استراتيجية الهبوط الناعم: الفكرة والمقترح وكيف تحولت لسبة؟ «3- 7»

صديق الزيلعي

أرسل لي عدد من الزملاء والأصدقاء مقالا للدكتور احمد عثمان عمر بعنوان: “الخلاف بين قوى التغيير الجذري وقحت استراتيجي وليس تكتيكي”. وقصدوا من ارسال المقال انني من دعاة تحالف كل القوى المدنية الداعية لإيقاف الحرب، ويجب أن انتبه للخلاف مع قوى قحت.

سأكتب مجموعة من المقالات في حوار مع المقال، ليس فحسب، بل ومع الخط السياسي الذي يتبناه المقال وعدد مقدر من الشيوعيين واليساريين.

تأتي أهمية ذلك من تحديات المرحلة المصيرية التي تمر بها بلادنا، التي تستدعي حوارا جادا وعقلانيا، بين كل قوى الثورة، في سبيل الوصول للرؤية المشتركة، التي تساعدنا في هزيمة مخطط من أشعلوا الحرب، والذين يريدون مواصلتها على أنقاض بلادنا، ومن اجل مواصلة واستكمال مهام الثورة. ستكون مساهمتي في الحوار سبع مقالات، يعالج كل منها واحدا من المواضيع التي وردت في مقال الدكتور أحمد. الهدف من ذلك هو تركيز النقاش، وطرح الرأي حول مسألة محددة.

لكن المقالات يجمع بينها خط واضح وتجانس، داخلي، في المحتوى وتواصل في نقد اطروحات دعاة التغيير الجذري، لان الدكتور أحمد عثمان هو أبرز منظريهم. تبدأ المجموعة بمقال عن قضية العدو الاستراتيجي، يعالج المقال الثاني قضية الشراكة، يتمحور المقال الثالث حول مفهوم الهبوط الناعم، المقال الرابع يعالج قضية الاقتصاد والموقف من البنك الدولي ومؤسساته، أما الموقف من الحل السياسي فهو موضوع المقال الخامس، المقال السادس سيناقش الموقف من الحرب، وستكون الخاتمة هي المقال الأخير.

وصف الدكتور أحمد عثمان عمر استراتيجية قحت بانها مشروع الهبوط الناعم. فقد شهدت السنوات الماضية استخدام تيار معروف، ينتمي لليسار، في الحركة السياسية السودانية كلمة الهبوط الناعم كدليل على الانتهازية السياسية، والركوع امام السلطة ليصبح جزءا منها، ويتم دمجه في النظام، وتبقي مؤسسات وأجهزة الحكم كما هي.

واصل الجذريون استخدام المصطلح بنفس تلك الصفات لوصم بعض القوى السياسية الأخرى، بالصفات اعلاه. فرغم ان الاستراتيجية كانت وليدة لحظة تاريخية معرفة، وفي إطار تصور مقصور لحل مشاكل السودان، آنذاك، وفي ظل توازن قوة محدد. الا، انني الاحظ، انها صارت تستخدم خارج سياقها التاريخي واطارها الزمني وأهدافها المعلنة.

فلنبدأ بقراءة ما كتبه الدكتور أحمد عثمان:

(ومفاد ما تقدم، هو ان هناك تناقض جوهري بين مشروع وبرنامج قوى التغيير الجذري ومشروع وبرنامج (قحت)، فالأولى برنامجها ثوري، والثانية برنامجها اصلاحي. والبرنامج الثوري هو برنامج التفكيك والانتقال من دولة التمكين الى دولة كل المواطنين، والبرنامج الاصلاحي هو ابقاء على التمكين مع العمل على اصلاحه وهو غير قابل للإصلاح (هذا هو الهبوط الناعم).

نلاحظ هنا ان الدكتور أحمد وصف برنامج قحت بالإصلاحي، وذلك النعت، هو في جوهره، امتداد طبيعي، بل تكرار لنفس الطرح القديم، ما قبل ثورة ديسمبر المجيدة، الذي وصم القوى التي شاركت، بشكل أو آخر، في المفاوضات، بأنها ساعية للاندماج في نظام الاسلامويين، مع الإبقاء على كافة مؤسساته.

