الثورة نت:
2025-07-26@23:31:08 GMT
من أدغال فيتنام إلى أنفاق غزّة: فنّ الكمين في مواجهة القوّة الغاشمة
تاريخ النشر: 26th, July 2025 GMT
في عالم يبدو فيه أن “القوّة تصنع الحق”، حيث الطائرات تقرر مسار الدول والدبابات ترسم حدود الخرائط، يظهر الكمين العسكري بوصفه الفعل الأكثر تواضعًا وفتكًا في آنٍ معًا. إنه اللحظة التي تنقلب فيها معادلة الحرب: من الأعلى إلى الأسفل، من الغازي إلى المُقاوِم، من جبروت التقنية إلى حكمة الأرض. وفي هذا الإطار، لا يمكن فهم ما يجري اليوم في شوارع غزّة المحطّمة، وفي أزقتها وأنفاقها، دون استحضار تجربة الفيتكونغ في أدغال فيتنام.
الكمين.. حيث تتعرّى “الحضارة” أمام تكتيك الفقراء
لطالما كان الكمين هو التعبير الأكثر جذرية عن جوهر حرب العصابات: هجوم الضعيف على القوي، الفعل المنظم في زمن الفوضى، وتفكيك الغطرسة بالتوقيت والمفاجأة. وفي هذا السياق، ليس الكمين مجرد عملية عسكرية، بل هو بنية عقلية، نموذج معرفي، كما يسميه فوكو، يُحوّل اختلال ميزان القوى إلى فرصة قلب الطاولة.
لقد أتقن الفيتكونغ هذا الفن؛ فبين الأشجار والأنفاق وتحت الضباب، تفككت الأسطورة الأمريكية عن الجيش الذي لا يُهزم. وكما في كمين “كو رون” أو معركة “التل 875″، لم يكن الهدف هو قتل أكبر عدد من الجنود فحسب، بل قتل معنوياتهم، وكسر شعورهم بالأمان، وزرع الشك في كلّ خطوة على الطريق.
واليوم، تعيد غزّة إنتاج هذه القاعدة نفسها، وإنْ اختلفت الجغرافيا. ليس هناك غابات هنا، بل بقايا أحياء مدمرة. ليست هناك تلال ولا أدغال، بل أنفاق محفورة بدقة، تُفضي إلى ممرات ضيقة حيث تختفي التكنولوجيا وتبدأ المعركة الحقيقية: رجل في وجه رجل، إرادة في وجه ماكينة.
“إسرائيل” الغطرسة المتكرّرة
كما فشلت واشنطن في فهم طوبوغرافيا المعركة في فيتنام، تُكرّر “إسرائيل” الفشل ذاته. فهي تدخل جباليا، ثمّ تنسحب، ثمّ تعود لتدخل، وكأنها ترفض الاعتراف بأن السيطرة العسكرية لا تُترجم إلى سيطرة سياسية. وكما لم تنجح أمريكا في اجتثاث الفيتكونغ رغم آلاف الأطنان من القنابل، تعجز “إسرائيل” اليوم عن إخضاع غزّة، رغم قدرتها على تحويل مدينة كاملة إلى ركام.
ما يجري ليس “تكرارًا” فقط، بل “عناد استعمار” يُحاول نفي الواقع. “إسرائيل” لا تملك مشروعًا لغزّة، ولا رؤية لما بعد الحرب، سوى التدمير والانتظار، انتظار انهيار داخلي في حماس، أو ضغط أمريكي، أو نفاد الصبر الشعبي. لكنها، كما حدث مع إدارة جونسون ونيكسون، تكتشف أن طول الحرب لا يجلب النصر، بل يُنضج الهزيمة.
المقاومة.. حين تصبح الأرض حليفًا
بينما تستنزف “إسرائيل” نفسها في محاولة إعادة احتلال الشريط الحدودي في رفح أو محيط خان يونس، تُدير المقاومة المعركة بحنكة تشبه ما قام به الجنرال الفيتنامي فونغ نغوين جياب. لا يتعلق الأمر بالدفاع فقط، بل ببناء بنية تحتية كاملة للكمائن: أنفاق، عبوات، مصائد نارية، وشبكة معرفة دقيقة بتحركات العدو، تكشف كم أن الاستخبارات “الإسرائيلية” باتت عمياء في مواجهة هذا العمق الأرضي المعقّد.
