في بعض لحظات هدوء الحياة، وجدت نفسي أتوقف أكثر من مرة متأملًا في سِيَر كثير من الأشخاص الذين تمكنوا من تحقيق نجاحات لافتة؛ ليس فقط في ميادين المال والأعمال، بل في مجالات متعددة من الحياة كالإبداع، والاقتصاد، والإعلام، والجوانب الاجتماعية.
وبينما كنت أتتبع مساراتهم التعليمية والعلمية، شدّني سؤال لم يفارقني: ما مدى تأثير التحصيل العلمي، وتحديدًا الشهادة الجامعية، في النجاحات التي حققوها؟ وهل النجاح في الحياة مرهون بالتفوق الأكاديمي كما هو متعارف عليه لدى أغلب الناس؟
بدا لي أن الرابط بين الشهادة والنجاح ليس بالضرورة وثيقًا كما نُصوّر في أذهاننا.
وهنا لا أقول بعدم أهمية التعليم أو التقليل من قيمة الشهادة العلمية، بل أدعو لإعادة النظر في الطريقة التي نقيس بها النجاح، وفي مدى اعتمادنا على المؤهلات الورقية كدليل وحيد على الكفاءة أو الاستحقاق الوظيفي أو الحياة الناجحة. ربما آن الأوان للفصل بين المسار الأكاديمي والقدرة على تحقيق النجاح، وإعادة صياغة مفهوم النجاح ليكون أوسع وأشمل من مجرد شهادة تُعلّق على الجدران.
لكن، وعلى الرغم مما كنت أعتقده من إمكانية تحقيق النجاح بعيدًا عن الشهادة الأكاديمية، فإن الواقع العملي لا يبدو دائمًا منسجمًا مع هذه النظرة المتفائلة. فدراسة حديثة أعدّتها جامعة هارفارد لتحليل بيانات سوق العمل، أظهرت أن «الشركات التي أزالت شرط الشهادة الجامعية واكتفت بشرط المهارة فقط من إعلانات الوظائف، لم توظف فعليًّا إلا أقل من 1% من المتقدمين غير الحاصلين على مؤهل جامعي». هذا رقم صغير جدًا لا يتجاوز موظفًا واحدًا من بين كل 700 موظف جديد لكنه يطرح تساؤلًا جوهريًّا: هل نحن بالفعل على أبواب تحول جذري في طريقة تقييم الكفاءات؟
تشير الدراسة نفسها إلى أن كثيرًا من أرباب العمل، حتى بعد إزالة شرط المؤهل الرسمي من الإعلان، ما زالوا يفضلون توظيف من يحملون شهادة جامعية. والسبب لا يتعلق بالمحتوى التعليمي ذاته، بقدر ما يرتبط بصورة الشهادة كدليل على الجدية، والالتزام، والحد الأدنى من الكفاءة. وهذا يعيدنا إلى الفكرة الجوهرية: أن النجاح قد لا يكون مشروطًا بالشهادة، لكن كثيرًا من الأبواب ما زالت لا تُفتح إلا بها. وبينما نحتفي بالاستثناءات، يظل التيار العام محافظًا، متمسكًا بالمسار الأكاديمي كمعيار أولي للفرز والاختيار.
لتدعيم نظرتي المتفائلة بعدم الربط المباشر بين التعليم والنجاح في الحياة وهي نظرة أعتقد أن كثيرًا من القراء يشاركونني فيها استحضرت بعض النماذج الواقعية التي أثبتت أن الشهادة ليست دائمًا جواز المرور الوحيد نحو الإنجاز. فالكثير من قصص النجاح التي لا تزال حاضرة بيننا، كان أبطالها ممن لم يشعروا يومًا أن ورقة جامعية هي ما سيقودهم إلى القمة.
