تأرجح النص بين المباشرة والرمزية مع أزمة المعنى في الشعر العربي
تاريخ النشر: 3rd, June 2025 GMT
"العُمانية": يجد الشعر في حقيقته، في مواجهة حتميّة مع تحوّلات المعنى وتبدّلات الذائقة في وقت تتسارع فيه اليوم خطى الأحداث وتتصاعد فيه أصوات اللحظة ووقائعها على حقيقة وواقع التأمل. وفي الوقت الراهن ثمة حقيقة لا يمكن إنكارها تتجسد في تسطيح يُفقد النص الشعري بُعده الإنساني الرمزي، وتبقى القصيدة المعاصرة في صراع شبه معلن بين الرمز والتقرير والعمق والتسطيح، وبين الجمال الحقيقي والتأثير اللحظي.
وفي هذا السياق يتطرق الشاعر العراقي عدنان الصائغ حول القضايا الراهنة وأثرها في تحوّل القصيدة الشعرية وواقعها الفكري، وكيف أثرت تلك القضايا بكل توجهاتها في شكل ومضمون القصيدة المعاصرة، متطرقًا إلى علاقة القصيدة المعاصرة بالأسئلة المتمثلة في الزمن والهوية ويقول: يرى أبو الحسن القاضي الجُرجاني وهو عالم موسوعي وأديب وناقد من أعلام القرن الرابع للهجرة أنَّهُ "ليس في الأرض بيتٌ من أبيات المعاني لقديم أو محدث إلَّا ومعناه غامضٌ مستتر". ويرى الفيلسوف جون كوهين "أنَّ الغموضَ في القصيدة أساسيٌّ بالنسبة إليها ولكنه ليس مجانياً، إنه الثمن الذي تدفعه مقابل إيضاحٍ من نوعٍ آخر"..، مفتتحاً لقراءات عدة تأخذ مستوياتها المتعددة والمختلفة تبعاً لاِختلاف تأويل المتلقي، فيكون للنص ـ تبعاً لذلك ـ عدة مستويات في القراءة.
ويضيف الصائغ: "هذه المستويات تقترب أحيانًا من النص وتبتعد عنه في أحيان أخرى، حيث تكون هذه المسافة بينهما عادةً مسكونة بالغموض والضباب بحيث لا يمكن رؤية مشهد النص كاملاً لكننا يمكن أن نتأمله. وهذا التأمل يقودنا إلى متعة إضافية يوفرها لنا الحدس والتأويل والمخيلة. غير أنَّ بعض النصوص تسقط في بئر الظلام والتعمية الكاملة فلا نرى منها شيئاً".
ويشير إلى أن هذا التفريق يجب أن يكون بين هذين النوعين من الغموض: أي الغموض بوصفه خطاباً ـ مغايراً للسائد المباشر ـ بما يملكه من طاقة إيحائية تزيد النصَّ دلالةً ولذة، وبين الغموض المقفل الذي يعتمد على العلاقات الغرائبية المفتعلة بين الألفاظ المعجمية والتي لا يمكن أن تمنحنا سوى شكلٍ معقَّدٍ من الألغاز التي يستعصي فك رموزها اللغوية والبلاغية المفبركة أصلاً.
ويؤكد بقوله: إنَّ "الرمز" الفني، عكس هذا، فهو يحتاج إلى فهمٍ كاملٍ للعلاقات بين عناصر الصورة الشعرية والتناسق اللغوي والتشكيل السردي والمرجع وعلم الدلالة والانزياح وتوتر الفجوات والتعاشق بين المخيّلة والصورة والتأويل، حيث يعطي النص أكثر من مدلول ويأخذ أكثر من شكل وإحالة. فيخرج عن المألوف المعروف وهذا الخروج يباعده عن دائرة المتلقي السهل "المباشر" ويقربه من دائرة المتلقي المبدع ـ الكاتب الآخر، بما يملك من مرجعية وتجربة ومخيلة تجعله يعيش لذةً ومتعةً في قراءة النص. وبالتالي فهو يقربه من فهم الشاعر الحديث ونصوصه. بينما يتخبّط الآخرون في مجاهيل ودهاليز الغموض الأعمى، دون أن يتمكنوا من معرفة أول الطريق أو آخره. وهذا التخبّط هو الذي ملأ مكتباتنا اليوم بهذه الأكداس المكدسة العمياء التي يسمونها جزافاً شعراً وهي عبارة عن ضربٍ في هواء الكلام. وبالإضافة إلى عدم جدواه فهو يشكّل سياجاً معرقلاً وعازلاً ومعوقاً أمام الذائقة للوصول إلى النصوص المبدعة. حيث يشكو جلّ الشعراء - هذه الأيام - من خطورة القطيعة بين القارئ والشعر.
