لجريدة عمان:
2025-06-23@03:49:23 GMT

الغباء البشري ومكتسبات التحضر الواهمة!

تاريخ النشر: 22nd, June 2025 GMT

ليس من اليسير علينا أن نفهم الغباء البشري الذي يتسبب في الأذى على نطاق واسع، في سبيل تغذية لذة عابرة بانتصار زائف، ذلك الغباء الخطر، حيث لا نجدُ مبررًا للسلوك غير المعقول.

في «كتاب «الغباء البشري» لكارلو شيبولا، ت:عماد شيحة، دار الساقي» نكتشفُ أننا قد نفهم عقلية قاطع الطريق أكثر من فهمنا للأغبياء، فقاطع الطريق يتبعُ نمطا عقلانيا، وإن بدا شريرا، لكننا على الأقل نستطيع التنبؤ بمناوراته الخبيثة ومطامحه البغيضة، بينما نعجزُ عن التكهن بردود أفعال الأغبياء، إذ يتسم نشاطهم بالتقلب واللاعقلانية، ويبدو لنا الأمر كمن يُطلق النار على هدف مُتحرك.

«قد يجابه المرء الكثير من الغباء والاجترار»، هذا ما كتبه الروائي ديكنز، ولا أظن ثمّة عصرًا اتسم بهذا القدر من الغباء أكثر من وقتنا الراهن، لا سيما أولئك الذين يتمتعون بنصيب وافر من السلطة، فهم أشد أنواع البشر خطرًا على العالم، فقراراتهم الناتجة عن الحُمق قد تُسبب خسائر جمّة وهم في طريقهم لإشباع طموح غامض، وعلى المغلوبين على أمرهم أن يتحملوا دفع الأثمان الباهظة، كما نرى الآن في واقعنا المجنون المُغلف بمزيج من الصلف والمغالاة، حيث تنحلُ القيم الإنسانية في مزاج شديد البربرية.

يؤكد شيبولا على أنّ الغباء قائم منذ بدء الخليقة، لا يُؤثر فيه الزمان والمكان أو العرق أو الطبقة أو المتغير التاريخيّ أو الثقافي، إنّه ماثلٌ كحقيقة مُرعبة، «إذ يكون أحدهم غبيًا بالطريقة عينها التي يكون فيها شعره أحمر اللون».

وبقدر ما نظن بتضاعف العقلاء الذين ينشدون البيئة الآمنة وحقوق الإنسان وتقدم العلم والطب، بقدر ما يتناسل الغباء على الضفة الأخرى، فالمراقب لاهتزاز العالم وفوضاه، يُدرك أنّ الصراعات تُدار بعقل محدود وقاصر، فكل ما نفعله الآن هو مزيد من الاستنزاف المريض لمواردنا، وتوليد أسباب جديدة للهجرة والتلوث والفقر والآفات.

التقنيات الأكثر براعة التي تطوق حياتنا من كل صوب، لا تُقوض هوة الفجوة الأخلاقية التي يُحدثها الغباء المُعقد الذي نخشى أن يبتلعنا جميعا في جوفه المظلم، «وكأنّ من المسلّم به بقاء الشؤون الإنسانية في حالة يُرثى لها».

«السيطرة على العالم»، هذه الجملة الكرتونية الطفولية، تتجلى في المخيلة البشرية كشيء يمكن القبض عليه، وإن كلف الأمر المشي فوق الرؤوس أو نحرها، أو التجذر في بركة من الدماء.

يبذلُ علماء الوراثة وعلماء الاجتماع جهدًا كبيرًا ليثبتوا لنا أنّ البشر متساوون، بل يستخدمون الكثير من البيانات والصياغات العلمية ليقولوا لنا إنّ المشكلة تكمن في التنشئة وليس الطبيعة، بينما يذهبُ شيبولا إلى عدم تساوي البشر، وأنّ الطبيعة هي التي تُحدد ما نحن عليه وليست العوامل الثقافية. «الغباء ميزة عشوائية للجماعات البشرية كافة»، بل إنّ شيبولا يُشير إلى أنّ الطبيعة تسعى لإحداث تواتر مستمر لظاهرة طبيعية بعينها، ولذا ليس علينا أن نتعجب لأنّ نسبة من الحائزين على جائزة نوبل هم من الأغبياء أيضا، تماما كما قد نجدهم بين العلماء والأطباء والفلاحين والسياسيين.

بل ويشير شيبولا إلى أنّ مجتمعات العالم الثالث قد تجد العزاء عندما تعرف أنّ المتقدمين في نهاية المطاف لا يمكنهم النجاة من هذه النسبة الحتمية، فسواء أكان موقع أحدنا في دوائر مرموقة أو أكان بين صائدي رؤوس، فلا بد لنا من مواجهة النسبة المئوية ذاتها منهم.

