"نعيش نكبة أكبر من أي نكبة".. غالية أبو مطير تروي مأساة لاجئة فلسطينية على مدى 77 عاما
تاريخ النشر: 16th, May 2025 GMT
في الذكرى الـ77 للنكبة الفلسطينية، يواجه سكان قطاع غزة أصعب محطات حياتهم منذ عام 1948. غالية أبو مطير، إحدى سكان القطاع الذي يعاني حربا طاحنة منذ 19 شهرا، تهجرت طفلة من قريتها قرب تل أبيب، واليوم تخشى أن تتعرض لتهجير جديد يعيدها إلى تجربة العيش في خيام اللجوء التي عايشتها من قبل. اعلان
حين كانت في الرابعة من عمرها، اضطرت غالية أبو مطير للعيش في خيمة بخان يونس بعد أن هربت عائلتها من منزلها قرب تل أبيب، هربا من تقدم القوات الإسرائيلية في ما يعرف اليوم بدولة إسرائيل.
واليوم، وبعد 77 عاما، تجد نفسها تعيش مجددا في خيمة، يتعرض مكان وجودها للقصف الإسرائيلي وسط الحرب المستمرة في قطاع غزة.
وفي الذكرى السابعة والسبعين للنكبة التي شهدها الفلسطينيون عام 1948، والتي شهدت تهجير نحو 700 ألف فلسطيني أو فرارهم من منازلهم أثناء الحرب التي انتهت بإعلان قيام إسرائيل، تروي قصة حياة غالية مأساة الشتات الفلسطيني المستمرة حتى اليوم.
فخلال 19 شهرا من الحرب، دمر الجيش الإسرائيلي معظم قطاع غزة، وقتل أكثر من 51,000 شخص بحسب وزارة الصحة في غزة، بالإضافة إلى نزوح نحو 2.3 مليون نسمة، وتفاقم أزمة المجاعة ونقص الإمدادات الطبية.
تقول غالية، التي تبلغ من العمر 81 عاما، أمام خيمتها التي تشاركها مع أبنائها وبناتها و45 حفيدا: "نحن نواجه اليوم نكبة أكبر من تلك التي شهدناها سابقا. حياتنا أصبحت مليئة بالخوف المستمر، ليلا ونهارا، مع الصواريخ والطائرات الحربية التي تحلق فوقنا. نحن لا نعيش، وحتى الموت سيكون أرحم من هذا الوضع".
Relatedشاهد لحظة سقوط صاروخ إسرائيلي على مبنى في جباليا شمال غزةخطة المساعدات الأمريكية لغزة: ماذا نعرف عنها؟ ومن يتولى تنفيذها؟تصاعد الجدل داخل إسرائيل حول غزة: بين إعادة الاحتلال وإنهاء العمليات العسكريةارتفاع حصيلة قتلى الحرب على غزة إلى 52 ألفا و928 فلسطينياويخشى الفلسطينيون أن يكون الهدف النهائي لإسرائيل هو تهجير سكان القطاع المنكوب بالكامل.
وفي المقابل، تؤكد الدولة العبرية أن حملتها العسكرية تهدف إلى تدمير حركة حماس، ردا على هجوم الحركة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، والذي أسفر عن مقتل نحو 1,200 شخص في جنوب إسرائيل، واختطاف حوالي 250 آخرين.
وقد صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه بعد هزيمة حماس، ستواصل إسرائيل السيطرة على غزة وستشجع الفلسطينيين على "المغادرة طوعًا".
وقد وُلد قطاع غزة من رحم النكبة، حيث تم دفع نحو 200,000 من لاجئي عام 1948 إلى هذه المنطقة الساحلية الصغيرة.
وتم ترسيم حدود غزة بموجب اتفاق هدنة بين إسرائيل ومصر، التي كانت قد شاركت في الحرب إلى جانب دول عربية أخرى بعد إعلان قيام إسرائيل.