سأحاول عرض جوهر الاستراتيجية التي أطلق عليها الهبوط الناعم، وهي كانت سياسة محددة ومقترحة آنذاك، كحل لمشكلة السلطة في السودان. لعب السفير برينستون ليمان (وكان مبعوثا خاصا للإدارة الامريكية في السودان) دورا محوريا في صياغة الاستراتيجية. كتب برينستون في ورقة نشرها معهد السلام الأمريكي، حول المشروع، اقتطف منها بعض الفقرات:

(بعد عامين من فقدان السودان لربع عدد سكانه ومساحته، يظل البلد في أزمة كبيرة، لم يسفر انفصال الجنوب عام 2011 عن تسوية النزاعات طويلة الأمد في السودان. فمنذ ذلك الوقت يواجه الرئيس عمر البشير تمردا مسلحا يتزايد قوة، وانقسامات داخلية، ومحاولات للانقلاب عليه من قبل عناصر من الجيش. ولقد حان الوقت لان يشرع السودان في حوار داخلي حقيقي وعملية إصلاحية تؤدي الى حكومة ممثلة لقاعدة واسعة وديمقراطية وقادرة على السعي نحو مصالحة مجدية بين السودانيين)

ويمضي في عرضه:

(يتمثل السبب في الإخفاقات المستمرة لعمليات التفاوض التي أجريت في السودان في الماضي انها غالبا ما كانت تتضمن المتحاربين فقط، أي الحكومة والثوار المسلحين، ولضمان نجاح أي حوار وطني ينبغي اشراك أحزاب المعارضة السياسية التقليدية والمجتمع المدني بطريقة جادة)

ويقول حول انتخابات 2015:

(لا ينبغي النظر الى انتخابات 2015 على انها نقطة النهاية الثابتة للعملية، كما لا ينبغي السماح للنظام باستخدامها لإضفاء الشرعية على حكمه عبر انتخابات يشوبها القصور كما كان الحال في انتخابات 2010 وبدلا من ذلك إذا كانت هناك عملية حوار حقيقية تحظى بمشاركة واسعة وزخم ينبغي التفكير في تأجيل الانتخابات لعامين على الأكثر).

ويختم برينستون ورقته بهذه الفقرة:

(إذا بدأت عملية الحوار الحقيقية فسيتطلب الامر من الأطراف المشاركة بشكل مباشر وكذلك الأطراف المراقبة التحلي بالصبر والتسامح للتعامل مع المد والجذر في العملية، وأخطر التهديدات هو محاولة النظام الحاكم استغلالها لأغراضه الخاصة أو احباطها كلية إذا بدأت تتخذ منحى غير مرغوب فيه وسيتطلب الأمر اعداد استراتيجيات للتعاطي مع كلا التهديدين. ومع ان فرص نجاح عملية الحوار والإصلاح الوطني الشامل قد تكون متواضعة فإنها تعد أفضل مسارات التقدم للأمام لدولة لا تجد امامها خيارات جيدة وبدون هذه العملية لن تسنح للسودان فرصة التغلب على دوامة عدم الاستقرار الهدامة.)

هذا تصور واضعي استراتيجية الهبوط الناعم، وهي كانت نتاج لاعتقاد المجتمع الدولي بعدم قدرة المعارضة على هزيمة النظام. كما كانت الأزمة الاقتصادية الخانقة، ومخاطر اندلاع حرب أهلية شاملة، ومن ثم انهيار الدولة السودانية مخاوف حقيقية للمجتمع الدولي. ومثل نجاح اتفاقية السلام الشامل في السودان، وتجربة جنوب افريقيا وبعض اقطار أمريكا الجنوبية دافعا للتفكير في المشروع. وبخبث الاسلامويين المعروف، فقد استغلوا الاستراتيجية لتحسين صورة النظام امام المجتمع الدولي، ونيل بعض المكاسب. فنظموا ما سمي بحوار الوثبة، وسمحوا للمشاركين بطرح آرائهم، واعداد توصيات جيدة، وضعها البشير في ادراجه، عندما سلمت له.

رغم عدم ثقة من صمموا المشروع في قدرات الشعب السوداني، الا انه كان محاولة جادة، افرغها النظام من أي محتوى. ولذلك يصبح، من غير المستحب، ان نستخدمها كسبة نوصم بها الخصوم السياسيين. وصارت مصطلحات كالهبوط الناعم والتسوية السياسية والحل السياسي، تستخدم في غير سياقها التاريخي والموضوعي، وتحولت لأداة لوصف الخصوم السياسية بالسعي للمصالح الذاتية، والتنكر لمصالح الجماهير الشعبية.