وإن كان الغباء يرتبطُ بشق وراثي يتسببُ في إلحاق ضرر محدود، إلا أنّ الذين يقعون في حيز القرار السياسي يُحدثون ضررًا مضاعفًا لا يُصيب شخصًا أو شخصين بل مجتمعات بأسرها.

يقول شيبولا: «الغبي هو من يضر الآخرين دون أن يحقق منفعة لنفسه، بل قد يضر نفسه أيضًا». وها هو العالم الجديد يُولدُ جبهات اقتتال كل يوم، فلمن عساه يعود النفع؟ حتى القوى التي تصنعُ الخراب، تذوق من ويلاته في حلقة مستمرة من الأذى، فالغباء ليس نقيض الذكاء بل: «عدم القدرة على التعلم من التجربة» والتاريخ بطبيعة الحال.

وإن تبدت ملامح المصالح والحسابات الاستراتيجية المُعقدة ظاهريًا إلا أنّها تفطرُ قلب العالم بالمآسي والظلامية الساحقة، فهي مُعبأة بالاحتقان غير الواعي لما تجلبه من عار لمكتسبات التحضر الواهمة.

هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير «نزوى»

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

قوافل الغضب التي هزّت عروش الصمت

بسم الله الرحمن الرحيم

#قوافل_الغضب التي هزّت #عروش_الصمت

دوسلدورف/ أحمد سليمان العُمري 

في عالم يُحاصر الأطفال بين أنياب الاحتلال وأقدام الأنظمة العربية، انطلقت قافلتان: واحدة بحرية من أوروبا وأعقبتها أخرى برية من تونس؛ حملتا نفس الحلم: كسر الحصار عن غزّة، لكنهما اصطدما بنفس القسوة، قسوة تثبت أن الخيانة العربية والغطرسة الإسرائيلية وجهان لعملة واحدة. هنا قصّة أولئك الذين رفضوا أن يكونوا حرّاساً لهذا السجن الكبير.

مقالات ذات صلة لماذا يخفق القلب فرحًا أو حزنًا؟ وأيهما أشد وطأة؟ 2025/06/20

الليلة التي غرق فيها الضمير العالمي

«تياغو» البرازيلي ذو العشرين ربيعاً لم يكن يعلم أن مشاركته في رحلة سفينة «مادلين» ستنتهي به في زنزانة إسرائيلية تحت الأرض. «كنا 12 ناشطاً فقط على متن السفينة»، يقول بصوت يرتجف، «عندما حاصرتنا الزوارق الحربية الإسرائيلية في المياه الدولية، وكأننا أسطولاً عسكرياً وليس متطوعين يحملون أدوية الأطفال».

بين الأمل والقمع

انطلقت السفينة من ميناء «كاتانيا» في جزيرة صقلية الإيطالية في الأول من يونيو 2025، تحمل على متنها ناشطين من جنسيات متعددة، بينهم الناشطة البيئية “غريتا تونبيرغ” والنائبة الأوروبية ريما حسن. كانت الشحنة رمزية بحجمها وعظيمة بأبعادها، تشمل مئات الكيلوغرامات من المواد الأساسية كالطحين والأرز وحليب الأطفال، بالإضافة إلى معدات طبية وأطراف صناعية وأجهزة تحلية مياه.

هدف الرحلة كان واضحاً: كسر الحصار البحري عن القطاع ونقل رسالة تضامن صامتة لكنها مدوّية، غير أن هذه المبادرة الإنسانية واجهت القسوة نفسها التي تحاصر غزّة، ففي التاسع من يونيو، وبعد ثمانية أيام من الإبحار، اعترضت القوات البحرية الإسرائيلية السفينة في مياه دولية. اعتُقل الناشطون، وتحولت رحلة الأمل إلى فصل جديد من الاعتقال والاضطهاد، حيث واجه الناشطون ظروفا قاسية من الحجز والتفتيش المشدد، في محالة واضحة لكسر إرادتهم ووقف صوت التضامن الدولي.

حيث يُسرق الحليب باسم السيادة

بينما كانت الناشط البرازيلي تياغو على متن السفينة يخترق البحر في محاولة مقدامة لكسر الحصار عن غزّة، جرى اعتقاله مع بقية زملاءه الشجعان بوحشية من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، وسُجنوا في ظروف مهينة، دون أن يُراعى كونهم ناشطين إنسانيين؛ جاءوا بصفتهم المدنية لا كمقاتلين.

معاناة هؤلاء الشبان بالرحلة وفي السجون الإسرائيلية لم تكن حدثًا معزولًا، بل امتداد لمعاناة غيرهم من الأحرار الذين لا ينتمون إلى هذه الأرض جغرافياً، لكنهم ينتمون لها أخلاقياً وإنسانياً.

من تياغو إلى ريما حسن، النائبة الفرنسية الفلسطينية التي لم تشفع لها حصانتها الأوروبية، مروراً بالناشطين بين تركي وألماني وإسباني وهولندي… الخ الذين اعتقلوا أو طُردوا أو شُوّهت سمعتهم لأنهم فقط تجرّؤوا على رفع علم فلسطين في عواصمهم.