ويقدر أن أكثر من 70% من سكان غزة اليوم هم من نسل الفلسطينيين الذين هجر آباؤهم وأجدادهم من مدنهم وقراهم الأصلية خلال نكبة عام 1948، وليسوا من السكان الأصليين للقطاع.
ولا تتذكر أبو مطير الكثير عن قريتها الأصلية وادي حنين، وهي قرية صغيرة تكثر فيها بساتين الحمضيات، وتقع جنوب شرق تل أبيب اليوم.
"لا حرب مثل الحرب التي نعيشها الآن"وكانت غالية أبو مطير في الرابعة من عمرها فقط عندما اضطرت عائلتها للفرار بها وبإخوتها الثلاثة، مع تقدم القوات الإسرائيلية التي كانت تخوض معارك لتهجير السكان الفلسطينيين من قراهم.
وتتذكر أبو مطير السير على طول الساحل المتوسطيّ وسط أصوات الرصاص، وتقول إن والدها وضع الأطفال خلفه، محاولًا حمايتهم. ساروا لمسافة 75 كيلومترًا (45 ميلًا) إلى خان يونس، حيث استقروا في مدينة من الخيام أُقيمت لإيواء آلاف اللاجئين هناك.
وقدمت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (الأونروا) الغذاء والإمدادات، فيما خضعت غزة للحكم المصري.
وعندما اجتاحت القوات الإسرائيلية غزة في طريقها لغزو سيناء المصرية عام 1956، فرّت عائلة أبو مطير مجددًا إلى الشيخ زويد وسط غزة، قبل أن تعود إلى رفح.
وفي السنوات التي أعقبت حرب عام 1967، عندما احتلت إسرائيل غزة والضفة الغربية، غادرت والدتها وإخوتها إلى الأردن.
أما أبو مطير، التي كانت قد تزوجت وأنجبت أطفالًا حينها، فبقيت في غزة. وتقول: "لقد عشت جميع الحروب الأخيرة، لكن لا حرب مثل الحرب التي نعيشها الآن".
قبل عام، فرت عائلتها من رفح عندما اجتاحت القوات الإسرائيلية المدينة، وهم يعيشون الآن في مدينة خيام مترامية الأطراف في المواصي، على الساحل خارج خان يونس. وقد قتل أحد أبنائها في غارة جوية إسرائيلية، تاركًا ثلاث بنات، وطفلًا، وزوجة حامل أنجبت لاحقًا. كما قُتل ثلاثة من أحفاد أبو مطير في الحرب.
وخلال الحرب، قادت الأونروا جهود إغاثة إنسانية ضخمة بالتعاون مع منظمات دولية لإبقاء الفلسطينيين على قيد الحياة.
لكن منذ عشرة أسابيع، منعت إسرائيل دخول جميع المواد الغذائية والوقود والأدوية والإمدادات الأخرى إلى غزة، قائلة إنها تهدف إلى الضغط على حماس لإطلاق سراح الرهائن.
وقد تصاعدت معدلات الجوع وسوء التغذية في القطاع، بحسب منظمات الإغاثة، مع نفاد مخزون الطعام.
وتقول أبو مطير: "هنا في المواصي، لا يوجد طعام أو ماء. الطائرات تقصفنا. أطفالنا يُرمون (قتلى) أمام أعيننا".
وتتذكر المرات القليلة التي تمكّنت فيها من مغادرة غزة خلال عقود الاحتلال الإسرائيلي.
في إحدى المرات، شاركت في زيارة جماعية إلى القدس، وعندما مرّت بهم الحافلة داخل إسرائيل، بدأ السائق ينادي بأسماء البلدات الفلسطينية التي اختفت: إسدود، بالقرب من مدينة أشدود الحالية؛ المجدل، التي أصبحت أشكلون.
مرّوا بالقرب من المكان الذي كانت فيه وادي حنين، وتقول إنها تعرف فلسطينيين عملوا في بلدة نس تسيونا الإسرائيلية، المقامة على أنقاض قريتها الأصليّة. وقد بلغها سابقا ألا شيء تبقّى من البلدة سوى بيت أو بيتين، ومسجد تم تحويله إلى كنيس يهودي.