في السياق ذاته يتحدث الشاعر العُماني عبدالله علي الكعبي عن "الرمزية الشعرية كأداة فنية لفهم العالم وتكثيف المعنى"، وما يجعلها أكثر تمكنًّا على التعبير من اللغة المباشرة، وبين ما تصل إليه كتشفير أدبي وفكري جمالي، وضرورة جمالية في الوقت نفسه، ويؤكد: "يبدو لي هناك تداخلات كثيرة جدًا وذات أبعاد معنوية حيث أقاصي النص الشعري ذي البُعد الفكري والتعريفي. الشعر كتعريف عصي على الإجماع هو من ينابيع الوجوديات المعروفة، وهذا يقودنا بدوره إلى الأسئلة المطروحة أيضًا فما الرمز إلا وسيلة وطريقة من طرق الشعر وها هو ذا يكثر في عصرنا وهو ذو امتداد تاريخي أيضًا.
ويضيف: "لنتفق أن الصوفية هي اكتمال الرمزية وتوجيهها إلى عالم العرفان والعامة والخاصة من ناحية تاريخية، لكن أيضًا لا ينفي وجود الرمز الشخصي في الشعر القديم، فيبدو ذلك جليًّا في رمزية الطلل كلازمة عند الشعراء الجاهليين فالشعر منذ أن هلهله مهلهل إلى صلاح في ديمومة مستمرة بين الرمزية كأداة تعبير.. وعليه من هذه المسألة يمكننا أن نخرج بالشعر من احتدام الصراع بين المباشرة والغموض للوصول إلى المعنى بسهولة عن طريق فكرة مفادها أن هناك شعرة وخطًا بين الشعر والنثر لا تتعلق بالغموض والوضوح، فلربما كان النص مباشرًا في طرحه لكنه يمتلك الأدوات الكفيلة بإدراجه في قائمة الشعر وربما هو غير مباشر ورمزي ولكنه يبتعد عن الشعر كل البعد.
ويقول: "إذا وضعنا الشعر في قالب واحد وهو الرمزية ثم وضعنا للرمز قالبًا واحدًا سوف يحيل بنا في نهاية المطاف أن نلغي الإبداع وذلك بقتل كل رمز شخصي جديد، وعليه حتى الرموز لابد لها أن تقع في جانب الابتكار وتفجير العديد منها وهذا يتأتى من خلال التجربة والاقتراب من اللغة والأشياء وكينونتها".
ويوضح: "في رأيي الرمزية أصبحت جزءًا من ثقافة المجتمع بل وأصبحت نسقًا خاصًّا بلغة المجتمع وخاصة اللغة الأدبية ولها أسبابها العديدة من الاقتصاد والتكنلوجيا والحداثة والسياسة، ولكن أهم ما في الموضوع هو الابتكار والابتعاد عن التكرار وقتل الاندفاع اللغوي الابتكاري".
وللشاعر العُماني هاشم الشامسي رأي في هذا السياق، ويأتي منتصرًا لقصيدة النثر ليوضح حقيقية الشعر كونه بين المباشرة والرمزية ويقول: تعددت أساليب كتابة الشعر الفصيح كقصيدة الوزن المقفى إلى قصيدة التفعيلة ثم قصيدة النثر، هذه التعددية في أساليب كتابة الشعر هي ظاهرة صحية وتمثل تطورًا في توظيف المفردات اللغوية وكيفية بناء الجملة الشعرية، وهي تجارب أسهمت في إثراء الساحة الأدبية الشعرية.