وإن كانت يد الاحتلال قد امتدت في عرض البحر لتقمع من جاؤوا متضامنين، فإن اليد الأخرى، المخفية تارة والمكشوفة تارة أخرى، كانت تضرب على اليابسة. ففي مصر، تعرّض الناشطون من “مسيرة غزّة” للضرب والإهانة والتنكيل على أيدي قوات أمن بلباس مدني، في محاولة ممنهجة لإظهار أن الاعتراض يأتي من “المواطنين العاديين”، وليس من الدولة.

لقد لبس القامعون ثوب الشعب ليخونوا نبضه، وأوهموا العالم أن الشارع المصري – وهو الزخم العارم لفلسطين – قد انقلب على المبدأ. بينما الحقيقة أن اليد التي صفعت هؤلاء المتضامنين ليست يد الشعب، بل يد السلطة، وهي اليد ذاتها التي تصافح القتلة هناك، وتمنع المساعدات هنا، وتحاصر الفلسطيني في جسده ومعيشته وتُمعن في عزل كل من يحاول الوصول إليه.

بهذا المشهد، تتكامل المأساة مع الهزل، وتغدو الجغرافيا السياسية للمقاومة محكومة بمنظومتين: شعوبٌ تتقد بالشجاعة رغم البعد، وأنظمةٌ تشتغل لحساب الاحتلال وإن رفعت شعارات ضده. وهنا، كما يؤكّد الحال راهناً، فإن التضامن مع القضية الفلسطينية لا يزال يواجه مقاومة ضارية من أنظمة ترى في بقاء الاحتلال حماية لاستقرارها أو امتداداً لاستعمارها، أكثر مما ترى فيه جريمة تستحق المواجهة.

وفي ليبيا، حيث تسيطر قوات حفتر، كانت العراقيل بذريعة البيروقراطية والتعنّت الأمني في أقصى درجاتها، إذ منعت قوافل التضامن من المرور، وواجه ناشطون تحقيقات مطولة وإجراءات تعسفية، مما يعكس تنسيقاً أمنياً واضحاً وفاضحاً مع الاحتلال.

هذه التجارب المشتركة، من الاعتقال في سجون الاحتلال إلى التضييق في الحدود ومطارات الدول العربية والحدود البرية، تؤكّد حجم العقبات التي تواجه أي محاولة حقيقية لكسر الحصار وإيصال الدعم لغزّة، كما تؤكّد أن التضامن مع القضية الفلسطينية لا يزال يلقى مقاومة شديدة من أنظمة تحابي الاحتلال أكثر مما تُساند شعوبها في قضاياه المصيرية.

الرسائل التي كتبها الجلادون بتواطئهم

الرسالة التي كتبها الجلادون كانت واضحة، وإن اختلفت أيادي التوقيع عليها: حفتر قطع الطريق في الصحراء، والسيسي أطلق شرطته على المتضامنين مع غزّة في شوارع مصر ومطاراتها، يضربون، يرحّلون، ويقمعون كل من حاول أن يمرّ من بواباتهم بجوازه وكرامته.

أما إسرائيل، فكانت تشاهد من بعيد، مُطمئنة إلى أن الطرق إلى غزّة ما زالت مغلقة.

قافلة الصمود رغم عودتها اليوم لم تُكسر، عادت إلى تونس بجراحها وتحمل شيئاً أعظم من العبور: يقظة الضمير. لم تصل الشاحنات، لكن وُلدت إرادة جديدة، وكُسر الصمت، وإن لم تنجح سفينة ماديلين والصمود، فسيأتي بعدهما قوافل أخرى، بالآلاف، فإرادة الشعوب لا تنضب، وغزّة لا يمكن أن تُحاصر إلى الأبد.

إذا مُنعوا اليوم من العبور، فستُحوّل الأرض كلها إلى معبر؛ القوافل والسفن لم تمت، بل صارت فكرة لا تموت.

مقالات مشابهة

  • سلم 9 جهات حكومية جائزة الارتباط الوظيفي.. وزير الموارد: رأس المال البشري ركيزة في التحول نحو بيئة عمل مميزة
  • إيلون ماسك يعلن إعادة كتابة التاريخ البشري عبر الذكاء الاصطناعي
  • ما هي القاذفات الشبحية «بي-2» التي استخدمتها أمريكا في قصف إيران؟
  • ضربة إسرائيل القوية التي وحّدت إيران
  • إنزاغي: سنواجه سالزبورغ بالروح ذاتها التي واجهنا بها ريال مدريد
  • "الصحة" تطلق الدليل الاسترشادي لفيروس نقص المناعة البشري
  • قوافل الغضب التي هزّت عروش الصمت
  • 5 نصائح لمقاومة النسيان.. فالعقل البشري غير مهيئ للتذكّر
  • بالخريطة التفاعلية.. ما المواقع التي استهدفتها إيران في بئر السبع؟