"كنت أحلم بالعودة إلى وادي حنين، أما الآن فكل ما أريده هو العودة إلى رفح".
لكن معظم رفح قد سُويت بالأرض، بما في ذلك منزل عائلتها، كما تقول، "إلى أين نعود؟ إلى الحجارة؟ أم إلى الركام؟".
انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثةالمصدر: euronews
كلمات دلالية: دونالد ترامب إسرائيل غزة قطاع غزة إسبانيا قطر دونالد ترامب إسرائيل غزة قطاع غزة إسبانيا قطر قطاع غزة ذكرى النكبة إسرائيل الضفة الغربية فلسطين دونالد ترامب إسرائيل غزة قطاع غزة إسبانيا قطر روسيا الضفة الغربية أوكرانيا بنيامين نتنياهو الصراع الإسرائيلي الفلسطيني محادثات مفاوضات القوات الإسرائیلیة قطاع غزة عام 1948
إقرأ أيضاً:
الحرب التي أجهزت على السلام كله
لا بد أن يكون أحدكم قد جاوز الأربعين كثيرًا لتكون لديه ذكرى مباشرة لما جرى في تسعينيات القرن الماضي إذ ظن الفلسطينيون والإسرائيليون أنهم توصلوا إلى طريقة ينهون بها قرن الصراع فيما بينهم، كان طائف الأمل الذي طاف بهم عابرا، وأبعد ما يكون عن العمومية، لكنه كان حقيقيًا. لقد طواه النسيان الآن، وبات أقرب إلى أن يعد خدعة، ووهمًا مخاتلًا. والآن، وقد مر أكثر من عام ونصف العام على الحرب الأكثر دموية فيما يزيد على قرن من الصراع بين العرب واليهود، يصعب أكثر من ذي قبل أن نشاهد الصور المريعة الواردة من غزة، ويصعب ذلك حتى على من يكسبون لقمة عيشهم من هذا، ومن يؤثرون لو كانوا حاضرين شخصيًا لولا أن إسرائيل أغلقت المنطقة وحظرت دخول الصحفيين الأجانب ضمن كثيرين حظرت دخولهم.
وفي الطريق طوفان أعتى من الرعب، إذ تستعد إسرائيل الآن لهجمة يتعهد رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو بأن تكون «دخولا كثيفا إلى غزة». ونعلم نحن العاملين في مهنة الأخبار أن عالمنا المضطرب يمدنا بكثير من الأحداث الأليمة فلا يبقى لبعضنا من سبيل إلى التكيف معها إلا بالإمساك عن النظر.في بعض الأحيان يتراءى لي بصيص ذكرى مهتزة لزمن رأينا فيه شيئا من الأمل، يثيره اسم أو وجه على طريق في غزة ينتهي بحواجز خرسانية ونقاط تفتيش أغلقتها إسرائيل خلال الشهرين الماضيين في وجه شتى أشكال الإغاثة.
قال توم فليشر - وهو الدبلوماسي البريطاني السابق وكبير مسؤولي الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة: إن الإسرائيليين «صادقون صدقا مثيرا» إذ يقولون إن الغاية من تجديدهم الحصار هو الضغط على حماس، ولا بد كما أكد فليتشر من إطلاق سراح بقية الرهائن، ولكن «محاصرة الإغاثة قتل» وانتهاك من إسرائيل للقانون الدولي تنزل به «عقابا جماعيا وقاسيا».
