عربي21:
2025-05-19@18:10:17 GMT

تُنسى وتَنسى: عن الذاكرة في المعتقل

تاريخ النشر: 19th, May 2025 GMT

"في البدءِ خشيتُ أن ينساني الناس، ثم صرتُ أخشى أن أنساهم، وبعدها صرتُ أخشى أن أنساني"

لم أعرف بعض أهلي حين زاروني في المعتقل، كان الاكتئاب وصحبه قد أهلّوا عليّ قسرا -وما زالوا- وأصاب الذاكرة شيءٌ من صدئهما، فانحجب عني الكثير من الوجوه والأسماء والأحداث والأصوات، أدركتُ حينها أنّ شيئا مخيفا يحدث. الذهن هو ساحة الصراع، هكذا ردّدتُ على نفسي ورفاقي في كلّ مناسبة، ويبدو أنّ خللا أصابه هو الآخر، البقاء في زنزانة انفراديّة لسبع سنين ونصف، بما فيها من تعذيب وتنكيلٍ ومنعٍ وفقد، يفعل ما هو أفظع.



"فلأستعِن بالخيال".. قلتُ لنفسي، وكثّفتُ طقوس التخيّل والتخليق، حتى فوجئتُ ذاتَ ليلة بأنّ الخيال انحجب هو الآخر، لا أستطيعُ استكمال مشهدٍ أضعُ نفسي فيه أو أحبّ الوجود جزءا منه، كانت هذه الصدمة الأشدّ، لعلّها واحدة من المرّات النادرة التي خفتُ فيها -بحسب تصوّري المتشدّد عن الخوف- وحينَ صحوتُ فزِعا من نومي القلق أصلا، على صوت أبي يناديني، صوت حيّ لا لبس فيه وبقي صداهُ يتردّدُ في الزنزانة بعدما استفقتُ، ظللتُ لأسابيع بعدها أجتهد كي لا أنام، أفتحُ عينيَّ غصبا وإن سقط ذهني في حفرة النوم، علّ صوته يعود ويُحضرُ معه شيئا مما أسقطته الذاكرة غصبا، كأثرٍ جانبيٍّ للمعتقل.

المقاومة الحقّة -في هذا الموضع- تكمن في استعادة الذاكرة، في التشبث بكل تفصيل مهدّد، في إعادة سرد ما حدث وكأن الرواية ذاتها سلاحٌ في المعركة ضد التشويه والمحو
ما الذي أفعله حين تخلو ذاكرتي؟ من أنا بغير هذه الذاكرة؟ لا أحد، أو في أهون الظروف آخر غيري لا أعرفه ولم أختره، وربّما لا أريده.

* * *

ليست الأزمةُ هنا ضعفا في الذاكرة، إنّما تهديد هويّة، فزعٌ من أن تمحى، ألا تعود موجودا، أن تتحوّل لأثرٍ بعد عين -حرفيّا- فالقمع ليس مجرد ممارسة للعنف، بل استراتيجية لإلغاء المعنى ذاته، إذ لا يكتفي بسلب الحاضر، بل يمدّ يده إلى الماضي ليعيد تشكيله وفق إرادته وتصوّره، ثم يمضي نحو المستقبل ليحشوه بروايته الملفّقة.

والمعتقل ليس فقط مكانا للتحييد أو الحجب، بل ماكينة لإنتاج النسيان، حيث يُمحى الشخص، تُشوَّه السرديّة، ويُعاد تشكيلك وواقعك بحيث تُمسي شبحا بلا ماضٍ موثّق، بلا أثر يُستدعى، وبلا رواية تُسمع، لكن المقاومة الحقّة -في هذا الموضع- تكمن في استعادة الذاكرة، في التشبث بكل تفصيل مهدّد، في إعادة سرد ما حدث وكأن الرواية ذاتها سلاحٌ في المعركة ضد التشويه والمحو.

أن تَتذكّر يعني أن ترفض الإلغاء، أن تنحت أثرا على الجدار الذي يرادُ له أن يكون بلا علامات، أن تُبقي التاريخ حيّا رغم محاولات سحقه. في هذه المواجهة، تصير الذاكرة أكثر من مجرّد استرجاع للأحداث، إنها فعلٌ يعيد تعريف الوجود ذاته، إثباتٌ أنّك لم تكن مجرد رقم، بل إنسانٌ حمل معنى لا يمكن لمقصلة النسيان أن تبتره.