ورد في دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي (أغسطس 1977)، عندما تم طرح المصالحة الوطنية بين نميري والأحزاب اليمينية، نقدا للطريقة التي تمت بها، وعن أهدافها ومراميها، ولكن لم يرفض مبدأ المصالحة كأسلوب للحل السياسي، ما يلي:

(ما يواجه شعبنا اليوم ليس مصالحة وطنية أو حوارا وطنيا لحل أزمة سياسية، وحماية وطن من أخطار تحيق به، تجارب الشعوب التي دفعتها ظروف الأزمات لأن تسلك طريق المصالحة الوطنية، تؤكد أن المصالحة تبدأ بتغيير أساسي في جهاز السلطة ودستورها وقوانينها. فتتوفر الحريات الديمقراطية الكاملة دون قيود للأحزاب السياسية وللنقابات والمنظمات الجماهيرية والصحف، ليدلي الشعب برأيه ويتقدم كل حزب واتجاه بما يرى من حلول، ويبتعد عن مواقع المسئولية الحكومية كل من أرتكب جرائم في حق الشعب والوطن وقاد الوضع السياسي للأزمة وحافة الانهيار، وتصفى المعتقلات والسجون، وتنشر حيثيات المحاكمات الجائرة تعاد للقضاء استقلاله ولحكم القانون سيادته، وتوضع قواعد ولوائح جديدة لانتخابات عامة، وتطرح للمناقشة والمراجعة أية معاهدات واتفاقيات خارجية مست سيادة الوطن واستقلاله. المصالحة الوطنية في العرف السياسي لتجارب الشعوب، تمثل فترة انتقالية للتصفية النهائية لأشكال الحكم التي قادت للأزمة، وتكوين أشكال جديدة يقننها دستور ديمقراطي تصون حقوق الجميع، ويجنب البلاد كوارث الصراعات الدموية والحروب الأهلية).

نواصل

siddigelzailaee@gmail.com

الجذريون والوقوف عند محطة الشراكة «2- 7»

الوسومأحمد عثمان عمر الجذريون السودان الهبوط الناعم صديق الزيلعي قحت قوى اليسار

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: أحمد عثمان عمر الجذريون السودان الهبوط الناعم قحت الدکتور أحمد فی السودان أحمد عثمان

إقرأ أيضاً:

الحلم الكبير: المشروع الإسلامي كحلم حضاري متجدّد.. من اللغة إلى الوعي ومن الفكرة إلى الإنسان

المشروع الإسلامي ليس صراعا على سلطةٍ ولا منافسة على زعامة بل مسارٌ حضاري يسعى لإحياء الإنسان قبل الدولة. من اللغة إلى الوعي، ومن النظرية إلى العمل، ومن النقد إلى البناء، يدعو هذا المقال إلى مشروعٍ جامعٍ يشارك فيه الجميع؛ ليبراليون، إسلاميون، مسلمون ومسيحيون في طريق واحد نحو نهضة تُعيد للحضارة روحها وللإنسان كرامته.

 مقدّمة

في زمنٍ تتنازع فيه الأمم على تعريف الإنسان ومعنى الحضارة، يبقى المشروع الإسلامي أكبر من شعارٍ سياسي أو تجربةٍ حزبية. هو بحثٌ متجدد عن موقع الإنسان في الكون، عن التوازن بين الإيمان والعقل، بين الدعوة والعمل، بين الرسالة والدولة. وكلّ محاولةٍ لإحياء هذا المشروع لا تبدأ من الصراع على السلطة، بل من استعادة الوعي بوظيفتنا الحضارية في إعمار الأرض وإحياء القيم.

 النقد والبناء: استكمال الفكرة لا نقضها

تحياتي للمفكر أحمد الشيخ، فقد لامس في ملاحظته لبّ الفكرة حين أشار إلى أن المقال السابق ركّز على من أرادوا بالمشروع الإسلامي شرّا لكنه لم يتوقف بما يكفي عند ضرورة الإصلاح والتجديد والأنسنة.

كانت هذه الإشارة مدخلا مهما لإعادة التفكير في أن النقد لا يكتمل إلا بالبناء، وأن المشروع الإسلامي الجامع لا يمكن أن يظل أسير الدفاع. بل عليه أن يقدّم للعالم بديله الإنساني والحضاري، فالتجديد لا يبدأ من خصومةٍ مع التراث ولا من رفضٍ للآخر، بل من مراجعة الذات وفهم مواضع الخلل داخل منظومتنا الفكرية والحركية، وحين يتحول النقد إلى فعل بنّاء يصبح خطوة في طريق النهضة لا قطيعة مع التاريخ.