يستحيل في ظل ما أصبحت عليه الأمور أن نرى سبيلا يسوق به الفلسطينيون والإسرائيليون أنفسهم، أو يساقون من خلاله، إلى حيث يمكن أن يحاولوا الوصول إلى السلام من جديد. وها هو جيل آخر تسحقه الحرب. في عام 1993، حين كان لدينا أمل، تحققت لحظة الذروة في بداية العملية، لأن النهاية كانت فشلا ودما مراقا، إذ استحال الصيف خريفا في واشنطن، وتصافح الأعداء القدامى في وضح النهار داخل حديقة البيت الأبيض. وتيسر ذلك إثر مفاوضات سرية بدأت عند انصرام ذلك العام في أوسلو، فجرت في أول الأمر بين أبي علاء من منظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا لرئيسها ياسر عرفات، وأستاذين جامعيين إسرائيليين كانا يرفعان تقاريرهما إلى يوسي بيلين نائب وزير الخارجية في بلدهما.
كان لزامًا أن تكون لقاءات أوسلو سرية، إذ أراد كلا الطرفين اجتناب المخاطرة السياسية إلى أن يتحقق ما يستحق الإعلان. كان البرلمان الإسرائيلي قد أزال للتو قانونا يحظر على المواطنين الاتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية، لكن الحكومة كانت لا تزال على المستوى الرسمي تعارض أي مفاوضات مباشرة مع منظمة يقودها عرفات الذي كانت تعده إسرائيل إرهابيًا لا أمل في إصلاحه. وقد شهد النرويجيون الذين جمعوا بين مفاوضي أوسلو في منزل ريفي منعزل بمدى صعوبة الوصول بهم إلى اتفاق.
إذ قالت الدبلوماسية النرويجية مونا جول: إن «عملهم معًا على مدار الساعة كان مشحونا بالعواطف للغاية، فقد تسمع في جنح الليل صيحة قائل -لا أمل. لا يمكنني البقاء هنا بعد الآن-». ولو أن الأمر بلغ ذلك القدر من المشقة على أولئك الملتزمين بالتفاوض لإنتاج اتفاقية محدودة -هي محض إطار لمزيد من المحادثات التي قد تفضي إلى اتفاقية سلام- فتخيلوا أي مدى يبلغه ارتفاع الجبل الآن.
لذلك كان لافتًا للغاية، ومباغتًا للغاية، أن نرى في الثالث عشر من سبتمبر سنة 1993 وجه الرئيس الأمريكي الطازج بيل كلينتون إذ يفتح ذراعيه وكأنه ابن أخ طيب بينما يصافح ياسر عرفات رئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين. كانت عيوب الاتفاقية بادية للعيان منذ البداية. فقد كان الإسرائيليون -المؤمنون بأن الأراضي المحتلة منحة من الرب لليهود- يعارضون مفهوم مبادلة الأرض في مقابل السلام.
كما استقال الشاعر الفلسطيني محمود درويش من منظمة التحرير الفلسطينية احتجاجًا وكتب قصيدة وصف فيها مراسم البيت الأبيض بـ«الشريط السينمائي الملوَّن». وانتهى إلى أن المقاومة لا بد أن تستمر. ولكن العالم شهد أعداء أشد لددا يحاولون كسر لعنة صراع دام لأجيال. فكان الوقع تاريخيا عند مشاهدة ياسر عرفات واقفا بجانب رابين ووزير الخارجية الإسرائيلي شيمون بيريز، وهم ثلاثة رجال طالما بقوا في قلب الصراع لأمد بعيد.
كان رابين -رئيس الوزراء الصلب عام 1993- هو القائد العام في نصر حرب الأيام الستة في يونيو 1967 على مصر والأردن وسوريا. إذ استولت إسرائيل على الضفة الغربية، ومنها القدس الشرقية، وغزة ومرتفعات الجولان، محيلة الصراع إلى ما هو عليه الآن. في عام 1948، قاد رابين -وهو في العشرينيات من عمره- وحدة نخبوية في حرب استقلال إسرائيل ورأى فيه الإسرائيليون بطلًا. ويتذكر الفلسطينيون دور رابين في الترحيل القسري لأكثر من خمسين ألف مدني عربي من بلدتي الرملة واللد. ويطلق الفلسطينيون على الأحداث السابقة على إعلان إسرائيل الاستقلال والتالية لها اسم «النكبة».