* * *

النسيانُ يؤلم أكثر من الغياب، فالغائب سيعود يوما، أما المنسيّ فقد انتهى أمره. والمرعب هنا أنّ هذا لن يكون فعلا عدائيّا بل عمليّة طبيعيّة، تبهت شيئا فشيئا على الألسنة، والجدران، والمقالات ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي الأذهان كذلك. ما توقّف كان عالمك أنت، أمّا العالم فيكمل مساره، ربّما بشيءٍ من الثقل في حيوات أحبابك، وبعد قليل يكمل مساره تماما بلا اكتراثٍ، إلا بعض مصمصةٍ للشفاة في مناسبةٍ سنويّة، فالذهنُ جهازٌ يعمل لصالحه هو، لا لصالح صاحبه أو انطلاقا من إرادته، فيحذف ما يُرهقه أو يمثّل ضغطا عليه، وفي لحظةٍ ما ستصبح أنت هذا الضغط؛ فيحذفك لينجو.

وهو -النسيان- لا تسبقه نيّة أو تحرّكه إرادة، بل محض آليّة بقاء لن تدركها حتى تفقد ما قد لا يعود ثانية، أو تُفقدَ أنتَ شخصيّا. يعجزُ الذهن عن تحمّل ما يثقله، يصير استدعاء الماضي عمليّة مرهقة تهدد بالسقوط أو الانهيار، يلجأ -الذهن- لتقليص نفسه شيئا فشيئا حفاظا على التماسك، وعلى بقاء ما سيُبقيه بأمان وكفاءة، فيتخلّص من العبء، لا خيانة لك، إنّما محاولة نجاة، ولأنّه ليس أداة وفاءٍ بالأساس، فإنّه يتخلّص من كلّ ما يُثقله ويهددُ كفاءته أو -بالأحرى- بقاءه.

ولعلّه بهذا أخطرُ من الاغتيال، فهذا يقتلك أمام الجميع، يتركُ دما يقول ما جرى، يتركُ جثمانا يُستدَلُّ به عليك، يُحدثُ صدمة تخلّف ضجيجا، يتركُ حقّك في الرواية، يبقيكَ في الأذهان وفي الأخبار و-ربّما- في الكتب، أما النسيان فهو يفتكُ بك بغير دمٍ ولا أثرٍ ولا جثمان، لا شيء يُستدلّ به على أنّك كنت هنا، يحوّلك مِن "كان فلان" إلى "لم يكن أصلا" ثمّ "لا شيء". في الموتِ تنجو ذكرى، وفي النسيان لا ذكرى ولا نجاة، ولهذا هو الأبشع، كمحوٍ مطلق، ونهايةٍ لا يعرفها أحد ولا يحكيها أحد. وهذا مكمن الرعب الحقيقيّ في النسيان: أنّه لا يلزمه قرار؛ إذ لن تتعمّد أن تَنسى، ولا أن تُنسى، لكنّ ذلك سيحدثُ لا محالة.

الكتابةُ إذا ليست ترفا، ولا طقس تأمّلٍ، ولا حتى "أكل عيش" لمثلي ممّن ليس لهم مصدرُ دخلٍ سواها، إنّما دليلُ وجود، وطوق نجاة من الفقد والانمحاء، والتحوّل من إنسانٍ وحكاية، إلى رقمٍ باهتٍ في ملفٍّ أمنيّ. لذا لا أكتب لأخلّد، بل لأوجد، لأتذكّر ما جرى، وأذكّر به، وهذا وحده يكفي
وهكذا، يتحوّل المعتقل إلى اختبار مزدوج: هل يمكنك أن تظلّ حيّا في ذاكرة مَن بالخارج؟ وهل يمكنك أن تظلّ حيّا في ذاكرتك أنت؟ إنها ليست معركة ضد النسيان فقط، بل ضد محو المعنى ذاته، ضد أن تفقد مرجعيتك لنفسك، أن تصبح بلا وجود، بلا ماضٍ يُستدعى، وبلا حاضر يُوثق.

* * *

ذاكرتي ليست كاملة، لا أملكُ الآن كلّ ما كان فيها، لكنّي أملك أثر فقدها وبه أعيش. ما زلتُ أدوّن وأستدعي وألتقط ما تساقط، لا لأنّ الذكرى فِرْدوسا، بل لأنّ النسيان جحيم، لأن ما لا أقدرُ على تذكّره، ومن ثمّ روايته، هو لم يحدث إذا، ومكانه فراغٌ أو عدم. الكتابةُ إذا ليست ترفا، ولا طقس تأمّلٍ، ولا حتى "أكل عيش" لمثلي ممّن ليس لهم مصدرُ دخلٍ سواها، إنّما دليلُ وجود، وطوق نجاة من الفقد والانمحاء، والتحوّل من إنسانٍ وحكاية، إلى رقمٍ باهتٍ في ملفٍّ أمنيّ. لذا لا أكتب لأخلّد، بل لأوجد، لأتذكّر ما جرى، وأذكّر به، وهذا وحده يكفي.