من هنا يبدأ هذا المقال: من محاولة تحويل الوعي النقدي إلى رؤيةٍ حضاريةٍ تتجاوز الدفاع عن الهوية نحو بناء مشروعٍ جامعٍ يعيد للعقل المسلم قدرته على الفهم، وللأمة قدرتها على البناء.

 من النقد إلى التجديد العملي

وإذا كان التجديد لا يكتمل إلا بانتقال الفكر من مستوى النظر إلى مستوى الفعل، فإنّ أولى دوائر هذا التحول تبدأ داخل الحركات الإسلامية نفسها، لأنها الوعاء التاريخي الذي حمل الفكرة وحماها من الذوبان.

فالتحدي اليوم ليس في بقاء هذه الحركات أو زوالها، بل في قدرتها على أن تتحول من أطرٍ تنظيمية إلى روافع حضارية، تعيد وصل الفكرة بغاياتها الكبرى، وتعيد صياغة علاقتها بالمجتمع لا بوصفه مجالا للعمل، بل شريكا في البناء.

والحديث هنا عن جماعة الإخوان المسلمين؛ ليس باعتبارها موضوعا للنقد أو الدفاع، بل نموذجا حيّا لدراسة العلاقة بين التنظيم والفكرة بين الحركة والمشروع بين التاريخ والحضارة.

 الإخوان والمشروع الحضاري الإسلامي

الإخوان المسلمون -كتنظيمٍ وفكرة- يشكّلون العمود الفقري للمشروع الإسلامي في صورته المعاصرة؛ فالمسألة ليست في وجود التنظيم ذاته بل في كيفية التعامل معه وإدارة فكرته، والتنظيم ليس عائقا، بل يصبح كذلك فقط حين يُساء استخدامه أو يُختزل في شكله الإداري دون جوهره الحضاري.

التنظيم لم يُخلق ليحتكر المشروع الإسلامي، بل ليحتوي جميع دوائره الفكرية والإنسانية في إطارٍ واحدٍ متكامل. ودور الإخوان هنا ليس الهيمنة ولا الانغلاق بل الاحتواء؛ احتواء الفكرة والدائرة الأوسع في الإطار الحضاري العام، حتى أولئك الذين لا ينتمون تنظيميا لكنهم يتشاركون الإيمان بالمشروع وأهدافه الكبرى.

إنّ الجماعة بما تمتلكه من تجربةٍ ممتدةٍ في التربية والفكر والعمل الميداني تمثّل حلقة الوصل بين الفكرة والحضارة، وما تحتاجه اليوم ليس مراجعة وجودها بل تجديد أدواتها لتستوعب التحولات، وتبقى حاضنة للفكر والإنسان معا.

ولعلّ أحد كنوزها الاستراتيجية التي تحتاج إلى إعادة تفعيل هو نظام "الأسَر التربوية"، تلك الدوائر الصغيرة التي تلتقي أسبوعيا للتدارس والتزكية والحوار، فإذا أُعيدت إليها الحيوية بعقلية الإضافة والانفتاح على العلوم الإنسانية والواقع المعاصر، يمكن أن تتحوّل إلى مختبرٍ حضاريٍّ مصغّر يخرّج نماذج فكرية وروحية متوازنة قادرة على البناء لا التكرار.

إنّ المشروع الإسلامي في جوهره ليس صراعا على قيادةٍ أو إدارة، بل هو رؤية حضارية تسعى لبناء الإنسان وإحياء قيم العمران. والتنظيم في هذا التصوّر ليس غاية ولا قيدا، بل هو أداة من أدوات النهوض ومجال للتفاعل الإنساني والفكري الذي يربط بين الإيمان والعمل وبين الفكرة والمجتمع.

اللغة وبنية الوعي

فكل مشروعٍ حضاريٍّ يحتاج إلى وعيٍ لغويٍّ عميق؛ لأن اللغة ليست وسيلة للتواصل فحسب، بل هي بنية الوعي ومرآة العقل. وفي المشروع الإسلامي لا يقوم التجديد على مجرّد تعلّم العربية بوصفها لغة النص، بل بفهم جوهرها وكيفية بنائها؛ فالعقل هو مصنع اللغة، واللسان أداتها، وبقدر ما نفهم اللغة نفهم القرآن ونستشعر عظمته.

