نظرات في تاريخ الكبابيش الشفاهي لموسى مروّح 2 / 2
تاريخ النشر: 9th, May 2025 GMT
بقلم: خالد محمد فرح
تبدأ تغريبة الكبابيش من موطنهم السابق في شمال السودان، إلى مواطنهم الجديدة في كل من شمال كردفان وجنوب النيل الأبيض على التوالي، بيد أن ما صارت تعرف بدار الكبابيش في صحراء شمال كردفان، قد اضحت هي معقلهم الرئيسي بامتياز، وصارت الغالبية العظمى منهم تقطنها وتتجول في عرصاتها وراء قطعانهم الهائلة من الابل، تبدأ تلك التغريبة بحسب الرواية الشفهية التي أفضى بها الراوية الشيخ عوض الله ود محمد ود عوض الله الكبيشابي، بقتل فارسهم حمد ود شدهان لحاكم ظالم ومتسلط يلقب ب " راس الهام "، كان سلطانه يمتد على جميع سكان منطقة صحراء ابو حمد بمن فيهم الكبابيش في حوالي خواتيم القرن الثامن عشر الميلادي.
بالرجوع إلى تاريخ تلك الحادثة، اي العقد الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي، فان الخريطة السياسية والاجتماعية التي تتكشف امام أعيننا في نظرة ارتدادية، توضح لنا ان تلك الفترة هي فترة سيادة حكم الهمج في سلطنة سنار، بعد الانقلاب الذي نفذته عليهم عشيرة الهمج بقيادة زعيمهم الشيخ محمد ابو لكيلك 1710 - 1776م، منذ ستينيات ذلك القرن، فصاروا منذ ذلك التاريخ وحتى نهاية دولة الفونج على يد قوات إسماعيل باشا في عام 1821، هم الحكام الحقيقيين، بينما كان سلاطين الفونج الاونساب مجرد بيادق في اياديهم، لا يمتلكون سلطة فعلية.
لقد كانت معظم المناطق في السودان شبه مستقلة عن سنار آنئذً، او في صراع معها مثل العبدلاب والشكرية وغيرهم، او في صراع فيما بين قبائلها المختلفة. انها الأوضاع المضطربة للغاية التي لخصها احسن تلخيص، البروفيسور جاي سبولدنق في كتابه الشهير الذي عربه المرحوم السفير احمد المعتصم الشيخ تحت عنوان: " عصر البطولة في سنار ".
ورغم ان الرواية المثبتة في هذا الكتاب، توشك ان تجعل من رأس الهام المذكور حاكما من الهمج بالتحديد ، لكننا لا نعتقد ان المصادر الخطية التي تناولت وقائع واحداث تلك الفترة ورموزها، قد اشارت إلى شخصية رأس الهام المذكور فيما نظن. ونود ان نشير في هذا السياق إلى تاريخ كاتب الشونة لاحمد الحاج ابو علي، وكذلك إلى كتاب طبقات ود ضيف الله.
اما كتاب الطبقات لمحمد النور ولد ضيف الله بالتحديد، فان فيه اشارة لافتة للنظر، قد يراها البعض ذات صلة على نحو ما، بتغريبة الكبابيش من السافل او البطانة إلى كردفان. فقد جاء في ذلك الكتاب في معرض الترجمة للشيخ صالح ود بانقا بن الشيخ عبد الرازق ابو قرون، ان حيرانه العطوية قد قتلوا رجلاً من السدارنة، والسدارنة هم قبيل من المحس الذين نزحوا إلى البطانة وخالطوا الشكرية والبطاحين وصاروا اهل بادية وانتجاع بمواشيهم مثلهم. فلما خشي العطوية من عاقبة تلك الحادثة، لجأوا إلى الشيخ صالح المذكور الملقب ب " جبل اللقمة " واستجاروا به فاجارهم. ويبدو انهم قد عنت لهم بعد ذلك فكرة التوغل بثروتهم المعتبرة من الابل غربا إلى موطنهم الحالي في كردفان، كما يذهب البعض إلى ذلك. والعطوبة بعد مكون اساسي من مكونات تجمع الكبابيش.
