بخلاف غالب عمل أجهزة المخابرات في المنطقة، لا يكتفي جهاز المخابرات العامة في السودان بجمع المعلومات المتعلقة بأمن الدولة وتحليلها، والتوصية بشأنها لمختلف مؤسسات الدولة، ولا بالتحرك من وراء الحجب واتخاذ التدابير لحفظ وصيانة المصالح الوطنية، كأحد الأضلاع الرئيسية في هيكل الأمن القومي السوداني، بل يذهب أكثر من ذلك ليحمل السلاح ويقاتل جنباً إلى جنب القوات المسلحة متصدياً للمتمردين ومقاتلاً للإرهابيين والخارجين عن القانون.

ومع أهمية الدور الذي يقوم به ضباط جهاز المخابرات، وجنوده، في المهام القتالية المباشرة المرتبطة بحرب الكرامة، وبلاؤهم فيها أحسن البلاء، نلاحظ أن الجهاز يقوم بأدوار بالغة الأهمية على جبهات أخرى لا تقل أهمية عن ذلك، وهي الأدوار المتعلقة ببناء جسور التواصل وحلحلة الكثير من العُقد في المشهد المحيط بالسودان والمؤثر على أمنه الداخلي والخارجي.

الدبلوماسية الخفية
ملفات إقليمية، وأخرى ترتبط بأجندة دولية تتعلق بالحرب التي اندلعت في السودان منذ منتصف أبريل 2023، جعلت بورتسودان عاصمة ولاية البحر الأحمر شرقي البلاد محطة لزيارات مدراء مخابرات دول الجوار في إطار ما يمكن أن نطلق عليه “دبلوماسية المخابرات” أو الدبلوماسية الخفية، حيث السعي الدؤوب لمعالجة ما لا يمكن أن يكون صالحاً للنشر.

وفي هذا السياق حطت في مطار بورتسودان يوم الإثنين الماضي طائرة إثيوبية خاصة تحمل في جوفها وفداً إثيوبياً رفيع المستوى، برئاسة رضوان حسين، المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات الوطني في الجارة الشرقية، يحمل رسالة من رئيس الوزراء الاثيوبي آبي أحمد إلى رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول الركن عبد الفتاح البرهان. ومما لا شك فيه أن هذه الخطوة سبقتها خطوات أخرى في إطار “الدبلوماسية غير المعلنة” التي تبحث تقريب وجهات النظر بين البلدين حول القضايا ذات الاهتمام المشترك.

الوفد الإثيوبي الرفيع، بقيادة كل من رضوان حسين مدير المخابرات وجيتاشو رضا، مستشار رئيس الوزراء لشؤون شرق إفريقيا، قال إن رئيس الوزراء الإثيوبي أكد في رسالته “دعم إثيوبيا لجهود السودان الرامية إلى ضمان السلام والاستقرار”.

وأشار رضوان إلى أن الوفد استُقبل “بترحيب حار”، وأن إثيوبيا “ستواصل دعمها الثابت” لجهود السودان الرامية إلى تحقيق السلام والاستقرار.

وكان مدير مخابرات اثيوبيا ووفده قد زار جوبا قبل أيام للاطمئنان على الأوضاع هنالك بعد الخلافات التي نشبت بين حكومة الرئيس سلفا كير والحركة الشعبية في المعارضة بقيادة د ريك مشار الموضوع رهن الإقامة الجبرية.

ملفات إقليمية
وبعد أن ظنت بعض دول الجوار أن الحرب التي اندلعت في السودان، قبل أكثر من عامين، لن تستمر طويلاً، وأن “الدعم السريع” سيكسبها، تبدلت هذه القناعات بفضل صمود القوات المسلحة السودانية والقوات المساندة لها في الميدان، وأخذت هذه الدول تعيد حساباتها، بل تبدلت رؤية بعضها إلى حالة من القلق البالغ خشية أن تمتد تداعياتها إلى عواصم تلك الدول التي ترتبط بما يدور في الخرطوم.

أنامل تحمل القلم وأخرى تضغط على الزناد
قد يكون من قبيل الصدفة أن يفصل بين نشاطين دبلوماسيين هامين، قام بهما جهاز المخابرات العامة، منشط آخر كان عبارة عن تخريج دفعة تأهيلية من منسوبي جهاز المخابرات، خاطب حفلها رئيس مجلس السيادة والمدير العام للجهاز،
وفي تلك المناسبة أكد الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل، بأن الجهاز ظل عوناً لمؤسسات الدولة التنفيذية ؛ كما ظل يعمل على إسناد الدبلوماسية حماية لمصالح البلاد العليا.

وتلقى جهاز المخابرات العامة في حفل التخرج إشادة رئيس مجلس السيادة وتثمينه للدور المتعاظم للجهاز في الحفاظ على وحدة السودان واستقراره وأمنه، والتصدي لكل المهددات الأمنية التي تواجه السودان، مؤكد بأن الجهاز ظل يعمل بمهنية وإحترافية ويؤدي مهامهه بكل وطنية وتجرد.