إذ فرَّ أكثر من سبعمائة ألف فلسطيني من الزحف الإسرائيلي أو تعرضوا للطرد بالقوة ولم يتمكنوا، كلهم تقريبا، من العودة.وبالنسبة للفلسطينيين كان ياسر عرفات تجسيدًا لنضالهم، فهو الرجل الذي بلغ به الحرص على مقاتلة إسرائيل حد أن أطلق عليه رفاقه الأكثر تحليا بالحذر لقب «المجنون» حينما بدأ الهجمات على الحدود مع لبنان في أوائل ستينيات القرن العشرين، متجاهلًا العقبات التي بدت كأداء.
وكانت لحظته قد حانت إثر إصابة الزعماء العرب بالذهول والانبطاح والمذلة بعد انتصار إسرائيل في عام 1967. في ظل الهزيمة، نهض عرفات للقتال، فكان يتنقل متنكرًا لجمع السلاح من ميادين المعارك وينظم مئات الهجمات. ولما ردت إسرائيل في عام 1968 بهجمة كبيرة على مخيم الكرامة في الأردن، وهو معقل عرفات وفصيل فتح التابع له، كان الفلسطينيون في الانتظار. فلقي ما لا يقل عن ثمانية وعشرين إسرائيليا، وستين أردنيا، ومائة فلسطيني، مصرعهم في يوم واحد.
وأعلن عرفات النصر وتأسست أسطورته. وإذا بزعيم منظمة التحرير الفلسطينية، بنظارته الشمسية، ولحيته النابتة، وكوفيته ذات اللونين الأسود والأبيض، يتصدر غلاف مجلة تايم.اكتمل الثلاثي ببيريز وزير خارجية إسرائيل. وكان -شأن رابين- في قلب أحداث بلده منذ العشرينيات. في عام 1948، كان بيريز الشاب هو الذراع الأيمن لرئيس وزراء إسرائيل اليميني الأول ديفيد بن جوريون. لم يلتحق قط بالجيش ولم يحظَ من الإسرائيليين بمثل الثقة التي حظي بها رابين، منافسه السياسي العتيد، ولكن صفقات الأسلحة التي أبرمها أسهمت كثيرا في تحويل إسرائيل إلى قوة عسكرية كبيرة في المنطقة قاد هو سعيها السري الناجح إلى امتلاك أسلحة نووية.
كان أولئك الرجال الثلاثة، لأسباب مختلفة، مستعدين للتفكير في إنهاء الصراع الذي شكّل حياتهم وهيّمن عليها. في عام 1993 كان لا بد من جهد وشجاعة لاعتناق التفكير الجديد اللازم لمحاولة إنهاء حرب لم يكن أي من الجانبين بقادر على الانتصار فيها. وآنذاك والآن، كان ولا يزال التشبث بطقوس الكراهية والموت المألوفة هو الأمر الأيسر، حتى وقد غرق الصراع في أعماق جديدة من اليأس بعد أن هاجمت حماس إسرائيل في السابع من أكتوبر سنة 2023. في غزة، يقتطع الفلسطينيون في بعض الأحيان أوقاتا من نضالهم اليومي من أجل البقاء لكي يتظاهروا ضد حماس.
وفي إسرائيل يدين بعض منتقدي نتنياهو -الذي تجاوز في سنة 2019 بن جوريون بوصفه أطول رؤساء وزراء إسرائيل في الخدمة- ويرونه نذير حرب دائمة، وبأنه يحارب لا لأجل إنقاذ بقية الرهائن أو لأجل أمن شعبه وإنما من أجل نجاته هو وتقوية سلطته الشخصية، وتأخير محاسبته على دوره في الإخفاقات الأمنية التي أتاحت لحماس الهجوم بذلك الأثر المميت في السابع من أكتوبر سنة 2023.