ويستدلون على وجاهة هذا التفسير، بحقيقة العلاقة والصلة الملحوظة والقوية للغاية، التي ظلت قائمة بين الكبابيش والفقرا الرازقية إلى يوم الناس هذا. فعلى سبيل المثال يكثر اسم صالح جدا بين الكبابيش باجيالهم المختلفة، ولعل اشهرهم الشيخ صالح ود فضل الله ود سالم الذي أعدمته المهدية. فالغالب ان سبب انتشار اسم صالح بين الكبابيش، هو انه تيمن باسم الشيخ صالح ود بانقا المذكور. فهل ننتظر مثلاً، مثقفا من عيال العطوية مثل موسى ود مروح الكبيشابي هذا، لكي يسوق لنا الرواية من وجهة نظر قومه ايضا ؟.
اما شخصية رأس الهام الغامضة هذه، فلربما كانت هي الأخرى من عقابيل الصراع بين المكونات الاجتماعية التي كان يمور بها سهل البطانة في تلك الفترة ايضا. ذلك بانني في معرض البحث من اجل اعداد هذا الجزء الثاني والاخير من هذا المقال الاستعراضي، قد وقفت في صفحة من صفحات فيسبوك ذات صلة بتراث قبيلة الشكرية، وقفت عرضا على اسم فارس من فرسانهم يدعى: " محمد أحمد ود راس الهام الجبورابي "، والشاهد هو بالطبع ورود هذا اللقب ذاته" راس الهام "، فلعله ان يكون قد لقبه اهله تبمناً برأس هام مشهور قبله من اسلافه غالبا.
هنالك طائفة الكبابيش الذين يبدو انهم قد بقوا في موطنهم القديم بغرب النيل على مقربة منه، ولم يبرحوه البتة، لاحظت ان المؤلف لم يأت لهم على ذكر. وتلك الفئة من الكبابيش النهريين إذا جاز التعبير يعرفون ب " أم متّو " الذين يقطنون بنواحي الدبة وكورتي ومروي والى نواحي دنقلة والقولد. وكنت قد وقعت على هذا الاسم لاول مرة، اثناء تعريبي لكتاب السير هارولد مكمايكل عن وسوم الابل في كردفان، الذي صدرت ترجمته عن دار المصورات للنشر بالخرطوم في عام 2021م.
أما وجود كبابيش من فرع الكبيشاب بالتحديد في دار محارب بجنوب النيل الأبيض، وحتى الضفاف الشمالية منه بولاية أعالي النيل بجنوب السودان، فقد اكدها لي زميلنا السفير حسن يوسف نقور الذي هو من ابناء تلك المنطقة وعليم بتاريخها وتراثها. وذلك لعمري ما يعضد ما جاء بخصوصهم في هذا الكتاب.
يذكر المؤلف ان ما اسماه ب " عقال أم الروس " متفق عليه في جميع روايات الكبابيش كما قال، على أنه آخر العقلات اي المعارك الكبرى، ذاكراً انه قد قتل فيه من فرسانهم الكبار كلاً من: علي ود كيناوي من الكبيشاب، وشطيطة ود عجور من دارسعيد، وأبو درق من النوراب وغيرهم.
ولعل عقال ام الروس المذكور، هي نفسها " دوسة العقال " كما في ادبيات حمر وحلفائهم المجانين في تلك المعركة الشهيرة التي جرت في ستينيات القرن التاسع عشر، التي وجدت حظها من التوثيق الجيد، وخصوصا على مستوى طرف من تجليها الادبي والإبداعي. وقد تمثل ذلك في نص الخطاب الذي أرسله الشيخ مكي ود منعم زعيم حمر، إلى نظيره الشيخ فضل الله ود سالم زعيم الكبابيش، على اثر تلك المعركة التي كانت الغلبة فيها لحمر ، ذلك الخطاب الذي نشر كاملا بنصه في احد اعداد مجلة السودان في رسائل ومدونات، مع ترجمة له إلى اللغة الإنجليزية. واللغة الأصلية لذلك الخطاب، يمثل نموذجا ساطعا للنثر في السودان في ذلك العهد، بخصائصه المميزة، والمتمثلة في الاسلوب الهجين، والطرافة وروح الدعابة.