إنّ تطوير أدواتنا في فهم اللغة وتوظيفها يفتح لنا آفاقا جديدة في فهم النص المقدس ومحاولة إدراك معجزاته، دون أن نلوِي عنقه ليتناسب مع قواعد وُضعت في زمنٍ له سياقُه وملابساته الخاصة. هذا لا يعني هدم التراث اللغوي، بل العكس تماما، فالتجديد لا يكون إلا بالتمكّن الكامل من هذا التراث العظيم.

نحن لسنا في معركةٍ مع التراث، بل في حوارٍ معه؛ مهمتنا ليست نقده لهدمه بل فهمه لتطويره واستيعابه وتفعيله في واقعٍ جديد، وبتطوير فهمنا للغة ومحاولة استكشاف جوهرها يتطور العقل العربي المسلم ذاته لأنها -في جوهرها- تصوّرٌ للحياة وفهمٌ لها. فاللغة ليست كلماتٍ تُقال، بل رؤيةٌ تُعاش هي هويتنا وكينونتنا، وبها يتجدد وعينا بذواتنا وموقعنا في هذا العالم.

إن النهضة اللغوية ليست ترفا فكريا، بل أحد مفاتيح النهضة الحضارية التي تُعيد للعقل المسلم أدواته الأصلية في التفكير والفهم والتعبير.

 بين الأيديولوجيا والنظرية والعمل

فإذا كانت اللغة هي بنية الوعي، فإن الفكر هو منظومة الحركة التي تُترجم هذا الوعي إلى فعلٍ وتاريخ. ولا ينهض أي مشروع حضاري دون أن تتكامل فيه الأيديولوجيا والنظرية والعمل؛ لأنّ العمل بلا نظرية حراكٌ بلا وعي، والنظرية بلا تطبيقٍ تبقى حبيسة الأدراج.

ومن هنا نشأت العبارة الشائعة: "أصلهم بينظّروا"، التي تختصر الفجوة بين الفكر والتطبيق. لكن العلاقة بين الأيديولوجيا والنظرية والعمل ليست علاقة تناقض بل علاقة تكاملٍ وتغذيةٍ متبادلة، فالأيديولوجيا تمنح المشروع معناه واتجاهه، والنظرية تصوغ المفاهيم وتفسّر الواقع، والعمل يجسّد الفكرة في فعلٍ حيّ، وحين تنفصل الأيديولوجيا عن النظرية تتحول إلى عاطفةٍ بلا وعي، وحين تنفصل النظرية عن الأيديولوجيا تصير علما بلا روح، وحين يغيب العمل عن كليهما يتحول الفكر إلى ترفٍ ذهنيٍ معزول.

وهذه هي عظمة التجربة الإسلامية الأولى، حيث اجتمع الإيمان والفكر والعمل في منظومةٍ واحدةٍ متناسقةٍ لا تعرف الانفصال بين القول والفعل. وهكذا فعل الإمام حسن البنا حين حوّل الفكرة الإسلامية من وعظٍ إلى مشروعٍ عمليٍّ متكامل، مزج فيه بين الإيمان والتنظيم والعمل الاجتماعي والفكري والتربوي.

فالتجديد الحقيقي للمشروع الإسلامي لا يكون إلا حين يتكامل الإيمان مع الفكر والعمل في مسارٍ واحدٍ متفاعل، يجعل من الفكرة رؤية حيّة تتحرك في الناس لا نصّا جامدا يُتلى في الكتب.

 الورش الدائمة: من النقد إلى الفعل

ولأن الفكر بلا حركة يذبل والحركة بلا وعي تضلّ طريقها، فإنّ المشروع الإسلامي لا يمكن أن يستمرّ إلا عبر ورشٍ دائمةٍ للفكر والعمل تكون بمثابة مختبرٍ حضاريٍّ مفتوح تتلاقى فيه العقول والخبرات والتخصصات. فالسياسة المعاصرة تفرض تحديات غير مسبوقة؛ العولمة والتكنولوجيا والتحولات الثقافية والأزمات البيئية وتفكك منظومات القيم، وهذه كلها لا تُواجَه بخطبٍ منمقة أو ردود فعلٍ متسرعة، بل بتفكيرٍ نقديٍّ منظّم قادرٍ على صياغة المفاهيم وتحديث أدوات الفعل وربط المقاصد بالواقع دون تفريطٍ أو إفراط.