ويضيف: بالنسبة لقصيدة النثر، هناك فرق بين النثر الجميل وقصيدة النثر كونها شعر وليس نثر جميل، لأنها مكتملة ككائن مستقل وحي، وتكتسب قصيدة النثر هيئتها وحضورها الشعري من بنية الجملة وبناء الفقرة التي تجعل القارئ مستمراً في القراءة حتى النهاية، تتخلص قصيدة النثر من وظيفة الوصف بفرضية منطقية، فبفضل عنصر " اللاغرضية" يتخلص السرد الذي هو سمة رئيسة في قصيدة النثر، من منطقيته النثرية، فهو ليس مخططاً روائياً يريد أن يصل إلى نتيجة ما، وإنما غرضه غرض فني جمالي محض.قصيدة النثر هي جنس فني تستكشف القيم الشعرية الموجودة في لغة النثر، تسعى إلى التخلص من قيود نظام العروض، والتحرر من الالتزام بالقواعد الموروثة من القصائد التقليدية، وهي منفتحة على الشعر والسرد والنثر الفني.
لذلك فإن كتابة قصيدة نثرية يجب أن تتسم بالوضوح والبعد عن المباشرة، كما تتسم مفرداتها بالعمق بحيث يراد من مفرداتها ما هو أعمق وأبعد من المعنى المذكور، وتجعل من القارئ الوقوف عندها لفهم ما يعنيه الشاعر وما يرمي إليه منها، وهو ما نعنيه بالإنزياح أو الغموض، بحيث يعمل الشاعر في جعل مفرداته التي يستخدمها بأن تكون متوازنة بين الوضوح والرمزية بعيداً عن المباشرة والوصول إلى المعنى الذي يجعل من النص الشعري أكثر لذة ومعنى.
ويؤكد على أنّ القصيدة تأتي كبناء منسجم ومتوازن فيها من الحياة والتكامل والتنامي بعيداً عن الكلام المبعثر مما يجعل القصيدة تشكّل وحدة للموضوع، متضمنة الإشارات والإيماءات والتلميحات التي تؤثر في فكر القارئ. والرمز موجود في كل أساليب الكتابة الشعرية، مثل العمود والتفعيلة والنثر، وهو قدرة الشاعر على الاشتغال في النصّ الشعري وإنتاجه بحيث يعمل الشاعر على كتابة قصيدة متوازنة بين الواقع والرمز وعدم الوقوع في فخ المباشرة، وقدرة الشاعر على توزيع اشتغاله على الجمل الشعرية والعمل على انسجام المفردات وتفاعلها مع النص الشعري، ومن هنا نجد أن الموسيقى في قصيدة النثر في تفاعل مفرداتها المحمّلة بالرمز، ويمثل الرمز في قصيدة النثر انزياحاً عن المباشرة في النص الشعري.
ويوضح أن الرمز هو أحد أوجه الحداثة الشعرية وجاءت قصيدة النثر لتجسد هذا الاشتغال وتجعل من المتلقي يتفاعل مع النص الشعري بحيث يقف متأملاً الجملة الشعرية باحثاً عن مزيد من التفاعل والتأويل ومشاركاً الشاعر في رؤياه ومراميه، وقصيدة النثر ليس لها إيقاع موسيقي ظاهر، ولكن فيها عناصر أخرى للشعر هذه العناصر هي الخيال والوجدان والمجاز والإيحاء، هذه العناصر هي أساس كتابة الشعر، وتركز على الموسيقى الداخلية من خلال تجانس الألفاظ ومن خلال استجابتها للفكرة المعينة عند الشاعر، كما أن قصيدة النثر كانت أقرب إلى كتابة الدراما المسرحية بصورة أوضح بما تتميز به من مرونة في الخطاب، الشاعر والأديب العُماني سماء عيسى مثلاً (لا شيء يوقف الكارثة، صوت سمع في الرامة). وفي ختام رؤيته حول في السياق، يوضح أنّ الشعر قد يأتي في شذرة أو ومضة وذلك يمثل الإيجاز الذي تتميز به اللغة العربية في بلاغتها وبُعدها الجمالي، ويجعل من القصيدة يسيرة وبليغة، وهذا ما يجعل توظيف الرمز بأسلوب شعري يرى فيه المتلقي غايته ومتعته، مع أهمية الابتعاد عن المباشرة التي تأتي على شكل الخاطرة أو التقريرية أو الشرح.