جاءت الوثيقة الموقعة في واشنطن في ذلك اليوم من عام 1993 من رابين ومفاوض منظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس -وهو الرئيس الفلسطيني الآن- حاملة عنوانا سقيما هو «إعلان مبادئ ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت»، وإن اشتهر ذلك الحشو اللفظي الدبلوماسي باسم أفضل هو اتفاقيات أوسلو. وكان العالم قد شهد تغيرًا إضافيًا، إذ حضر وزير الخارجية الروسي أندرو كوزيريف بصفة شاهد.
ظن ملايين الإسرائيليين والفلسطينيين -وليس جميعهم على أي حال- عندما رأوا ما يجري أن كل شيء يتغير. وفي عام 1933 كانت الغالبية في كلا الجانبين مهيأة لأن تمنح المفاوضات فرصة، وتنحي الشك وفقدان الثقة جانبا. وكان السبب الأكبر للتفاؤل هو أن طرفي الحديث اعترفا بوجود أحدهما الآخر وبأن لكل منهما حقوقًا وطنية. فسلّم الفلسطينيون بأن تحصل إسرائيل على 78% من الأرض القائمة في ما بين النهر والبحر، أي المنطقة التي كانوا يسيطرون عليها عشية حرب 1967. وسلّمت إسرائيل بمبدأ الحكم الذاتي الفلسطيني على 22% مما يتبقى. وقد كتب آفي شلايم - مؤرخ الصراع الرائد في جامعة أكسفورد، وأحد أشد منتقدي نتنياهو وحكومته الآن، وأحدث كتبه يحمل عنوان «إبادة جماعية في غزة» - في مطلع عام 1994 أنها «كانت من أشد لحظات تاريخ الشرق الأوسط في القرن العشرين احتداما.
ففي خطوة واحدة مذهلة، أعاد الزعيمان رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة برمتها».
أتيح لعرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية الرجوع إلى أجزاء من المناطق الفلسطينية المحتلة، فاقتصر ذلك في أول الأمر على غزة وأريحا، أي الواحة العتيقة المغبرة في وادي الأردن. وكانت الخطة تتمثل في البدء بإبرام اتفاقيات على قضايا حساسة صغيرة، على أمل أن يتم بطريقة ما تكوين الزخم اللازم لحل القضايا الكبيرة. إذ عمد الجميع إلى تأجيل تلك القضايا في أوسلو لأن أيا منها كان كفيلا بإفساد الصفقة، وكانت له القدرة على وأد عملية السلام في مهدها.
وكان ملف قضايا «الوضع النهائي» المؤجل ذا إشعاع سياسي، إذ احتوى مسألة تقسيم القدس بهدف إنشاء عاصمة بطريقة ما لكلا الشعبين، ومستقبل المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، وتحدِّي ترسيم حدود الدولة الفلسطينية المستقبلية، ومسألة ما إذا كان سيتسنى للاجئي حربي 1948 و1967 الفلسطينيين الرجوع يومًا إلى الوطن.
بعد قرابة ثمانية عشر شهرا من المراسم في حديقة البيت الأبيض، انتقلت إلى القدس لأصبح مراسلًا لهيئة الإذاعة البريطانية في الشرق الأوسط. كنت قد قضيت أغلب السنوات الأربع السابقة أعمل في تغطية الحروب الناجمة عن سقوط يوغسلافيا. وأصيبت صديقة لي من سراييفو -وكانت صحفية نجمة تعمل للتليفزيون الإسباني- بالذهول حينما أخبرتها أنني ذاهب إلى القدس. وقالت إن الحكاية هناك قد انتهت، وأنهم يقيمون السلام.