ستيف جوبز لم يُكمل جامعته، لكنه غيّر العالم بتقنياته. بيل غيتس انسحب من هارفارد ليؤسس مايكروسوفت ويصبح أحد أثرى رجال العالم. ريتشارد برانسون ترك مقاعد الدراسة مبكرًا ليُطلق واحدة من أكثر العلامات التجارية إبداعًا. أما مايكل ديل، فبدأ مشروعه من سكنه الجامعي قبل أن يغادر الجامعة ويقود شركة عالمية في صناعة الحواسيب.
هذه النماذج ليست دعوة لإهمال التعليم، بل لتوسيع مفهوم النجاح ذاته. نعم، لا يزال العالم خاصة في منطقتنا يمنح الشهادة مكانة كبيرة، ولكن في ظل التحولات الرقمية المتسارعة وتغيرات سوق العمل، لم يعد السؤال: «أين درست؟» بل: «ماذا تُجيد؟» و«ما الذي أنجزت؟» و«ما المهارات التي تمتلكها؟».
إن المسار الأكاديمي قد يكون طريقًا نحو الوظيفة، لكنه ليس بالضرورة الطريق إلى الريادة أو الإبداع. فبفضل التقنيات الحديثة وتوفر المعرفة، أصبح التعلم الذاتي، والممارسة، والانفتاح على تجارب الآخرين، مسارات حقيقية للنجاح والاستقرار والتميّز، حتى في غياب المؤهل الأكاديمي الرسمي.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
بلال قنديل يكتب: بين الماضي والحاضر
الإنسان كان وما زال كائناً متغيراً، يتأثر بزمانه ومكانه، وتتبدل اهتماماته وأولوياته مع تغير العصور وتطور المجتمعات.
فما كان يشغل عقل الإنسان في الماضي، لم يعد بنفس الأهمية اليوم، وما كان يعتبر رفاهية أصبح ضرورة، والعكس صحيح. بين الماضي والحاضر مسافة طويلة، تروي حكاية تطور الإنسان في اهتماماته وطباعه وأساليب حياته.
في الماضي، كانت اهتمامات الإنسان تدور حول البقاء وتوفير الأساسيات من مأكل وملبس ومأوى. كان الجهد ينصب على الزراعة أو الرعي أو الحرف اليدوية. العلاقات الاجتماعية كانت أعمق، والروابط العائلية أقوى، وكان الناس يتشاركون لحظاتهم بقلوب مفتوحة، بعيداً عن التعقيدات التكنولوجية.
أما في الحاضر، فقد تغير المشهد تماماً. أصبح الإنسان أكثر ارتباطاً بالتكنولوجيا، وأصبح الهاتف الذكي جزءاً لا يتجزأ من يومه. اهتماماته اتجهت نحو الاستهلاك، والبحث عن التميز الفردي، واللحاق بركب التحديث المستمر. حتى العلاقات أصبحت في كثير من الأحيان افتراضية، والشعور بالوحدة أصبح شائعاً رغم كثرة وسائل التواصل.
تغيرت أيضاً مفاهيم النجاح والسعادة. في الماضي، كان النجاح مرتبطاً بامتلاك أرض أو بيت أو عائلة مستقرة. اليوم، أصبح النجاح يقاس بعدد المتابعين، أو الإنجازات المادية، أو حتى بمدى الظهور في وسائل الإعلام. تغيرت الأولويات، وتغير الإنسان نفسه، فأصبح أكثر قلقاً وأقل صبراً.
لكن رغم كل هذا التغير، يبقى هناك خيط رفيع يربط بين الماضي والحاضر. الإنسان في جوهره لا يزال يبحث عن الأمان، عن الحب، عن التقدير، وعن معنى لحياته. قد تتغير الوسائل، وقد تختلف الطرق، لكن الجوهر يبقى كما هو.
بين الماضي والحاضر، هناك تطور واضح، لكنه ليس دائماً تطوراً إيجابياً. فربما علينا أن نتأمل في ماضينا لنستعيد بعض القيم التي فقدناها، ونوازن بين ما نكسبه من تقدم وما نخسره من إنسانيتنا.