء، وحين وجدوا أنهم وحدهم دون نصر من عربي، أو سند من مسلم.

مقالات مشابهة

  • ولاية الجزيرة رمز للجهاد والتضحية
  • مراسلة الجزيرة نت.. قصة أم تطعم أبناءها من رماد المجاعة
  • الاحتلال يعتقل شابين من نابلس وقلقيلية
  • هيقابل ربنا شهيد | فيديو مثير من محمد رمضان يخص الشاب ضحية حفله
  • انقذ الجمهور .. تفاصيل وفاة الشاب حسام ضحية حفل محمد رمضان
  • ننشر أول صور لـ الشاب ضحية حفل محمد رمضان في الساحل الشمالي
  • مقررة أممية تندد بتهديدات إسرائيل لمراسل الجزيرة أنس الشريف
  • عودة الهذالين.. صوت النضال الذي أسكتته إسرائيل
  • ما الذي يخطط له الاحتلال في السويداء؟ ممر إنساني أم فخ عسكري؟
  • عراقجي: إيران لن تقبل بأن تمضي الأمور كما كانت عليه قبل حرب الـ12 يوم مع “إسرائيل”