وبالطبع جانبها الصواب، شأن جميع من تزايدت آمالهم لوهلة. فالسلام بات سرابا. ولعله لم يكن ممكنا قط. أدان مثقفون فلسطينيون كبار عرفات لبيعه الشعب بالاتفاق على صفقة سمحت لإسرائيل بتوسيع المستوطنات لليهود على الأراضي المحتلة التي أرادوها لإقامة الدولة. فوصف إدوار سعيد -أستاذ العلوم السياسية والكاتب الفلسطيني الأمريكي- ذلك بالاستسلام. وفي مجلة «لندن رفيو أوف بوكس» اشتد في نقده لـ«عرض الأزياء المبتذل الذي أقيم في مراسم البيت الأبيض، ومهانة ياسر عرفات إذ يوجه الشكر للجميع على تأجيل أغلب حقوق الشعب، ووقار أداء بيل كلينتون السخيف، وكأنه إمبراطور روماني في القرن العشرين يقود ملكين تابعين لسلطانه في مراسم تصالح وإذعان. وفي نهاية المطاف طغت على بلاغة سعيد العظيمة جماعتان مسلحتان فلسطينيتان تأسستا في ثمانينيات القرن العشرين، هما جماعتا حماس والجهاد الإسلامي اللتان ذكَّرتا الإسرائيليين بألا يؤمنوا بالسلام إذ أرسلتا التفجيريين الانتحاريين لقتل مدنيين إسرائيليين في المقاهي والحافلات.أراد المتشددون في كلا الجانبين تحطيم عملية أوسلو. ففي فبراير 1994 استعمل باروخ جولدشتاين المتطرف اليهودي أمريكي المولد بندقية هجومية لقتل تسعة وعشرين فلسطينيا كانوا يصلون في الحرم الإبراهيمي بالخليل، وهو موقع يقدسه الإسرائيليون أيضًا ويسمونه «كهف البطاركة»، فهو مكان يؤمن اليهود والمسلمون والمسيحيون أن فيه قبر النبي إبراهيم وابنيه إسحاق ويعقوب وزوجاتهم سارة ورفقة وليا. ظل جولدشتاين يطلق الرصاص إلى أن تغلب عليه بعض الناجين وظلوا يضربونه حتى الموت. وقد حذر اليمين الإسرائيلي، ونجمه الصاعد بنيامين نتنياهو، من أن التنازل عن الأراضي يعرض حياة كل إسرائيلي للخطر. ساعد نتنياهو في إثارة حشود غاضبة من القوميين اليهود الذين لعنوا رابين ووصفوه بالخائن والقاتل. وفي مظاهرة بميدان صهيون في القدس في الخامس من أكتوبر سنة 1995 كان من ضمن اللافتات لافتة ساخرة من رابين ترسمه في زي قوات الأمن النازية [SS]. وبعد شهر من ذلك، مات رابين برصاص متطرف يهودي في تل أبيب. وخلال أول التحقيقات معه في اغتيال رابين، طلب القاتل شرابًا ليشرب نخب إنقاذه إسرائيل من خائن تنكر لترتيبات الرب للشعب اليهودي.عند مقتل رابين كانت المفاوضات بالفعل متأخرة كثيرة عن جدولها. لكن عرفات ورابين، العدوين اللدودين، كانا قد توصلا إلى احترام جاء على غير توقع، وعلى مضض. وجهت ليا، أرملة رابين، الدعوة إلى عرفات لزيارة منزل عائلة رابين في تل أبيب لتقديم واجب العزاء. ورفضت مقابلة نتنياهو. وبعد ستة أشهر، فاز نتنياهو على شيمون بيريز بأغلبية ضئيلة وأصبح رئيسًا للوزراء للمرة الأولى.
وأرد تمامًا أن تكون محاولة صنع السلام منذورة بالفشل، بوجود رابين أو غيابه، وهو الزعيم الإسرائيلي القادر أكثر من غيره على طمأنة مواطني شعبه. فقد حدث قبيل اغتياله أن أعلن حيدر عبد الشافي -وهو طبيب يحظى باحترام كبير في غزة ومؤسس لمنظمة التحرير الفلسطينية استاء من التنازلات والفساد المحيطين بعرفات- أن أوسلو فشلت، وكتب أنه «من الواضح الآن أن إسرائيل عازمة على المحافظة على وجودها، وسيطرتها على الأراضي، والمستوطنات. وفي واقع الأمر، أن ما لم ينتبه إليه أحد هو أن إسرائيل لم تتخلَ قط عن حقها في الأراضي المحتلة كاملة، بما يتناغم مع البرنامج الصهيوني».