يورد الكتاب ملمحا باذخا من ملامح الوفاء والخلق الرفيع والإنصاف واقرار الحق لاهله حتى لو كانوا من اهل الخصومة احياناً، وتلك لعمري هي اخلاق الفرسان التي تميز اهل البادية عموما. وقد تجلى ذلك في قصة " بدّي ابو سليمان الحمري "، الذي رثاه شاعر من الكبابيش يسمى " ربّاح ابو قنيجة " بأبيات حسان منها قوله:
تبكيك القبيلة ولا جبال قيسان
وتبكيك ام عقالاً دنقسوه محجان
تبكيك دار سعيد أهل الجواد وحُصان
وتبكيك القبايل وكدرسوا النسوان
يا ضو القبيلة الماك ضي دُلقان
ويا عاصي الادب ما طيّعك سلطان
البادي بنقاقيرها معاك جيران … الخ
وتأمّل يا رعاك الله قول هذا الشاعر الفصيح: تبكيك دار سعيد أهل الجواد وحصان، فليس في الأمر تكرارا كما قد يتوهم البعض، لان الجواد في عربية اهل السودان التراثية القديمة، تطلق عادة على الاناث من الخيل، بينما الحصان يطلق على الذكور منها فقط.
وانظر ايضاً إلى قول بنت ابو اصيبع النورابية في منافرتها وافتخارها امام ابنة خالتها من بني جرار:
ركبوا النوراب صليبة
جلبوا الرويميات ودرعوا الحقيبة .. الخ
فقولها: صليبة، هو غاية في الفصاحة، اذ ان معناه: انهم ركبوا صرفا ومحضا لم يخالطهم احد من غيرهم.
هذا يقودنا أخيرا إلى التعليق على بعض المسائل المتعلقة باللغة في النصوص التراثية الشعرية والنثرية التي اشتمل عليها هذا الكتاب. وهنا لعلنا نقرر ان من نافلة القول، الحديث عن فصاحة الكبابيش عموما، ونقاء لهجتهم في اطار عربية اهل السودان. والظاهر ان السبب الأساسي في ذلك انهم قد ظلوا منعزلين ومنكفئين على انفسهم في جيب داخل صحراء شمال كردفان، ولم يتأثروا كثيرا لغويا بالمجموعات السكانية الأخرى التي ليست العربية بلغة ام بالنسبة لهم.
لقد لاحظ الاستاذ حسن نجيلة في كتابه:،ذكرياتي في البادية، فصاحة الكبابيش تلك، وعبر عن دهشته لتطابق ألفاظها في كثير من الاحيان مع ألفاظ موغلة في الفصاحة، ربما لا توجد إلا في المعاجم والقواميس.
ومن ذلك قوله انهم يقولون للغدير او مسطح تجمع المياه في الارض المستوية " الأضاة " وهي كلمة فصيحة، كما ذكر انهم قد تاهوا من مضارب الحي ذات يوم ليلاً، فوجدوا فتاة تسير في الفلاة، فدلتهم عليه وهي تقول لهم ان الحي " عند ها الشواظ " اي اللهب من النار المتقدة، كما تعجب من امر فتاة اسمها " الغُفُل " لانه لم يكن يدرك معناه إلا بعد ان رجع إلى المعجم فوجد ان معناه الفتاة ذات الوجه السليم من الاشراط واللعوط اي الفتاة " السادة " او المرهاء كما يقال ايضا.
