عندما نتعامل بأخلاقنا
تاريخ النشر: 26th, May 2025 GMT
سعيد بن حميد الهطالي
في زحمة الحياة اليومية نصادف مواقف تبدو مُستفزة بلا إنذار: سائق يتجاوزك بوقاحة، شخص يحرجك بتفاهة..، أو غريب يطلق تعليقًا جارحًا دون سبب، هذه اللحظات تشبه اختبارًا مفاجئًا لما تحمله نفوسنا من قيم، السؤال هنا: هل نسمح لهذه الظروف أن تُخرج أسوأ ما فينا، أم نصنع خيارًا واعيًا بأن نثبت على أخلاقنا، حتى عندما لا يستحق الآخرون ذلك؟
في عالمٍ يكافئ أحيانًا الصراخ أكثر من الحكمة، والانتقام أكثر من التسامح، تظل الأخلاق اختيارًا شجاعًا، فكل موقفٍ مستفز هو فرصة لكي تثبت على مبادئك كشجرة تكافح أن تثبت جذورها أمام العاصفة، ربما لن يغير هذا من الآخرين، لكنه حتمًا سيغيرك: يعزز ثقتك بنفسك، ويصنع منك إنسانًا لا تحدده الظروف، بل تُحدده قراراته.
لماذا نتمسك بالأخلاق حين يستفزنا الآخرون؟
الأخلاق ليست رد فعل ظرفي، بل هي هوية نحملها في أعماقنا حين نختار الرد بلطف وأدب على إساءة، أو نصمت أمام استفزاز، لا نفعل ذلك لأننا ضعفاء؛ بل لأننا ندرك أن التحكم في ردود الأفعال هو أعلى مراتب القوة، فالأخلاق درع نحمي به ذواتنا أولًا، قبل أن تكون هدية نقدمها للآخرين.
عندما تتعامل بأخلاقك في موقف مشحون فأنت لا تغير مسار اللحظة فحسب؛ بل ترسل رسالة غير مباشرة: "لن أسمح لسلوكك أن يحدد سلوكي"، هذا الاختيار قد يحمي ردود فعل الطرف الآخر، أو على الأقل يقلل من تصعيد التوتر، نتذكر قصة الرجل الذي أصر على دفع دين جاره المسيء إليه أمام القاضي، قائلًا: "أريد أن أتعلم العفو حين أستطيع العقاب"، مثل هذه المواقف تذكرنا بأن الخلق الحسن عدوى إيجابية حتى في البيئات السامة.
إن التحلي بالأخلاق تحت الضغط يحتاج إلى تدريب يومي يشبه بتمرين العضلات. ابدأ- مثلًا-بهذه الخطوات:
• التنفس قبل الرد: أعطِ نفسك ثوانٍ لتهدئة اندفاع المشاعر.
• التعاطف: اسأل نفسك، ما الذي قد يمر به هذا الشخص حتى يتصرف هكذا؟
• إعادة الصياغة: حوّل الاستفزاز إلى فرصةٍ لاختبار نضجك، وقواك النفسية.
كما أن تكرار عبارات مثل: "هذا الموقف لا يستحق أن أفقد سلامي الداخلي تجاهه" يُعيد برمجة ردود أفعالك، مع الأخذ في الاعتبار أن الالتزام بالأخلاق لا يعني تنازلك عن حقوقك، أو قبول الإهانة؛ فالفارق جوهري بين أن تكون طيبًا، وبين أن تكون سلبيًا، يمكنك أن تعبّر عن غضبك بطريقة محترمة وأن تدافع عن نفسك بحزمٍ دون انتقاص من كرامة الطرف الآخر، المهم ألا تتحول المعركة إلى ذريعةٍ لتبرير الفوضى في داخلك.
فيجب حتى في جانب تربية الأبناء أن يربوا على هذه القيم، فإننا نغرس فيهم قوة من نوع مختلف، قوة لا تقاس بالصوت المرتفع أو بالرد الحاد أو اللاذع، بل بالقدرة على تجاوز الأذى دون فقدان الكرامة، أو فقد الغير لاحترامه، فالتعامل بالأخلاق ليس خنوعًا؛ بل رفعة، وليس ضعفًا؛ بل اتزانًا. والأخلاق ليس ترفًا في التعامل؛ بل مرآة تعكس وعي الإنسان بذاته وقيمه، فاختر أن تكون مرآتك صافية، ولا تنظر لحظة استحقاق لتظهر أخلاقك؛ بل كن أنت دائمًا سببًا في جعل العالم من حولك أفضل، ولو بموقف نبيل بسيط منك، فحين نختار الأخلاق في تعاملنا نحن لا نجامل الواقع؛ بل نمتثل لنهج ديننا الإسلامي، ولهدي نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام الذي قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
بين الكاتب والمكتوبجى
الصحافة حرفة قبل أن تكون رسالة، فكيف يمكن لمن يمارس تلك الحرفة أن يحمل تلك الرسالة وقد أصابه القلق والخوف من أن يعضه الجوع، وأن يكون مصيره التشرد؟ الواقع الذى يعيشه من يمتهن الصحافة الآن هو الدافع الأول لطرح السؤال، وقبل أن نخوض فى هذا الواقع، أعرض بعض ما قيل عن تلك المهنة ورسالتها.