أما الشاعر السوري هاني نديم، فيتحدث في هذا الجانب ويقول: خرجت القصيدة من عباءتها المقصبة وفرّت من البلاط من بين يدي القصور إلى الشارع الذي أصبح هو القضية اليوم، لم يعد من المناسب في هذا المخزون البصري من حولنا أن تكون القصيدة متعالية ببلاغاتها ورطاناتها ومواضيعها الكبرى، لم يعد هناك قضايا كبرى أو يكاد. ويضيف: فالعمود وإن كتب اليوم فهو نوع من المكابرة والنوستالجيا أكثر من كونه معطى من معطيات الوقت الراهن. اليوم هو وقت قصيدة النثر بكل تأكيد، وتمثلاتها، وفوضاها، وغموضها أحياناً، وإن كنت بشكل شخص لا أحب الطلاسم والغموض، لكنه جزء أصيل من ضبابية اليوم، إلا أن جوهر الشعر وماهيته الداخلية لم تتغير، ما زال جليلاً صادقاً نبيلاً.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: النص الشعری کتابة الشعر قصیدة النثر عن المباشرة فی هذا
إقرأ أيضاً:
غزة: حطام المعنى وركام المبنى
يشرح الفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» كيف أوصلت الحداثة الصناعية الرأسمالية الإنسان إلى أن غدا ذا بعد واحد، بعد أن تم تدجينه في إطار منظومة لا يستطيع التفكير خارجها، الأمر الذي قضى على حريته التي أصبحت تعني حريته في أن يختار بين السلع المختلفة فقط، الأمر الذي يعني حرية الفرد في أن يختار بين الخيارات التي تم اختيارها له سلفاً، وهو ما يعني إفراغ مصطلح الحرية من محتواه، وإفراغ كثير من المصطلحات والقيم من مفاهيمها، وإعطاءها مفاهيم مضادة، ليصبح الاستثناء هو القاعدة والقاعدة هي الاستثناء، بعد أن أفرغ الإنسان من محتواه الروحي والقيمي، ليصبح ذا بعد مادي واحد.
واليوم، ومع ما نشاهده من أهوال القصف والتشريد والتجويع والإذلال في قطاع غزة يمكن أن نفهم حالة التبلد الشعوري واللامبالاة إزاء الجريمة، وهو تبلد وصلنا معه إلى درجة أن نكون شهوداً على قتل إسرائيل أكثر من ستين ألف فلسطيني، دون أي تفاعل يتناسب مع حجم الجريمة، حتى أصبحت أخبار موت الأطفال – جوعاً – خبراً مألوفاً، نشاهده – صوتاً وصورة – في نشرة أخبار التاسعة، ثم نذهب بعدها للنوم، بكل هدوء.
ولكن كيف تم هذا التطبيع مع الجريمة؟
لقد مر هذا التطبيع بعدة مراحل، خلال فترات طويلة، هي ذات الفترات التي تدرج فيها خطابنا السياسي من «العدو الصهيوني» إلى «الكيان المحتل»، إلى «دويلة إسرائيل»، إلى «دولة إسرائيل»، وصولاً إلى مراحل التطبيع المختلفة، وهي ذات العملية التي عبرنا خلالها عدة مراحل ومصطلحات، انتقلنا فيها من كون فلسطين قضية عربية إسلامية، إلى كونها قضية عربية، ثم قضية فلسطينية، ثم اختصار فلسطين في غزة، إلى أن وصلنا إلى اختصار القضية في كونها مجرد مشكلة مع حركات مقاومة (إرهابية) يجب القضاء عليها، ضمن استراتيجية ما يسمى بـ»الحرب على الإرهاب»، ليتمثل الحل، بعد ذلك، في إخراج حماس من المشهد السياسي، ثم التطور إلى إخراجها من غزة، وهو حل لن يقف على ذلك، لأن الهدف هو تهجير أكثر من مليوني فلسطيني من غزة إلى تغريبة فلسطينية جديدة، في المنافي والشتات.
وقبل الوصول إلى هذه المرحلة تم الاشتغال على محتويات مفاهيمية وعلى مصطلحات تم تكريسها في ثقافتنا السياسية والإعلامية تحديداً، ضمن الاشتغال على لغة مناسبة، هيأت الساحة على مدى عقود لتقبل فكرة أن المقاومة إرهاب، وأن إسرائيل يمكن أن تكون دولة صديقة، وأن العلاقات معها ستكون بديلاً عن مقاومة احتلالها، في بناء شرق أوسط جديد مزدهر وآمن.