فالكمين، كما يتجلى في عمليات مثل بيت حانون أو الشجاعية أو شرق التفاح، ليس فعلًا عشوائيًا. إنه فعل هندسي، معرفي، ونفسي. تبدأ العملية باستدراج الدورية أو القوّة الهندسية إلى منطقة قتل معدّة مسبقًا، ثمّ تفجير أولي يشل الحركة، يليه اشتباك من مسافة صفر، تتبعه ضربة مضادة للآليات المدعّمة. هذه هي بنية “الكمين المركب” التي تُحوّل جيشًا من النخبة إلى كومة من الخسائر والخيبة.
حرب الصور.. حين يفقد القوي حق السرد
ما الذي جعل كمينًا بسيطًا في خان يونس يُحدث هذا الأثر السياسي؟ إنها الصورة، الفيديو، اللقطة التي تُظهر “الجندي الإسرائيلي” يفرّ، والمقاوم ينتزع سلاحه، ويغادر بهدوء. هذه ليست فقط لحظة نصر ميداني، بل لحظة كسر رمزي. إنها إعادة بناء للرواية من القاع: من حيث لا يملك الفلسطينيون إعلامًا عالميًا، ولا لوبيات ضغط، لكنّهم يملكون “الكاميرا في وجه الجندي”.
إنها في حد ذاتها لحظة تشومسكية بامتياز: حين تنقلب الدعاية إلى عبء على مروّجها. “إسرائيل”، التي طالما ادّعت احتكار “الأخلاق” في ساحة القتال، تجد نفسها اليوم مضطرة لتبرير قصف مستشفيات وأطفال، بينما تُظهر المقاطع أن الرد الفلسطيني محصور في كمائن تستهدف وحدات النخبة.
المعركة النفسية.. عدو لا يُرى
كما عانى الجنود الأمريكيون في فيتنام من الرعب الوجودي: “أين هو العدو؟”، يعيش “الجنود الإسرائيليون” اليوم في كابوس مماثل. كلّ بيت مهدّم قد يكون مدخل نفق، كلّ شجرة قد تُخفي سلاحًا، كلّ تقدم قد ينتهي بكمين. ومن يعرف التجربة الأمريكية في فيتنام، يدرك أن هذا النوع من الحرب لا ينتج فقط قتلى، بل ينتج جيوشًا منهارة نفسيًا.
ليست المسألة أرقامًا فحسب. إنها تحوّل “جندي الاحتلال” من رمز للسيطرة إلى كائن مذعور، لا يعرف إن كان سيعود حيًا، ولا لماذا يقاتل أصلًا. وهنا يكمن جوهر الصراع: المقاومة ليست تحارب فقط لإخراج الجيش، بل لتفكيك الأسطورة التي بنى عليها الاحتلال مشروعيته الوجودية.
الكمين كأداة تفكيك للمشروع الصهيوني
بعيدًا عن التفاصيل العسكرية، ينتمي الكمين إلى جغرافيا أعمق: إنه جزء من تفكيك المشروع الكولونيالي نفسه. كما ساهمت حرب العصابات في الجزائر وفيتنام في إسقاط وهم “الاستعمار المتمدن”، تفعل غزّة اليوم الشيء نفسه. الكمين هنا ليس فقط لتدمير ناقلة جند من نوع “نمر” كما حدث في الأمس بخان يونس، بل لتدمير وهم أن “إسرائيل” تستطيع “العيش الطبيعي” فوق أنقاض الآخرين.
فكل عملية تفجير لدبابة “ميركافا”، كلّ استهداف لوحدة “يهلوم”، وكلّ انسحاب لقوة مشاة بعد كمين دقيق، يعيد ترتيب المعادلة: من يملك السلاح ليس بالضرورة من يملك القرار. المقاومة، عبر الكمين، تُمارس السيادة: إنها من تقرر زمن القتال، مكانه، ومداه.
حين تنقلب الغطرسة إلى عبء
إن الحرب، كما يُعلّمنا التاريخ، لا تُحسم بالضرورة بمن يملك المدى الأطول أو الطائرة الأذكى. تُحسم أحيانًا بمن يملك الصبر، والفهم الأعمق لطبيعة المعركة. فيتنام هزمت الولايات المتحدة ليس في الجو، بل تحت الأشجار. وغزّة قد لا تهزم “إسرائيل” بالصواريخ، بل بالأنفاق والكمائن.