"هُزمنا على الأرضِ.. وما زلنا

نُسحقُ؛ لينتفي وجودنا-مطلقا: تشويشا.. كي لا نُرى بوضوح، حجبا.. لا يمكنُ التحقّق، تشويها.. لتحلّ نسخَتُهم الشوهاءُ، ثم نفيا تاما

من الماضي: خَلقوا روايتهم المدّعاةُ ويصبّونها في الآذانِ والأذهانِ وصفحات الكتب.

منَ الحاضرِ: يشغلونَ الكلّ بتجنّبِ مصيرٍ مشابهٍ، ومن المستقبلِ: هو خلاصةُ ما سَبَقَه.

أن تَنسى: مَنْ غيرُكَ سيروي ما وقَع؟ أن تُنسى: مَن سيُنصِتُ لـ لا أحد؟

الذاكرةُ، إذا ساحةُ المعركة الدائرة، ومحدّدُ الانتقال معَ الزمنِ لـلحظةِ القادمة.

أن نبقى قادرينَ على التذكّرِ والحكيِ..

أن تبقى روايتنا، بأذهاننا..

أن نبقى..

تلكَ، الآنَ هي المسألة!"

(من كتاب "يُشبه الهُتاف، يُشبه الأنين" للكاتب)

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء المعتقل الذاكرة تعذيب النسيان تعذيب سجن معتقل ذاكرة نسيان قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

علي جمعة: السنة ليست مصدرا للتشريع بل منظومة أخلاقية ومنهاج للوصول لله

قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن السنة ليست مصدرا للتشريع فحسب، بل هي منظومة أخلاقية، ومنهاج للوصول إلى رب العالمين، يرشدنا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أفضل الطرق، وأحبها إلى ربنا في تحقيق سعادة الدارين، معنا في هذه المقالة حديث جامع هو حديث معاذ رضي الله عنه.

وأضاف جمعة، فى منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الإجتماعي فيسبوك، أنه عن معاذ رضي الله عنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير، فقلت : يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار ؟ قال : لقد   سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه. تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، قال ثم قرأ : ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع.... حتى بلغ يعملون﴾، ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر كله، وعموده، وذروة سنامه ؟ قلت : بلى يا رسول الله. قال : رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه، قال : كف عليك هذا، فقلت : يا نبي الله، وإنا المؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» [رواه أحمد في مسند، والترمذي في سننه، والحاكم في المستدرك] وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

فالحديث يبدأ بأن معاذ رضي الله عنه انتظر تهيئة الوقت للسؤال، فانتهز فرصة سيره مع النبي وقربه منه، وعدم انشغال النبي صلى الله عليه وسلم بشيء عن الإجابة، وفي هذا السلوك تأديب لمن أراد أن يسأل العلماء أن يتخير الوقت المناسب لسؤالهم.

سأل معاذ سؤاله الذي اتسم بسمات عظيمة، الأولى : أنه سؤال موجز ومختصر. الثانية : أنه سؤال عن قضايا مهمة وعملية. الثالثة : أنه سؤال جامع، وتلخص ذلك في قوله للنبي ﷺ : « أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار ؟»

طباعة شارك علي جمعة السنة النبوية سعادة الدارين

مقالات مشابهة

  • عميد كلية الحقوق بأكادير يخرج عن صمته و يُطمئن طلبة الأستاذ المعتقل
  • اختبار بطارية Galaxy S25 Edge يكشف النتائج.. ليست سيئة كما توقّع البعض
  • صيام الماء .. تجربة مذهلة ولكن ليست للجميع
  • دعاء قبل النوم لتثبيت الحفظ وعدم النسيان في الامتحان.. بـ 13 آية
  • الادعاء العام في تشاد يحقق مع رئيس الوزراء السابق المعتقل
  • علي جمعة: السنة ليست مصدرا للتشريع بل منظومة أخلاقية ومنهاج للوصول لله
  • تشغيل برنامجك المفضل قبل النوم ليست عادة سيئة إذا التزمت بهذه الشروط
  • تسجيل تحقيق المدعي العام مع بايدن يكشف صعوبات الذاكرة ويثير جدلاً واسعاً
  • جوارديولا: كأس إنجلترا ليست بطولة ذات أولوية بالنسبة لنا