الرحى أداة أو آلة تقليدية قديمة لطحن الحبوب، وتتكون من حجرين مستديرين يوضع أحدهما فوق الآخر، ويتم تدوير الحجر العلوي لطحن الحبوب بينهما. تُستخدم الرحى في العديد من الثقافات حول العالم منذ القدم، وربما حتى ساعة الناس هذه، وكانت جزءًا أساسيًا من الحياة الريفية اليومية.
مناسبة الحديث عن الرحى هي الحرب الدائرة الآن حولنا بالخليج، التي لو طالت قليلًا فمن المحتمل أن تتحول لحرب طاحنة.
لست مختصًا بالتحليلات السياسية ولا العسكرية، فلكل مجال أهله، لكنني ها هنا أروم إلى التركيز على بضع نقاط تهمنا كعرب، لا سيما عرب الخليج، الذين نكاد أو ربما صرنا أشبه بحبوب قمح بين شقي رحى! الاحتلال الصهيوني من جهة، والدولة الإيرانية من جهة أخرى.
هذه الحرب التي لو استمرت بضعة أسابيع أخرى، فلا أستبعد أن تجري علينا سُنّة الطحن في مثل هذه الظروف، قبل عمليات العجن والتشكيل، ما لم يتم تدارك هذا الخطر الذي يكاد أن يتجسد على أرض الواقع الخليجي. النقطة الأولى المزعجة، هي كثرة الانتقادات العربية من هنا وهناك لإيران بسبب عدم وقوفها وحمايتها لغزة مما جرى لها، خاصة بعد أن تبين للعالم قدراتها الصاروخية في هذه الحرب، والتي كانت بعضها كفيلة بردع الصهاينة عن الاستمرار في جرائمهم ضد غزة، لو تم استخدامها في وقتها.
هذه نظرة غاية في السطحية، ذلك أن اللوم يجب ألا يقع في مثل هذا الوقت العصيب، ثم إنّ اللوم يجب ألا يكون من نصيب إيران وحدها، وهي الأكثر دعمًا لحماس وفصائل المقاومة الفلسطينية من غيرها، بل يجب أن يمتد ليشمل كافة القوى العربية الكبيرة التي تتفاخر بعددها وعتادها العسكري، وهي لم تتحرك قِيد أنملة لنصرة غزة فحسب، بل انقلبت بوصلات بعضها فصارت أدوات تحمي النظام الصهيوني الفاشي بشكل أذهل العالم المنتفض ضد الصهاينة!
إعلانإذن وقبل أن يزداد لوم وانتقاد إيران لأنها لم تستخدم قواها الصاروخية ضد الصهاينة في غزة، لِمَ لا يقوم المنتقدون بالمثل مع قوى عربية وإسلامية تملك ما تملك إيران من عتاد وأسلحة وأنظمة عسكرية متنوعة؟
النقطة الثانية المزعجة، لم يكتفِ بعض العرب بانتقاد إيران، بل يفضلون الاحتلال الصهيوني العنصري عليها في هذه الحرب. وهذا الفعل، بما فيه من ضيق أفق وسطحية، هو أيضًا سذاجة في الفكر. فكيف يتم تفضيل جسم غريب على المنطقة برمتها، صنعه الغرب الاستعماري ليضمن استمرارية مصالحه، على قَدَر جغرافي تاريخي يتمثل في الدولة الإيرانية؟! لا يمكن لعاقل وبقليل منطق وموضوعية أن يساوي بين غريب هجين استئصالي، جاء من وراء البحار إلى فلسطين، وبين جار مسلم ضارب بجذوره بالمنطقة منذ آلاف السنين.
إيران، وإن اختلفنا معها مذهبيًا وسياسيًا في مناطق ومجالات معينة، إلا أنها ضمن دائرة الأمة الكبيرة، ولا يمكن أن يؤخذ مئة مليون إيراني بجريرة أو أخطاء سياسيين، أو أنظمة حاكمة متعاقبة على هذه الدولة، وما تتبناها من مذاهب أو عقائد أو أفكار، والتي غالبًا لا تدوم.
إيران منذ عهد الفاروق عمر- رضي الله عنه- حاضرة إسلامية متقدمة، كان لها تأثيرها الإيجابي في الحضارة الإٍسلامية. وعلى رغم أن علاقاتها منذ قيام الدولة الصفوية فيها أصبحت في حالة مد وجَزْر مع دول الجوار الجغرافي، إلا أنها تظل كيانًا مسلمًا متنوع الأعراق والمذاهب، له مواقفه التاريخية من قضايا المسلمين المتنوعة بصورة وأخرى، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تفضيل محتل غريب، على هذا الجار المسلم، وإن جار علينا بعض الوقت.
الاحتلال الصهيوني خلية سرطانية زرعها الغرب على يد الاحتلال البريطاني، كما يعلم الجميع، ثم تولت رعايته بعدها الولايات المتحدة. هذا النظام في كل الأحوال لا يمكن أن يتعايش مع الوسط العربي المسلم، مهما قامت الأنظمة الحاكمة، رغبة أو رهبة، بالتواصل معها وتطبيع العلاقات.
استثمار اللحظة التاريخيةالوقوف مع إيران في هذه الحرب، رغم كل الخلافات السياسية معها لدى دول الخليج تحديدًا، خير من الحياد، فإن هزيمة إيران تعني تغول الصهاينة في المنطقة وفعل ما يشاؤون دون رقيب أو حسيب، وليس من شك في أن هزيمة إيران ستفتح شهيتهم لتكرار التجربة مع قوى إسلامية أخرى، وباكستان هي القوة التالية ثم تركيا، فيما بقية العرب وللأسف، خارج حسابات أولئك الصهاينة، إذ ليس من حاجة لبذل كثير جهد في كسرهم أو ترويضهم، أو هكذا هم في مخيلتهم ومخيلة من يقف وراءهم.
ولا أظن أن تلك الصورة جاءت من فراغ، بل من الوضع البائس الذي عليه أمة العرب منذ خروج الاستعمار من المنطقة، إذ هي من بؤس إلى ما هو أشد بؤسًا.
أما هزيمة الصهاينة وكسرهم وخروجهم من الحرب دون تحقيق ما يرومون إليه، فهو تعزيز للمقاومة الباسلة في غزة، وإزالة للصورة الذهنية التي تم زرعها في العقلية العربية ووجدانها، من أن كيان هؤلاء المحتلين صلب لا يتزعزع ولا ينهزم، وتعزيز للحراك العالمي النشط الآن ضدهم.
أما الخليج العربي فيجب ألا يكون حبوب رحى، ولا أن يترك الحبل لكل من هب ودب أن يقوده إلى حيثما شاء. وهو وقد جاوز الأربعين من عمره قد بلغ أشده، يجب ألا يعيش على الهامش يشاهد ما يجري على مساحته، أو يتورط في خيارات وحروب الآخرين.
إعلانالحرب الدائرة الآن، ربما تكون فرصة لدول الخليج لإزالة ما أثاره الاصطفاف مع بغداد في الحرب العراقية الإيرانية من ضغائن لدى طهران. مثل هذه الفرص التاريخية لا تتكرر. ولذلك يجب استثمارها بشكل حكيم لرسم قواعد جديدة للتعامل مع القوى المختلفة بالمنطقة، أو إن صح وجاز لنا التعبير، لم لا يكون هذا الخليج هو نفسه قوة معتبرة، له كلمته وتأثيره على مسرح الأحداث؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات هذه الحرب یجب ألا لا یمکن
إقرأ أيضاً:
لؤلؤة الخليج كما عرفتها
د. محمد بن عوض المشيخي **
كم هو جميل أن أحظى بالدعوة الكريمة من الزملاء في صحيفة البلاد البحرينية الذين تربطني بهم صداقة منذ سنوات طويلة، وذلك لخط هذه السطور التي تُعبِّر عن مناسبة وطنية عزيزة على كل عُماني في أرض الغبيراء، فأفراح البحرين ومناسباتها الوطنية لها وقع خاص على قلوبنا نحن بالذات؛ إذ تجمعنا بالأشقاء في مملكة البحرين علاقات حميمة من نوع خاص، كما إنني تشرفت بزيارة البحرين مرات عديدة وتجوَّلت في مختلف الأحياء والجزر البحرينية، فقد تعرَّفت عن قرب على ما يُكنّه المواطن البحريني من محبة صادقة واحترام منقطع النظير للشعب العُماني.
وبالفعل تمكن الآباء والأجداد في البلدين من تسجيل تلك الملحة الأخوية من التواصل والانسجام عبر العصور، وخاصةً منذ أربعينيات القرن العشرين حتى مطلع السبعينيات من نفس القرن، والتي تزامنت مع الرجوع إلى الوطن الأم، الذي شهد نهضة عُمانية شملت كل المجالات. ولكن البحرين سبقت جميع دول الخليج في التنمية الشاملة؛ فهي أول دولة في المنطقة دخلت إليها الكهرباء، وكذلك ظهرت فيها أول إذاعة مسموعة، وارتاد البحرينيون دور السينما قبل غيرهم من شعوب المنطقة، وانتشر فيها التعليم، وخرجت المدارس والجامعات البحرينية أجيالاً متعاقبة من المتعلمين، والذين شاركوا في بناء بلدهم وكذلك الدول المجاورة.
والأهم من ذلك كله هنا ونحن يجرنا الكلام وتتسابق الحروف لصياغة الكلمات المطرزة بالذهب للكتابة عن يوم مجيد؛ وهو العيد الوطني البحريني، والذي يصادف 16 من ديسمبر كل عام؛ إذ ارتبطت هذه المناسبة الخالدة بإنجازات اقتصادية واجتماعية وسياسية شامخة، تكتب بماء الذهب؛ كثمار لرؤية البحرين الاقتصادية 2030 المباركة والتي خُطِّط لها بعناية؛ لنقل المجتمع البحريني نقلة نوعية، وتمكنه بجهود أبنائه المخلصين من الشباب للولوج إلى مصاف الدول المتقدمة.
الحديث هنا عن مناسبة عزيزة والتي اقترنت بتأسيس الدولة على خارطة العالم والاعتراف الأممي بها؛ إذ يُعد ذلك واحدًا من أهم الإنجازات التي تحققت على أرض الواقع. إنها قصة كفاح وطن عظيم، وأصالة شعب انفرد بالتميز عن غيره من أمم هذا العالم المترامي الأطراف. فالنجاح أصبح مرادفا وحليفا لهذا الوطن العزيز، إنها قصة وطن اسمه "لؤلؤة الخليج"، فتلك يشار لها بالبنان بين دول المنطقة.
هكذا هي الأيام العطرة والخالدة في حياة الأمم والشعوب، لا تُنسى ولا يمكن لها أن تُمحى من ذاكرة الأجيال؛ لأنها تتميز برمزية خاصة، وذكرى طيبة تبهج الأنفس، وتأسر القلوب، وتريح العواطف، وتحلق بالطموح والأماني التي لا حدود لها إلى عنان السماء.
الحديث اليوم عن شعب أسَّس واحدة من أعرق الحضارات على وجه الأرض بدايةً بدلمون ثم تايلوس، ووصولًا إلى الحضارة الإسلامية في العصر الحديث. والأهم في هذه المسيرة المضيئة التي كتبت فصولها المشرقة كوكبة من القيادات التاريخية التي تُنسب لواحدة من أعرق الأُسر الحاكمة في الوطن العربي؛ سليل آل خليفة الميامين الذين تولوا حكم مملكة البحرين عبر العقود، وبالتحديد منذ 1783 ميلادية؛ بحكمةٍ واقتدارٍ. ولعل جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة- يحفظه الله ويرعاه- يأتي في مقدمة الذين كانت لهم بصمة فريدة وإنجازات خالدة في هذا البلد العزيز. فقد ارتبط اسم جلالته بالإصلاحات التي غيَّرت معالم الحياة في البحرين، والتي طالت كل ميادين الحياة في مطلع الألفية الجديدة وتحوَّلت فيها البلاد من إمارة إلى مملكة. لقد تميَّزت هذه القامة السياسية الرفيعة- المتمثلة بملك القلوب- بالنظرة الثاقبة والحكمة المعهودة التي حافظت على استقلال البلاد، وحافظت على قراراتها السيادية في أحلك الظروف في إقليم ملتهب، يتعرض بين وقت وآخر للحروب، والتدخلات الأجنبية في شؤونه.
وفي الختام.. إنني أنظر بكل تقدير واحترام إلى هذه المملكة الصغيرة في مساحتها، والعظيمة في شعبها، والكبيرة في حكمة قيادتها وإنجازاتها الحضارية، وإسهامات شعبها الإنسانية نحو العالم. والتي تعد مضربًا للمثل في كل النواحي.
إنَّ عُمان قيادةً وحكومةً وشعبًا؛ تهني وتبارك للقيادة البحرينية وشعبها الوفي بالعيد الوطني المجيد. وأسجل بهذه المناسبة الغالية أجمل التبريكات لجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة؛ لما يُمثِّله من ثقلٍ سياسيٍّ وإرثٍ حضاريٍّ فريدٍ لبلدٍ مجيد وشعب عظيم؛ فالبحرين عنوان للعلم والثقافة والتاريخ التليد عبر الأزمان.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
رابط مختصر