قبل عام من الاغتيال، حصل عرفات وبيريز ورابين مشتركين على جائزة نوبل للسلام. وبعد الاغتيال كثّفت حماس حملة تفجيراتها الانتحارية. وفي غضون أيام في فبراير 1996 هوجمت الحافلة رقم 18 مرتين في القدس على مقربة من مكتب هيئة الإذاعة البريطانية في طريق يافا مما أسفر عن مصرع خمسة وأربعين شخصا. وكان العقل المدبر هو محمد ضيف من جماعة حماس الذي ظل عدوًا مميتًا لإسرائيل حتى مصرعه في غارة جوية على غزة في الصيف الماضي.
بعد هجمتي الحافلة سنة 1996، بعث عرفات -بضغط من بيل كلينتون- رجاله لتعقب حماس والجهاد الإسلامي. وفي موقع مقابر الكومنولث البريطانية الوادعة في غزة أجريت حوارا مع رجل خلت أطراف أصابعه من الأظافر بعد أن انتزعها رجال عرفات إثر اعتقاله للاشتباه بانتمائه لحماس. وبعد ثلاثين عاما، غزة الآن أطلال وأكثر من خمسين ألف فلسطيني لقوا مصرعهم. ويقول نتنياهو إنه وحده القادر على تأمين الإسرائيليين، ولذلك فإنه لن يسمح أبدًا للفلسطينيين بإقامة دولة يمكن أن يستعملوها قاعدة للهجوم على اليهود.
لا وجود في جميع أجيال الصراع بين اليهود والعرب ما يقترب من هول السابع من أكتوبر والشهور التسعة عشر التالية له. وهذه المستويات الجديدة من عمق التجرد من الإنسانية، لدى كلا الجانبين، تلقى بظل داكن على المستقبل. لقد كان عدد كاف من الفلسطينيين في تسعينيات القرن الماضي مهيئين للثقة في عرفات وعدد كاف من الإسرائيليين يثقون في رابين، فكان ذلك كافيًا لفرجة تسمح بموعد قد يفلح فيه السلام، إن توفر الحظ وتوفر لدى الجانبين تصميم أكبر على التخلي عن أعز الأحلام والمعتقدات. وها هي الفدوة وقد انسدت وباتت الآن دفينة أعماق الماضي.
أما الذي لا يزال حيًا وخطيرًا فهو الوهم بأن النصر الكامل ممكن لأي طرف. فلا بد أنه كان ماثلا، في السابع من أكتوبر، في أذهان الرجال الذين انطلقوا من غزة وقتلوا قرابة ألف ومائتي شخص أغلبهم مدنيون وأسروا مائتين ووحدا وخمسين. ووهم النصر قوي بالمثل في يمين إسرائيل القومي المتطرف الذي يديم زعماؤه بقاء نتنياهو في السلطة. ويؤجج دونالد ترامب أحلامه بخرافته الخطيرة حول تحويل غزة إلى دبي البحر المتوسط المملوكة لأمريكا والخالية من الفلسطينيين.
مات الأمل قبل أمد بعيد من السابع من أكتوبر سنة 2023. وفي السنين المفضية إلى ذلك اليوم، شأن كثر ممن شاهدوا الصراع عن كثب، كنت أشعر بانفجار عنف قادم في الأفق. لكنني تصورت أن تحدث في القدس أو الضفة الغربية، لا في غزة. بل إنني تساءلت في بعض الأحيان لو أن صدمة دم يراق هي التي سترغم الجانبين على العثور على طريق رجعة إلى التفاوض. فلما وقعت الواقعة، أحال القتل الانقسام إلى هوة ما لها قرار. وها هي الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين على أرض ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط تمضي إلى قرنها الثاني.
جيريمي بوين محرر الشؤون الدولية في هيئة الإذاعة البريطانية، ومؤلف كتاب «صناعة الشرق الأوسط: تاريخ شخصي».
عن ذي نيوستيتسمان