غزة والامتحان الأخلاقي للنظام الدولي
تاريخ النشر: 6th, May 2025 GMT
يحتاج العالم الذي يعيش أحد أكبر مآزقه الأخلاقية أن يطرح على نفسه في هذه اللحظة التاريخية الصعبة سؤالا وجوديا وعميقا وهو هل بقي هناك ما يمكن تسميته بـ«الضمير العالمي»؟ وهل ما زال هناك معنى لعبارات مثل «الشرعية الدولية» و«القانون الإنساني»؟ هذه أسئلة مهمة ليس من أجل غزة فقط، وهي لا تنتظر إجابة عن مثل هذه الأسئلة ولا تعنيها؛ فقد تجاوز وعيها بالعالم كل هذا، ولكن من أجل العالم نفسه ومن أجل إنسانيته؛ فما يحدث في غزة تجاوز بمراحل «المأساة الإنسانية» إلى ما يمكن أن يكون «لحظة الحساب الأخلاقي» لنظام دولي ينهار بصمت ولكن بخسائر إنسانية فادحة.
تجاوزت سياسة التجويع التي يعتمدها الكيان الصهيوني في غزة خطر «التهديد» إلى لحظة الواقع المخيفة التي بدأت تفتك بالجميع، رجالا ونساء، أطفالا ومرضى، كل سكان غزة الذين يتجاوز عددهم مليوني إنسان، نصفهم من الأطفال، يتضورون جوعا في ظل حصار مطبق هو الأبشع في تاريخ المنطقة ومن بين أبشع حصارات التجويع في التاريخ. لا أحد ينظر للجوانب الإنسانية في هذه الاستراتيجية، ترك الأمر برمته للتقديرات العسكرية التي تمسك بها مجموعة من الطغاة والمجرمين. وإذا كان القانون الدولي يصنف استخدام التجويع أداة للابتزاز والضغط السياسي بوصفها جريمة حرب متكاملة الأركان فإن الأمر الآن تجاوز هذا؛ فإسرائيل لا تريد من التجويع أداة للابتزاز السياسي ولكن أداة للإعدام.. فليس لإسرائيل مطالب تضغط من أجلها إنما مطلبها التخلص من سكان قطاع غزة، حتى الأطفال منهم. ما يعني أن هدف التجويع هو الإبادة وحدها.
فعند انعدام المطالب السياسية تتضح نية وتكتيك الإبادة الصريحة.
وما تبيّنه التقارير الميدانية من قطاع غزة، من شهادات لأمهات دفنّ أطفالهن الذين ماتوا جوعا، ومنظمات إغاثة عاجزة عن الوصول، وعمال إنسانيين يُقتلون أثناء أداء مهامهم، يكشف عن سقوط مروع للإنسانية التي هي مشترك بين جميع البشر دون اعتبار ديني أو قومي أو جغرافي.
لكن الخطر لا يتوقف عند حدود غزة؛ فحين يُشرعن التجويع كوسيلة لإدارة الصراع، فإننا لا نواجه فقط انهيارا لمبادئ القانون الدولي، بل نستطيع أن نرى تسارعا مرعبا في تفكك نموذج ما بعد الحرب الباردة، الذي طالما احتكر الغرب من خلاله تعريف العدالة، رغم أنه بقيادة الولايات المتحدة يحاول جاهدا حماية هذا النظام من الانهيار، إذا ما تجاوزنا أفعال بعض الشخصيات مهما كانت مؤثرة وقيادية. والواضح الآن أن مؤسسات الأمم المتحدة التي بُنيت لحماية المدنيين، تقف عاجزة أمام إبادة معلنة وواضحة لشعب بأكمله، في مشهد يهدد فكرة الإنسان ذاتها.
والعالم مطالب اليوم للعمل سوية من أجل إيقاف هذه المهزلة الأخلاقية والسياسية، ليس من أجل الفلسطينيين فقط، ولكن من أجل بقاء نظام عالمي يفترض أنه يستند إلى شيء من العدالة. ولا يجب أن تكون مرحلة «ما بعد النظام» التي يبدو أن العالم يعيش تفاصيلها الواضحة الآن تكون بهذا المستوى من الفوضى ومن الإجرام وإلا فإن عدوى هذا قد تنتقل من الساحات الجغرافية الكبرى إلى ساحات الدول فتعم الفوضى في كل دولة على حدة.
وإذا كان الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، يظن أن استمرار هذا الواقع المأساوي سيضمن أمن إسرائيل، فإن ذلك يعكس قراءة قاصرة للواقع. فلا يمكن لأي كيان أن ينعم بالأمن وحوله محيط جائع، ومريض، ومجرد من الكرامة ومثقل بكل مظالم الدنيا. فلا سلام يمكن أن يُبنى على أنقاض المجاعة والمظالم، ولا مستقبل يُصنع بالسكوت على جرائم التجويع.