إختراق دبلوماسي آخر
وقد سبق حفل التخريج وزيارة مدير المخابرات الإثيوبية لبورتسودان، زيارة أخرى ذات أهمية بالغة، هي زيارة مدير المخابرات في جمهورية أفريقيا الوسطى ومستشار رئيس البلاد، هنري وانزيت، حيث قضى في بورتسودان يومين إلتقى خلالهما برئيس مجلس السيادة ونقل له رسالة من رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى، فوستين أركانج تواديرا، تتصل بالعلاقات الثنائية بين البلدين وسبل دعمها وتطويرها.

وتناول لقاء البرهان بوفد الجهاز الأفرو-أوسطى برئاسة الفريق أول هنري وانزين، مدير جهاز المخابرات في إفريقيا الوسطى ومستشار الرئيس، أوجه التعاون بين الخرطوم وبانغي، والفرص المتاحة لتعزيز العلاقات الثنائية في مختلف المجالات، إضافة إلى مناقشة عدد من القضايا ذات الاهتمام المشترك بين البلدين.

كما أجرى الضيف ، و وفده المرافق مباحثات مكثفة، مع نظرائهم السودانيين، الأمر الذي اعتبره كثير من المراقبين إختراقاً دبلوماسياً مهماً.

وضمن برنامج زيارته لبورتسودان استقبل وزير الخارجية السفير عمر محمد أحمد صديق مدير جهاز المخابرات الأفرواوسطي هنري وانزيت و الوفد المرافق له، حيث بحث اللقاء العلاقات الثنائية بين البلدين و سبل تعزيزيها في المجالات المختلفة.

وأكد وزير الخارجية الدور الكبير الذي كان قد لعبه السودان في تحقيق السلام في أفريقيا الوسطي مجدداً دعم السودان لاستقرارها باعتبار أن ذلك سينعكس إيجاباً على البلدين.

المحقق – طلال إسماعيل

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: رئیس مجلس السیادة جهاز المخابرات بین البلدین

إقرأ أيضاً:

إبراهيم شقلاوي يكتب: تحديات الأمن المائي في ضوء خطة رئيس الوزراء

تُعد إدارة الموارد المائية أحد أعمدة الاستقرار والتنمية المستدامة في السودان، لا سيما في مرحلة ما بعد الحرب، التي تتطلب إعادة هيكلة شاملة لمؤسسات الخدمة العامة والبنية التحتية، وفقًا لخطاب التكليف الواعد الذي ألقاه رئيس مجلس الوزراء د. كامل إدريس.

يرتبط الأمن المائي ارتباطًا وثيقًا بالصحة العامة، والزراعة والطاقة كما يشكّل عاملًا حاسمًا في الوقاية من النزاعات المجتمعية والصراعات الإقليمية. ومع ذلك يواجه السودان تحديات متجددة في هذا القطاع، من أبرزها: الاستخدام غير المستدام للمياه الجوفية، وتدهور البنية التحتية، وتناقص معدلات الأمطار بسبب تغير المناخ “برنامج الأمم المتحدة للبيئة، 2021” . يكشف هذا الواقع عن هشاشة المنظومة المائية، ويؤكد الحاجة إلى رؤية وطنية شاملة تتكامل فيها الأبعاد البيئية التنموية والاقتصادية.

الأزمة الأخيرة التي شهدتها ولاية الخرطوم بعد قصف منشآت الكهرباء بواسطة مليشيا الدعم السريع وتوقف محطة مياه المنارة، كشفت عن ضعف القدرة على إدارة الأزمات المائية، خاصة في سياق النزاعات المسلحة. فقد اضطر المواطنون للجوء إلى مصادر مياه غير آمنة، كالنيل مباشرة أو الآبار الجوفية ، مما أسهم في تفشي أمراض وبائية مثل الكوليرا “وزارة الصحة السودانية، 2025” . ولا تقتصر المخاطر على الصحة وحدها، بل تمتد إلى تهديد السلم الاجتماعي، خاصة في دارفور وكردفان، حيث تتحول نقاط المياه الموسمية إلى بؤر توتر بين المزارعين والرعاة برغم مشروعات حصاد المياه “وحدة تنفيذ السدود 2019 ” .

تشير البيانات المتاحة إلى أن السودان يمتلك نحو 85 مليار متر مكعب من الموارد المائية المتجددة سنويًا، أغلبها من نهر النيل، إضافة إلى مخزون جوفي يُقدّر بـ30 مليار متر مكعب، جزء كبير منه غير متجدد “وزارة الري السودانية، 2022؛ UNEP، 2021”. ومع تجاوز عدد السكان 48 مليون نسمة ومعدل نمو يفوق 2.5% سنويًا، تتزايد الضغوط على هذه الموارد بوتيرة مقلقة “البنك الدولي، 2023” ويستهلك قطاع الزراعة وحده قرابة 80% من إجمالي المياه “FAO، 2023” ما يبرز الحاجة الماسة لتحسين الكفاءة والحوكمة في إدارة الطلب.