إنّ هذه الورش لا تُقام موسميا ولا تُختتم بالتصفيق، بل هي عقل الأمة الجمعي الذي يتعلم من الخطأ كما يبني على الصواب، فيها يُعاد تعريف المفاهيم التي شُوّهت، وتُراجع المصطلحات التي أُفرغت من مضمونها، وتُفتح مساحات للحوار بين الفكر والشرع والاجتماع والسياسة والتربية. ولن تؤتي هذه الجهود ثمارها إلا إذا كان العلماء والمفكرون جزءا من الحوار لا متفرجين عليه، وإذا تحوّل الخطاب الديني من التلقين إلى التفاعل ومن الدفاع إلى الإبداع، فالحضارة لا تُبنى في قاعات الانتظار، بل في فضاءاتٍ حرةٍ يُسمح فيها بالتجريب والاجتهاد والتصويب.

والورش الدائمة ليست مجرد فكرة تنظيمية، بل أسلوب تفكيرٍ جديد يجعل النقد فعلا بنّاء، ويحوّل الحوار إلى أداة لإنتاج الحلول لا لتكريس الخلافات. إنها الجسر الذي يربط بين الوعي والعمل بين النظرية والميدان، وبين الماضي الذي نستلهمه والمستقبل الذي نصنعه.

 نحو مشروعٍ إنسانيٍ جامع

المشروع الإسلامي في جوهره حضاري وإنساني؛ تحريرٌ للإنسان من العبودية لغير الله، وتحريرٌ للمجتمعات من الظلم والتبعية، وصناعةُ توازنٍ حضاري يعيد للإنسان مكانته خليفة في الأرض. ومن هنا حاجة المشروع إلى تكاتف الجميع ليبراليين وإسلاميين مسلمين ومسيحيين؛ مشروعٌ حضاريٌّ إنسانيٌّ وإسلاميٌّ معا، لا إقصاء فيه بل مشاركة، لا ذوبان فيه بل تكامل حول غايةٍ واحدة، بناء الإنسان وإحياء القيم وصناعة حضارةٍ تُكرِّم الإنسان ولا تستعبده.

 خاتمة

لن يُبعث المشروع الإسلامي ما دام أسير العزلة الفكرية أو التنظيمية، والخلاص في حوارٍ دائم وفي وصل الأصالة بالمعاصرة والعلم بالعمل والفكرة بالواقع. الورش الدائمة ليست بديلا عن الحركات، بل إطارٌ يجعلها أكثر وعيا واتزانا، وجسر بين المقاصد والوسائل وبين الماضي الذي نحفظه والمستقبل الذي نصنعه.

وكلما فككنا العقلية الغربية زاد وعينا بآلياتها، وكلما طورنا عقلنا العربي بخطنا الخاص امتلكنا بديلا واقعيا الجمع بين الاثنين؛ هو الذي يتيح تفكيك خطاب القوة وصناعة خطابٍ مضادٍ واعٍ خطابٍ لا يكتفي بالمواجهة، بل يعمل على التطوير والغربلة المستمرة كي يحافظ على حيويته وفاعليته.

فالحلم لا يُكتب بل يُعاش، وما أحلام اليوم إلا حقائق الغد، وما المشاريع الكبرى إلا كانت يوما فكرة أُحييت بالإيمان والعمل فتحوّلت إلى حضارةٍ تصنع التاريخ ولا تكتفي بروايته.

مقالات مشابهة

  • دبلوماسي فرنسي سابق: مصر كانت في قلب الدبلوماسية التي قادت لاتفاق السلام في غزة
  • المشروع الإسلامي كحلم حضاري متجدّد.. من اللغة إلى الوعي ومن الفكرة إلى الإنسان
  • الحلم الكبير: المشروع الإسلامي كحلم حضاري متجدّد.. من اللغة إلى الوعي ومن الفكرة إلى الإنسان
  • «الإصلاح والنهضة»: قمة السيسي والبرهان محطة استراتيجية تؤكد وحدة السودان ووحدة مصالح النيل
  • مصر المستقبل: قمة السيسي والبرهان ترسي شراكة استراتيجية للدفاع عن شرعية السودان وحقوق النيل
  • النيل الأبيض تبحث الترتيبات الخاصة باستئناف تبديل العملة في المحليات التي لم تشملها عملية الاستبدال
  • كيف تحولت نظرة ترامب لتركيا من المواجهة إلى الشراكة؟
  • جمعت بين الثروة والتأثير السياسي.. من تكون ميريام أدلسون التي أشاد بها ترامب أمام الكنيست؟
  • مقاتلات إف - 16 المصرية ترافق طائرة ترامب خلال الهبوط بمطار شرم الشيخ
  • التمكين… حين تحول الدين إلى غطاء للفساد السياسي