وبهذه المناسبة، اذكر انني كنت اتابع حلقة من برنامج " من البادية ؟ " الذي كان يقدمه الاستاذ محمد الفاتح ابو عاقلة بالتلفزيون قبل نحو عقدين من الزمان او تزيد. كانت الحلقة مصورة من بادية الكبابيش، وفيها سال مقدم البرنامج شيخا كبيرا من شيوخ الكبابيش عن انواع النباتات التي ترعاها الابل في مناطق الجزو النائية في جوف الصحراء، وشد ما كانت دهشتي عندما ذكر له ذاك الشيخ الذي ارجح انه كان اميا، الصليّان بصاد مكسورة بعدها لام مشددة مكسورة تليها ياء مثناة من بين تلك النباتات. وعلى الفور تذكرت ما سبق ان قراته في كتاب: أباطيل وأسمار للأستاذ محمود شاكر، من سخريته وتجهيله للدكتور لويس عوض عندما اخطأ في تفسير بيت لابي العلاء المعري يصف فيها ناقته بقوله:
صَليتْ جمرةَ الهجيرِ نهاراً
ثم باتتْ تُغصُ بالصلّيان
وهو اللفظ الذي صحفه لويس عوض لجهله به وبمدلوله ، فقرأه خطأ " الصُلبان " بالباء جمع صليب، فأسس على ذلك فهماً خاطئاً للبيت، لانه زعم بناءً على ذلك، ان ابا العلاء اراد بذلك بلدته المعرة، عشية الحروب الصليبية، وانها غصت بصلبان المحاربين الصليبيين الذين غزوها، وامتلأت بها على حد فهمه.
هذا، والشكر الجزيل في الختام، لصديقنا الاستاذ موسى مروح على إهدائنا هذا السفر الممتع والمفيد حقا.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: انهم قد
إقرأ أيضاً:
الحبل الأميركي الذي قد يشنق نتنياهو
يرى بنيامين نتنياهو في العلاقة مع الولايات المتحدة أساسًا لوجود إسرائيل، لكنها اليوم تُظهر وجهها الحقيقي: صفقة مصلحية باردة تحكمها التوترات والخداع المتبادل.
فرغم تصاعد الحرب في غزة وتزايد الضغوط الدولية، تُبدي إدارة دونالد ترامب دعمًا واضحًا لإسرائيل، لكنه مشروط بلغة دبلوماسية دقيقة. في المقابل، يوظف نتنياهو هذا الدعم لتعزيز موقفه السياسي داخليًا، متجاوزًا القيود الأميركية عبر قنوات غير رسمية.
التحالف الذي وُصف يومًا بـ"الأبدي" بات أشبه بحبل مشدود فوق هاوية سياسية وأخلاقية. نتنياهو يراهن على ترامب للبقاء في الحكم، بينما يحسب ترامب خطواته بعناية لتجنّب اندلاع حرب إقليمية غير محسوبة. السؤال الآن: كيف انتقل هذا التحالف من شراكة أيديولوجية إلى سوق مفتوح للمصالح؟ وما حدود هذا الدعم وسط أزمات نتنياهو المتعددة؟
من تحالف الأيديولوجيا إلى مناورة المصالحقدّم نتنياهو نفسه دائمًا كأقرب الحلفاء لواشنطن، لكنه لم يتردّد في معارضة إداراتها حين تعارضت مصالحه معها. خطابه الشهير أمام الكونغرس عام 2015 ضد الاتفاق النووي مع إيران كان تحديًا صريحًا، أكد أن أولوياته تنبع من أجندته الخاصة، لا من توافق إستراتيجي عميق.
وبالمقابل في ولايته الأولى، وفّر له ترامب دعمًا نادرًا: نقل السفارة إلى القدس، والخروج من الاتفاق النووي، واتفاقيات تطبيع عززت صورته كقائد "صنع التاريخ".
إعلانولكن ما بدا حينها تحالفًا استثنائيًا، يكشف اليوم عن هشاشته. في عام 2025، لم يعد ترامب يمنح دعمه دون شروط، بل بات الدعم تكتيكيًا ومحسوبًا، أقرب إلى عقد مؤقت من كونه شراكة راسخة.