قيل عن الصحافة إنها رسالة خالدة، وأنها ركن من أعظم الأركان التى تشيد عليها دعائم الحضارة، وأن كل أمة متمدنة يجب عليها أن تحترم الصحافة، وقيل عنها: لا شىء يدل على أخلاق الأمة ومكانتها مثل الجرائد، فهى المنظار الأكبر الذى ترقب فيه حركاتها وسكناتها، هى رائد الإصلاح ورياح التقدم، إنها لسان الأمة وبرهان ارتقائها، فأمة بدون صحافة لا عين لها فتبصر، ولا قلب لها فتشعر.. ما سبق قليل من كثير يوضح أهمية الرسالة فى حياة أى أمة.
ورغم سمو تلك الرسالة فقد عانت الصحافة ومن يمارسها على مر تاريخها فترات عصيبة من التعنت والاضطهاد والقسوة، تشتد وتلين حسب سياسات السلطة الحاكمة، فاخترع الحكم العثمانى مثلًا دور «المكتوبجى» ليمارس الرقابة على الصحف رغم جهله باللغة العربية، وكان من غرائب هذا «المكتوبجى» ما سجله «سليم سركيس» خلال توليه تحرير جريدة «لسان الحال» فى بيروت عما عاناه هو وغيره فى كتابه «غرائب المكتوبجى عام 1896».
ومن غرائب هذا «المكتوبجى» كما يحكى «سركيس» عن تلك الفترة في بيروت، أنه عندما طبع يوسف أفندى حرفوش كتابًا فى الأمثال وورد فيه المثل الشهير «الحركة فيها بركة»، أمر بحذف المثل زاعمًا أن لفظ الحركة تفيد الثورة!، ومن غرائبه أيضًا عندما كتبت جرائد بيروت أن أحمد أفندى سلطانى زايل «أى تارك ومغادر» الثغر لزيارة شقيقه محمد أفندى سلطانى المقيم فى الأستانة، حذف المراقب النون والياء من سلطانى وصار الاسم «محمد أفندى سلطا»، لأن السلطان لا يكون إلا لعبدالحميد!، ومما ذكره «سركيس» فى كتابه: أنه عندما ضجر عبدالقادر أفندى القبانى صاحب «ثمرات الفنون» من كثرة حذف المقالات، زار «المكتوبجى» راجيًا منه أن يحدد لهم خطة يسيرون عليها فى تحرير صحفهم وأن يريهم القانون الذى يخضعون له، فنظر إليه وقال: ألا تدرى أين القانون؟ فأجاب قبانى أفندى سلبًا، فوضع إصبعه على دماغه وقال: إن القانون هنا!
تلك العلاقة بين الكاتب والمكتوبجى يمكنها أن تمر رغم صعوبتها ووحشتها، يمكن التعايش معها وتفهمها رغم قسوتها ومرارتها، ولكن الأَمَّر الذى لا يمكن أن يمر هو حال من يمارسون تلك المهنة الآن، فقد أصبح قطاع عريض منهم يطارده شبح التشرد، وبات شغلهم الشاغل البحث عن عمل خارج نطاق تلك المهنة لسد حاجتهم وحاجة أولادهم قبل أن يعضهم الفقر.
لا يخفى على أحد أن هناك قطاعًا عريضًا ممن يمارس مهنة الصحافة الآن يكافح من أجل البقاء فى مواجهة ارتفاع جنونى للأسعار متسلحًا برواتب متدنية تسير كالسلحفاة فى سباق غير متكافئ مع سرعة هذا الجنون المتصاعد، وبينما لم يصل الكثير والكثير منهم إلى الحد الأدنى للأجور الذى أقره القانون، يجد البعض أنفسهم فى مواجهة مُلَّاك صحف لا يشعرون بهم ولا يألمون لهم، مُلَّاك لديهم أجندات ومصالح ومكاسب مختلفة، يشهرون أسلحة التهديد بالإغلاق وإعلان الإفلاس إذا لزم الأمر.
فى النهاية: أعلم أن هناك من يكره الصحافة كما السلطان عبدالحميد الثانى عندما قال بعد خلعه من عرش السلطنة: «لو عدت إلى يلدز لوضعت محررى الجرائد كلهم فى آتون كبريت»، وأعلم أن هناك من يتوجس خيفة من أرباب القلم كما نابليون الأول عندما قال إنه يخاف من ثلاث جرائد أكثر من مائة ألف جندى، ومنهم من يسير على نهج «نقولا الثانى» قيصر روسيا عندما قال: «جميل أنت أيها القلم ولكنك أقبح من الشيطان فى مملكتى».. وبين تلك الكراهية والخوف أو التفاهم، يوجد صحفى يريد أن يأكل ويشرب، يريد أن يعيش مطمئنًا بدلًا من تهديده بشبح التشرد أو الخوف من عضة جوع.
أخيرًا: الصحافة لسان الأمة والمرآة التى تريها نفسها اليوم وغدًا وبعد غد.. وما يعانيه قطاع كبير ممن يمارسون تلك المهنة لابد أن يكون له حل عاجل.
[email protected]