وهنا لعبت اللغة دوراً محورياً عبر ضخ كم كبير من المصطلحات، تحولت معها اللغة إلى وسيلة تدجين، بدلاً من كونها أداة تفكير ووعي وشعور وخلق وإبداع، وأصبحت أداة في يد آلة إعلامية جبارة تسلطها لخدمة أهداف رأس المال في تدجين الإنسان ليغدو كائناً أحادياً، بلا قيم ولا شعور ولا تفكير ولا قدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، بعد فترات طويلة من تكريس ثقافة تقوم على أساس أن القيم نسبية، وأن الأخلاق تتغير، وأنه لا توجد حقائق مطلقة، وأن الشك هو سيد الموقف، وأن الحقيقة الوحيدة الماثلة أمامنا هي حقيقة القوة المادية التي تعيد تشكيل الروح، ومن هنا لم تعد القضايا الكبيرة تهمنا، ولا فلسطين تشغلنا، بل على العكس، أصبحت فلسطين صداعاً نتمنى التخلص منه بأية وسيلة كانت.
كان مطلوباً – إذن – ضخ أكبر قدر ممكن من التشكيك في الثوابت، سواء كانت دينية أو وطنية، تم التخطيط للتشويش على المعاني والقيم، ثم جرت عمليات منظمة لخلط المفاهيم ومهاجمة الرمزيات، والسخرية من المقدسات، وإبراز التفاهة ثابتاً من الثوابت التي لا تتغير، وسرى تعميم التشكيك على تاريخنا، حيث ضُخت محتويات إعلامية ضخمة، كُرست لشيطنة ذلك التاريخ، وحصره في فترات الصراع، بعد أن جرى تغييب كامل لمنجزات هذا التاريخ الفلسفية والعلمية والتشريعية والأدبية والفنية، وتم تصوير هذا التاريخ على أنه تاريخ حروب وصراعات لا تنتهي، حتى راجت أفكار سخيفة من مثل أن الرغبات الجنسية وحب السلب والنهب والتسلط كانت الدافع وراء «الفتوحات الإسلامية».
وفي سياق الأهداف المذكورة، ضُخت محتويات مهولة لتشويه كبار رجال التاريخ، بغرض هز المُثُل في نفوس الأجيال، الأمر الذي أدى إلى سقوط الرمزيات والمعاني والقيم في النفوس، حتى وصلنا أخيراً لشيطنة فكرة المقاومة، رغم أن من حقها، وفقاً للقوانين الدولية أن تقاوم الاحتلال.
أريد لنا – إذن – أن نعيش دون رمزية، دون معنى، دون هدف، لأن الغايات عندما تُمحى من النفوس تضيع البوصلة، وينحرف المسار، ويتفجر الصراع البيني على الماديات، داخل مجتمعاتنا التي انعدمت لديها القيم والمثل والرموز، وسقطت في هوة العدمية السحيقة.
من هنا تقدمت السطحية، وتراجع العمق، وسادت التفاهة وانزوت الجدية، وضخت وسائل التواصل الاجتماعي محتويات فارغة، وتغيرت نواحي اهتمام الجمهور، بعد أن فقد الثقة في الرموز، بفعل شيطنة تلك الرموز من جهة، وبفعل ترميز التفاهة من جهة أخرى، الأمر الذي وصل بنا إلى تتبع محتويات فارغة، والنفور من المحتويات الممتلئة، وهذا هو المطلوب لرفد مجتمعنا بكميات رقمية من الأفراد، مجرد أرقام بلا قيمة ولا محتوى، ولا هدف ولا غاية ولا معاني كبيرة، أرقام استهلاكية بامتياز.
ومع خلط الأوراق، واهتزاز القيم، والتباس المفاهيم أصبحت المقاومة إرهاباً، وغدت إسرائيل دولة تدافع عن نفسها ضد الإرهاب، فيما الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال أصبح – وفقاً لهذا التوجه – يمارس الإرهاب ضد الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وتشوشت مفاهيم المقاومة والاحتلال والحرية والديمقراطية والحرب والسلام والصح والخطأ والحق والباطل، والقيم والمصال. وانتهى عهد قوة القانون، ليطل عصر قانون القوة الذي نرى تجلياته في تلك الغابة المتوحشة التي تدعى «المجتمع الدولي» الذي سلب الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال حق الدفاع عن النفس، ومنح هذا الحق لدولة الاحتلال الإسرائيلي.
القدس العربي