صحيفة هآرتس اختزلت الموقف في تحليل لاذع: "إسرائيل لم تعد الحليف المدلل، بل أصبحت شريكًا مزعجًا ينبغي احتواؤه". هذا التوصيف لا يعكس فقط تغيرًا في المزاج الأميركي، بل يُظهر انقلابًا في موازين القوة: من دولة تتلقى التفويض، إلى زعيم يُراقب من خلف الزجاج.
يستمرّ ترامب في دعم إسرائيل، مدفوعًا بعوامل داخلية وخارجية. داخليًا، يعتمد على قاعدته الإنجيلية التي ترى في إسرائيل تجسيدًا دينيًا وسياسيًا.
أما خارجيًا، فيهدف إلى الحفاظ على صورة الردع الأميركي في المنطقة واحتواء نفوذ إيران، لا سيما في ظلّ تراجع التدخل العسكري الأميركي في الساحات الإقليمية. لكنه، وعلى عكس ولايته الأولى، بات أكثر حذرًا.
التصعيد في غزة أو سوريا قد يُدخل واشنطن في مواجهة مفتوحة لا تصبّ في مصلحته الإستراتيجية، ولا في ميزان الاقتصاد الأميركي المتأرجح. ولهذا، تأتي بياناته بلغة مزدوجة: تصريح الخارجية الأميركية في 6 مايو/ أيار حول العمليات في رفح دعا إسرائيل إلى "احترام القانون الدولي والتمييز بين الأهداف"، وهي جملة تُقرأ على أنها تحذير دبلوماسي مغطى بكلمات مجاملة.
في الظاهر، لا تزال إسرائيل مدعومة، لكن في العمق، بدأت واشنطن تضع حدودًا لما يمكن التسامح معه.
كيف حاول نتنياهو التحايل على واشنطن؟ومع تآكل الثقة بين الطرفين، عاد نتنياهو إلى أساليبه القديمة: التأثير غير المباشر عبر الدوائر المقربة من الإدارة، دون المرور بالقنوات الرسمية.
من أبرز تلك المحاولات، علاقته بمايكل والتز، مستشار الأمن القومي السابق الذي كان يُعرف بـ"صوت إسرائيل" داخل البيت الأبيض. تسريبات Axios كشفت أن نتنياهو أرسل إليه تحليلات مباشرة حول الوضع الإيراني، وكذلك حول الحالة الميدانية في القطاع، متجاوزًا الإدارة الأميركية.
إعلانالهدف كان الضغط من خلف الكواليس لتعديل موقف واشنطن، لكن إقالة والتز في وقت لاحق أنهت تلك القناة الحيوية، وأظهرت أن واشنطن بدأت تُغلق أبواب التأثير غير المشروع.
هذه الخطوات تُظهر ليس فقط هشاشة موقف نتنياهو، بل أيضًا أسلوبه السياسي المعتمد على الالتفاف والمراوغة، ولو على حساب الأعراف الدبلوماسية التي طالما تغنّى بها.
دعم مستمر، لكن دون تفويض مطلقالدعم الأميركي مستمر، لكنه تغير في جوهره. صحيح أن الطائرات والسلاح والمواقف العلنية ما زالت تُرسل إلى إسرائيل، لكن الفيتو الأميركي لم يعد حاضرًا بنفس الحزم في مجلس الأمن، كما لم تبذل إدارة ترامب جهدًا كبيرًا لإجهاض مشروع القرار الأممي الداعي لوقف إطلاق النار.
في الوقت ذاته، تُعبّر واشنطن عن فتور واضح تجاه العمليات البرية في رفح، بل وتُسرب امتعاضها بطرق محسوبة.
مجلة "فورين أفيرز" وصفت الحالة بكلمات لا تحتمل اللبس:
"الولايات المتحدة لا تزال تدعم إسرائيل، لكنها سئمت من نتنياهو".