هذا في وقت لا تتجاوز فيه نسبة السكان الذين يحصلون على مياه شرب آمنة 65% في المدن، وأقل من 40% في المناطق الريفية “البنك الدولي، 2023” هذا الواقع يستوجب مجهود عاجل من الجهات المعنية لإدارة هذه الموارد وفقا لخطة وسياسات قومية شاملة، تمكن البلاد في الاستفادة منها وادارتها بصورة آمنة.

في المقابل، أطلقت إثيوبيا مؤخرًا سياسة وطنية شاملة للمياه والطاقة تمتد لعشرين عامًا، تقوم على مبادئ العدالة، والشراكة مع القطاع الخاص، والحوكمة الرشيدة. وتعكس هذه الخطوة تحولًا استراتيجيًا في فهم الدولة لدور المياه كمورد سيادي وتنموي “وزارة المياه والطاقة الإثيوبية، 2025” . وقد أُعدّت هذه السياسة بمشاركة واسعة من المجتمع المدني والقطاع الخاص والجهات الحكومية، في نموذج يمكن الاستفادة منه مع مراعاة خصوصية السودان المؤسسية والاجتماعية.

أما في السودان، وفي ظل غياب استراتيجية وطنية متكاملة للمياه، فإن البلاد تظل عرضة لتفاقم الأزمة، خاصة مع التأثيرات المتوقعة لمشروعات دول حوض النيل، وعلى رأسها سد النهضة، الذي يمثل تحديًا مباشرًا لتدفق المياه. فمع غياب التنسيق الإقليمي الفاعل، وتعطل المفاوضات بين السودان وإثيوبيا ومصر، يبقى الموقف السوداني ضعيفًا، في ظل عدم التوصل إلى رؤية مشتركة حول إدارة وتشغيل السد والاستفادة المتكاملة منه.

المرحلة الراهنة تفرض على الحكومة السودانية ضرورة صياغة سياسة وطنية استراتيجية للمياه، تقوم على تقييم دقيق لموقف الموارد المتاحة، ودراسة متعمقة لواقع العرض والطلب، مع تعزيز الفوائد وتأهيل البنية التحتية من خلال الجهات ذات الصلة. كما ينبغي دمج هذه السياسة ضمن برامج النهضة والسلام والتعافي التي يقودها السيد رئيس الوزراء، بما يضمن أن يصبح الأمن المائي دعامة للاستقرار، من خلال تبني سياسات متكاملة لإدارة الموارد المائية وفقًا للتغيرات المناخية. ويُعد موسم الأمطار الحالي مؤشرًا على تلك التغيرات، إذ تُظهر البيانات أن السودان من أكثر الدول تأثرًا بالمناخ “الهيئة العامة للأرصاد الجوية” .

وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن تحقيق الأمن المائي في السودان لا يمكن فصله عن مشروع الحكومة، ولا عن منظومة السلم الاجتماعي والإقليمي. وإذا لم تُبنَ سياسات المياه على أسس استراتيجية متكاملة تستشرف التحديات وتستفيد من تجارب الجوار، فستظل البلاد رهينة أزمات متكررة تقوّض جهود التنمية وتُعيد إنتاج الأزمات. فالمياه اليوم لم تعد مجرد مورد، بل أصبحت بوابة أساسية نحو الاستقرار وإعادة البناء والتنمية.

دمتم بخير وعافية.

إبراهيم شقلاوي
الثلاثاء 3 يونيو 2025م Shglawi55@gmail.com

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • عميل أميركي يعرض نقل "معلومات حساسة" لألمانيا.. ما السبب؟
  • رئيس جهاز الأمن والمخابرات يهنئ قائد الثورة والرئيس المشاط بعيد الأضحى
  • رئيس جامعة عين شمس يستقبل مدير الهيئة الألمانية للتبادل العلمي لتعزيز التعاون
  • رئيس المحكمة الاتحادية يدعو الحكومة الاتحادية والإقليم ومجلس النواب العمل بالدستور
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: السودان.. معادلات الأمن والنفوذ
  • محمدو: ظهور حميدتي في هذا التوقيت ليس سوى غطاء سياسي لتبرير الانتهاكات المتصاعدة التي ترتكبها الميلشيا
  • زيارة الوفد الإثيوبي إلى بورتسودان: رسائل مزدوجة في زمن التحولات الإقليمية
  • رئيس جهاز تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة في زيارة لمطروح
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: تحديات الأمن المائي في ضوء خطة رئيس الوزراء