والرهان الكبير الآن يتجاوز فكرة وقف إطلاق النار إلى إعادة الاعتبار لفكرة الإنسان، وقيم القانون الدولي ولمنظمة حقوق الإنسان ولمجلس الأمن الدولي، ولمحكمة العدل الدولية وللمحكمة الجنائية الدولية ولفكرة العيش المشترك التي أخرجت من معناها تماما.
أما غزة فلم تعد قضية فلسطينية أو عربية، إنها قضية إنسانية العالم إن كان العالم لا يزال يستطيع أن يعي ذلك، وكل دقيقة يتأخر فيها العالم عن إنقاذ سكان غزة من هذه المجاعة وفتح ممرات إنسانية آمنة هي صفعة مدوية لكل ما نعتقد أننا نمثله في الحضارة الإنسانية. وإنقاذ غزة أكبر بكثير من إنقاذ الغزيين؛ إنه إنقاذ لما تبقى من إنسانيتنا المشتركة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من أجل
إقرأ أيضاً:
مجلس الدولة يوقع مذكرة تفاهم مع المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص «UNIDROIT» في روما
وقع المستشار أحمد عبود، رئيس مجلس الدولة المصري، وماريا كيارا مالاجوتي، رئيسة المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص - اليونيدروا، مذكرة تفاهم اليوم، 13 مايو 2025، في مقر المنظمة بروما، في خطوة مهمة لتعزيز التعاون القانوني الدولي، وذلك بحضور السفير بسام راضي، سفير جمهورية مصر العربية لدى إيطاليا، والدكتور إجناثيو تيرادو، الأمين العام للمعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص.
تهدف هذه المذكرة إلى تعزيز التعاون بين الجانبين في مجالات تحديث التشريعات، تبادل المعرفة القانونية، ودعم جهود توحيد وتحديث القوانين المتعلقة بالتجارة الدولية. كما تسعى إلى تعزيز التعاون في مجالات الفقه القانوني والتدريب القضائي، بما يساهم في تطوير بيئة قانونية أكثر كفاءة وشفافية في جمهورية مصر العربية.
خلال مراسم التوقيع، أكد المستشار أحمد عبود أن هذه الاتفاقية تعكس التزام مجلس الدولة المصري بتبني أفضل الممارسات الدولية وتعزيز سيادة القانون بما يتماشى مع التطورات القانونية الحديثة. وقام سيادته بتقديم درع تذكاري إلى السيدة ماريا كيارا مالاجوتي تقديرًا للعلاقات المتميزة والتعاون المثمر بين الجانبين. كما ألقى السفير بسام راضي كلمة بهذه المناسبة، أكد خلالها على أهمية هذه الخطوة في تعزيز التعاون القانوني الدولي ودعم جهود تحديث المنظومة القانونية المصرية، بينما أكدت السيدة ماريا كيارا مالاجوتي أهمية هذا التعاون في تطوير التشريعات والقواعد القانونية بما يسهم في تسهيل الأعمال التجارية الدولية ودعم استقرار البيئة الاستثمارية.
ناقش الجانبان في اجتماع تلا مراسم التوقيع آليات تفعيل مذكرة التفاهم، حيث تم التطرق إلى أولويات التعاون في المرحلة المقبلة، خاصة فيما يتعلق بتبادل الدراسات القانونية، وتنظيم ورش العمل المشتركة، وتدريب القضاة والمستشارين القانونيين بمجلس الدولة في مجالات القانون التجاري الدولي. كما تم استعراض مجالات الدعم الفني الذي يمكن أن يقدمه المعهد لمجلس الدولة في ضوء التجارب القانونية الدولية الناجحة.
كما اتفق الجانبان على وضع خطة عمل لتنفيذ بنود المذكرة، تتضمن آليات واضحة لمتابعة تنفيذ مجالات التعاون المتفق عليها، وتحديد الأطر الزمنية والمخرجات المتوقعة، بما يضمن تحقيق أقصى استفادة من هذا التعاون. وسيتم تنفيذ برامج التعاون والأنشطة المشتركة من خلال مركز البحوث والدراسات القضائية بمجلس الدولة المصري.
وقد رافق رئيس المجلس وفد من إدارة التعاون الدولي بمجلس الدولة المصري، حيث شاركوا في المناقشات مع نظرائهم في منظمة اليونيدروا حول سبل تعزيز التعاون المستقبلي في مجالات التشريع والتدريب القانوني، بما يحقق الاستفادة القصوى من الخبرات الدولية في تطوير المنظومة القانونية المصرية.
وتأتي هذه الاتفاقية في إطار جهود إدارة التعاون الدولي بمجلس الدولة لتعزيز انفتاح المجلس على المؤسسات القانونية الدولية، وتبادل الخبرات في المجالات التشريعية والقضائية، بما يدعم تحديث المنظومة القانونية ويعزز مناخ الاستثمار في جمهورية مصر العربية.
اقرأ أيضاًبسبب خلافات نسب سابقة.. تفاصيل وفاة حداد مسلح بطلق نارى بالشرقية
حادث مروع.. تفاصيل إصابة محمد عبد الله لاعب الأهلي ومنتخب الشباب «صورة»