هذا الموقف يضع نتنياهو أمام معضلة غير مسبوقة: الدعم موجود، لكنه لا يكفي لنصر واضح، ولا يمنع الانهيار الداخلي.
قلق داخلي في إسرائيل: عندما تصبح واشنطن مرآةً لفشل القيادةتزداد المعادلة تعقيدًا حين ننظر إلى الداخل الإسرائيلي، حيث تُتابع النخب السياسية هذه العلاقة بقلق واضح. أحزاب الوسط واليسار ترى في تراجع الحماس الأميركي فرصة لتقييد نتنياهو، بينما يتخوف اليمين من أن يفقد الغطاء الأميركي في لحظة حرجة. الانقسام داخل معسكره ذاته واضح: جزء يريد كسر التبعية لأميركا، وجزء يرى أن ترامب هو الحصن الأخير.
استطلاع معهد "متفيم" (أبريل/ نيسان 2025) أظهر أن 62% من الإسرائيليين يعتقدون أن علاقة نتنياهو المتوترة بواشنطن تضر بصورة إسرائيل عالميًا. هذا لا يعكس فقط أزمة دبلوماسية، بل انكشافًا داخليًا لرجل يستند إلى تحالف هشّ لتبرير استمراره.
بيبي على الحافة: مناورة البقاء بين التصعيد والاسترضاءنتنياهو يعرف أن شرعيته مرتبطة بإحداث تغيير محسوس، قبل أن يفقد الغطاء الأميركي الترامبي المحتمل، أو قبل أن يتفكك الائتلاف عند أول تنازل.
إعلانهو يراهن على "انتصار محسوب" قبل أكتوبر/ تشرين الأول. لكن الزمن يعمل ضده، فهو يعرف أن دفع العلاقة مع واشنطن إلى نقطة اللاعودة سيعني: احتمال توقّف الإمداد العسكري، أو على الأقل التلويح به، تراجع الثقة العالمية في "الردع الأميركي" لإسرائيل وتسارع انفكاك الدول العربية المطبّعة، التي تعتمد على الغطاء الأميركي كضامن لتوازناتها.
في ظل هذا المشهد، يصبح نتنياهو كمن يتمسّك بحبل أميركي يشدّه من الجهتين. لا يستطيع تركه لأنه ضمانته الوحيدة للبقاء، لكنه لا يريد أن يخضع لقيوده، لأن تلك القيود تهدد بسقوطه. لهذا، يلجأ إلى سياسة المراوحة: تصعيد محسوب لكسب شعبية، وتهدئة مدروسة لامتصاص الضغوط الأميركية.
إنها إستراتيجية البقاء على الحافة: لا انتصار يُحسم، ولا هزيمة يُعترف بها. وبين التصعيد والمراوغة، يدفع الجميع الثمن: الفلسطينيون أولًا، لكن أيضًا المؤسسة الإسرائيلية التي تفقد ما تبقى من ثقة العالم بها.
وفي الختام، نتنياهو الحليف الذي لا يُوثق بهلم تعد علاقة نتنياهو بواشنطن قائمة على قيم مشتركة أو مصير موحّد، بل تحولت إلى صفقة يومية تُدار وفق حسابات تكتيكية دقيقة. إدارة ترامب تُبقي على الغطاء الدبلوماسي لإسرائيل، لكنها لا تُخفي فقدانها للثقة بنتنياهو. أما هو، فلا يكفّ عن التلويح بالتحالف، بينما يناور من خلف الكواليس.
قد يتمكن من تجاوز أزمة غزة مؤقتًا، لكنه يترك وراءه علاقة مضطربة مع البيت الأبيض، وسمعة دولية متدهورة، وشعبًا إسرائيليًا يزداد تململًا من حروبه ومراوغاته.
في ولاية ترامب الثانية، لا مكان للصداقة الدائمة، بل للمصالح المتغيرة حسب التوقيت. أما نتنياهو، هذا الحليف المربك، فيدرك جيدًا أن الحبل الأميركي الذي يستند إليه، قد يتحول في أية لحظة إلى مشنقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline