الغباء البشري ومكتسبات التحضر الواهمة!
تاريخ النشر: 22nd, June 2025 GMT
ليس من اليسير علينا أن نفهم الغباء البشري الذي يتسبب في الأذى على نطاق واسع، في سبيل تغذية لذة عابرة بانتصار زائف، ذلك الغباء الخطر، حيث لا نجدُ مبررًا للسلوك غير المعقول.
في «كتاب «الغباء البشري» لكارلو شيبولا، ت:عماد شيحة، دار الساقي» نكتشفُ أننا قد نفهم عقلية قاطع الطريق أكثر من فهمنا للأغبياء، فقاطع الطريق يتبعُ نمطا عقلانيا، وإن بدا شريرا، لكننا على الأقل نستطيع التنبؤ بمناوراته الخبيثة ومطامحه البغيضة، بينما نعجزُ عن التكهن بردود أفعال الأغبياء، إذ يتسم نشاطهم بالتقلب واللاعقلانية، ويبدو لنا الأمر كمن يُطلق النار على هدف مُتحرك.
«قد يجابه المرء الكثير من الغباء والاجترار»، هذا ما كتبه الروائي ديكنز، ولا أظن ثمّة عصرًا اتسم بهذا القدر من الغباء أكثر من وقتنا الراهن، لا سيما أولئك الذين يتمتعون بنصيب وافر من السلطة، فهم أشد أنواع البشر خطرًا على العالم، فقراراتهم الناتجة عن الحُمق قد تُسبب خسائر جمّة وهم في طريقهم لإشباع طموح غامض، وعلى المغلوبين على أمرهم أن يتحملوا دفع الأثمان الباهظة، كما نرى الآن في واقعنا المجنون المُغلف بمزيج من الصلف والمغالاة، حيث تنحلُ القيم الإنسانية في مزاج شديد البربرية.
يؤكد شيبولا على أنّ الغباء قائم منذ بدء الخليقة، لا يُؤثر فيه الزمان والمكان أو العرق أو الطبقة أو المتغير التاريخيّ أو الثقافي، إنّه ماثلٌ كحقيقة مُرعبة، «إذ يكون أحدهم غبيًا بالطريقة عينها التي يكون فيها شعره أحمر اللون».
وبقدر ما نظن بتضاعف العقلاء الذين ينشدون البيئة الآمنة وحقوق الإنسان وتقدم العلم والطب، بقدر ما يتناسل الغباء على الضفة الأخرى، فالمراقب لاهتزاز العالم وفوضاه، يُدرك أنّ الصراعات تُدار بعقل محدود وقاصر، فكل ما نفعله الآن هو مزيد من الاستنزاف المريض لمواردنا، وتوليد أسباب جديدة للهجرة والتلوث والفقر والآفات.
التقنيات الأكثر براعة التي تطوق حياتنا من كل صوب، لا تُقوض هوة الفجوة الأخلاقية التي يُحدثها الغباء المُعقد الذي نخشى أن يبتلعنا جميعا في جوفه المظلم، «وكأنّ من المسلّم به بقاء الشؤون الإنسانية في حالة يُرثى لها».
«السيطرة على العالم»، هذه الجملة الكرتونية الطفولية، تتجلى في المخيلة البشرية كشيء يمكن القبض عليه، وإن كلف الأمر المشي فوق الرؤوس أو نحرها، أو التجذر في بركة من الدماء.
يبذلُ علماء الوراثة وعلماء الاجتماع جهدًا كبيرًا ليثبتوا لنا أنّ البشر متساوون، بل يستخدمون الكثير من البيانات والصياغات العلمية ليقولوا لنا إنّ المشكلة تكمن في التنشئة وليس الطبيعة، بينما يذهبُ شيبولا إلى عدم تساوي البشر، وأنّ الطبيعة هي التي تُحدد ما نحن عليه وليست العوامل الثقافية. «الغباء ميزة عشوائية للجماعات البشرية كافة»، بل إنّ شيبولا يُشير إلى أنّ الطبيعة تسعى لإحداث تواتر مستمر لظاهرة طبيعية بعينها، ولذا ليس علينا أن نتعجب لأنّ نسبة من الحائزين على جائزة نوبل هم من الأغبياء أيضا، تماما كما قد نجدهم بين العلماء والأطباء والفلاحين والسياسيين.
بل ويشير شيبولا إلى أنّ مجتمعات العالم الثالث قد تجد العزاء عندما تعرف أنّ المتقدمين في نهاية المطاف لا يمكنهم النجاة من هذه النسبة الحتمية، فسواء أكان موقع أحدنا في دوائر مرموقة أو أكان بين صائدي رؤوس، فلا بد لنا من مواجهة النسبة المئوية ذاتها منهم.
وإن كان الغباء يرتبطُ بشق وراثي يتسببُ في إلحاق ضرر محدود، إلا أنّ الذين يقعون في حيز القرار السياسي يُحدثون ضررًا مضاعفًا لا يُصيب شخصًا أو شخصين بل مجتمعات بأسرها.
يقول شيبولا: «الغبي هو من يضر الآخرين دون أن يحقق منفعة لنفسه، بل قد يضر نفسه أيضًا». وها هو العالم الجديد يُولدُ جبهات اقتتال كل يوم، فلمن عساه يعود النفع؟ حتى القوى التي تصنعُ الخراب، تذوق من ويلاته في حلقة مستمرة من الأذى، فالغباء ليس نقيض الذكاء بل: «عدم القدرة على التعلم من التجربة» والتاريخ بطبيعة الحال.
وإن تبدت ملامح المصالح والحسابات الاستراتيجية المُعقدة ظاهريًا إلا أنّها تفطرُ قلب العالم بالمآسي والظلامية الساحقة، فهي مُعبأة بالاحتقان غير الواعي لما تجلبه من عار لمكتسبات التحضر الواهمة.
هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير «نزوى»
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
ما وراء خطة نتنياهو بشأن احتلال غزة التي لا ترضي أحدًا؟
أكد تحليل لشبكة "سي إن إن " أنه بعد مرور ما يقارب العامين على اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة، صوّت المجلس الوزاري الأمني المصغر على خطة توسع عسكري جديدة تستهدف السيطرة على مدينة غزة.
وأضاف التحليل أن "المبادرة، التي جاءت بدفع مباشر من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تكشف على نحو واضح عن أبعاد سياسية داخلية أكثر مما تعكس استراتيجية عسكرية محكمة الإعداد".
وقال إنه "رغم التحذيرات الشديدة من القيادة العسكرية الإسرائيلية والمخاوف المعلنة من تفاقم الأزمة الإنسانية وتعريض حياة نحو خمسين رهينة إسرائيلياً ما زالوا في غزة للخطر، أصر نتنياهو على المضي بالخطة قدماً. يأتي هذا التوجه في وقت يشهد فيه الدعم الدولي لإسرائيل تراجعاً ملحوظاً، إلى جانب انخفاض التأييد الشعبي الداخلي لاستمرار الحرب"، على حد وصفه.
ونقل عن مراقبين قولهم إن "لهذه الخطوة فائدة خفية لنتنياهو، إذ تمنحه مساحة زمنية إضافية لتعزيز فرص بقائه السياسي، خاصة مع اعتماده على دعم شركائه في الائتلاف اليميني المتطرف، وهو ما يعني عملياً إطالة أمد الحرب. فقد لعب وزراء مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش دوراً أساسياً في تعطيل أي تقدم بمفاوضات وقف إطلاق النار، مهددين بإسقاط الحكومة إذا توقفت العمليات العسكرية".
ومع ذلك، لم تصل خطة نتنياهو للسيطرة على مدينة غزة إلى مستوى طموحات شركائه، إذ يطالب بن غفير وسموتريتش باحتلال كامل للقطاع كخطوة أولى لإعادة بناء المستوطنات الإسرائيلية فيه، وصولاً إلى ضمه نهائياً. حتى أن الخطة لم تواكب ما روج له نتنياهو نفسه قبل الاجتماع، حيث صرح في مقابلة مع قناة "فوكس نيوز" بأن إسرائيل تعتزم السيطرة على كامل قطاع غزة، ما أعطى انطباعاً بحسمه قرار الاحتلال الكامل.
وأوضح التقرير أن "نتنياهو تبنى نهجاً تدريجياً، يبدأ بمدينة غزة فقط، متجنباً السيطرة على مخيمات أخرى قريبة يُعتقد أن بعض الرهائن الإسرائيليين محتجزون فيها. وحدد موعداً فضفاضاً لبدء العملية بعد شهرين، تاركاً الباب مفتوحاً أمام جهود دبلوماسية محتملة لإحياء صفقة تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، وربما إلغاء العملية".
وذكر أن "هذا الموقف أثار غضب شركائه اليمينيين الذين اعتبروا الخطة غير كافية. وقال مصدر مقرب من سموتريت:ش إن الاقتراح الذي قاده نتنياهو ووافق عليه مجلس الوزراء يبدو جيداً على الورق، لكنه في الواقع مجرد تكرار لما جرى من قبل، قرار بلا معنى، ولا أخلاقي، ولا يخدم المشروع الصهيوني".
وقال إن "التحفظات لم تأتِ من الجناح السياسي فقط، بل من المؤسسة العسكرية أيضاً. ففي اجتماع ماراثوني استمر عشر ساعات، عرض رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، إيال زامير، معارضة الجيش الحاسمة لإعادة احتلال غزة، محذراً من أن أي عملية جديدة ستعرض حياة الرهائن والجنود للخطر، وستحوّل غزة إلى "فخ" يفاقم استنزاف الجيش المنهك بفعل القتال المستمر، كما سيزيد من عمق المأساة الإنسانية للفلسطينيين".
وبيّن أن "هذه المخاوف العسكرية تتسق مع توجهات الرأي العام، إذ تظهر استطلاعات متكررة أن غالبية الإسرائيليين تؤيد إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار يعيد الرهائن وينهي الحرب. لكن قرارات نتنياهو تبدو منفصلة عن توصيات الجيش وإرادة الجمهور، بل مدفوعة، وفق محللين ومعارضين سياسيين، باعتبارات البقاء السياسي الضيقة".
وأضاف "دولياً، تضع خطة السيطرة على غزة إسرائيل في عزلة متزايدة. فحتى مع الدعم الواسع الذي حصلت عليه من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب خلال الحرب، فإن تفاقم أزمة الجوع والمجاعة في القطاع أضعف شرعية العمليات الإسرائيلية. وقد كانت التداعيات سريعة، إذ أعلنت ألمانيا، الحليف الاستراتيجي الأهم بعد الولايات المتحدة، تعليق بعض صادراتها العسكرية إلى إسرائيل، فاتحة الباب أمام دول أوروبية أخرى لخفض مستوى العلاقات".
وأشار إلى أنه "في نهاية المطاف، يمضي نتنياهو بخطة لا تحظى برضا أحد: لا شركاء إسرائيل الدوليون، ولا قيادتها العسكرية، ولا الجمهور الذي يطالب بإنهاء الحرب، ولا حتى حلفاؤه المتشددون الذين يرون أنها غير كافية".
وأوضح أن "الجمهور الوحيد الذي تخدمه هذه الخطة – كما يصفه منتقدوه – هو نتنياهو نفسه، إذ تمنحه مزيداً من الوقت لتجنب الخيار الحاسم بين وقف إطلاق نار قد ينقذ الرهائن، أو تصعيد عسكري واسع يُرضي ائتلافه. وبذلك، فإن الخطوة تمثل أكثر من مجرد مناورة عسكرية؛ إنها استمرار لأسلوب نتنياهو الكلاسيكي في إطالة أمد الحرب، على حساب سكان غزة والرهائن الإسرائيليين، من أجل هدف واحد: بقاؤه السياسي".