الكمين، في هذا السياق، ليس أداة تكتيكية، بل إعلان سياسي: لا سيطرة لكم هنا، لا أمن، لا نصر. هنا، نحن نعيد كتابة تاريخ الجغرافيا، نُعيد تعريف معنى الأرض، ونقول لكل قوة غاشمة: من أراد أن يحتل فعليه أولًا أن يمرّ من تحت ركام إرادتنا.
وكما قلنا سابقًا: “حينما تفشل القوّة الغاشمة في إخضاع الضعفاء، ينكشف وجه الإمبراطورية الحقيقي، ويبدأ العد التنازلي لانهيارها”.
وغزّة، بكلّ فداحة تضحياتها، تكتب هذا العد التنازلي اليوم، بدماء مقاتليها، بحكمة أنفاقها، وبفنّها المتقن في نصب الكمين.
كاتب فلسطيني
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
برّاك يُهدّد الحزب بإسرائيل: نزع السلاح أو القوّة
تقول أوساط سياسيّة إنّ ليس هناك من تقدّم حتّى الآن في موضوع نزع سلاح "حزب الله"، وإنّ الموفد الأميركيّ توم برّاك ليس راضياً على طريقة تعامل المسؤولين اللبنانيين مع ملف "الحزب"، لذا، أشار إلى أنّ الولايات المتّحدة غير قادرة على "إلزام إسرائيل بشيء"، في دلالة على أنّ تل أبيب قد تزيد من إعتداءاتها أو قد تستأنف حربها على لبنان، إنّ لم تُحلّ مشكلة العتاد العسكريّ الخارج عن سيطرة الدولة.
وفي الوقت الذي يستخدم فيه برّاك دبلوماسيته الهادئة مع المسؤولين اللبنانيين، يُلوّح في مناسبات أخرى بأطرٍ تُشكّل عوامل ضغط خطيرة على لبنان، بالتوازي مع إستمرار "حزب الله" برفض الخضوع للإملاءات الأميركيّة والإسرائيليّة، وتمسّكه بسلاحه للدفاع عن البلاد.
ويُدرك الموفد الأميركيّ أنّ أجوبة الرؤساء الثلاثة لا تُقدّم ولا تُؤخّر في موضوع نزع السلاح، لأنّ "حزب الله" لا يزال على موقفه الداعي إلى إرغام إسرائيل في تطبيق القرارات الدوليّة ووقف خروقاتها، فيما يُصرّ على حقّه في إبقاء عتاده وصواريخه، في غياب الضمانات الأميركيّة والفرنسيّة.
ولأنّ "حزب الله" لم يُرسل جوابه على الورقة الأميركيّة، ولأنّ حارة حريك لم تُبدِ جديّة واضحة في مُعالجة سلاح "المقاومة"، لوّح برّاك باستخدام القوّة الإسرائيليّة من جديد، لتحريك ملف ترسانة "الحزب" العسكريّة، وخصوصاً بعد فشل الجهود الدبلوماسيّة للتوصّل إلى نقاط مشتركة بشأن هذا الموضوع، كما أنّ الدولة اللبنانيّة غير قادرة وغير جادة في نزع السلاح، لأنّها لا تستطيع حلّ هذه المسألة من دون تعاون "حزب الله" من جهّة، وإعطاء إيران الضوء الأخضر لحليفها الشيعيّ في لبنان، من جهّة ثانيّة.
ويجب التطرّق أيضاً إلى الطريقة التي تتعامل بها الولايات المتّحدة مع خصومها، منذ وصول دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة للمرّة الثانيّة. ففي الحرب الإيرانيّة – الإسرائيليّة الأخيرة، كان الرئيس الأميركيّ يُلوّح بالأطر الدبلوماسيّة، ويُحدّد مهلاً مُعيّنة للتوصّل إلى اتّفاق بشأن البرنامج النوويّ، لكنّه أيضاً، استخدم القوّة العسكريّة الإسرائيليّة، ووجّه ضربات قاسيّة ضدّ المنشآت النووية في طهران، بعد فشل كافة المُحادثات والإتّصالات، وعدم رغبة الإيرانيين في التنازل عن برنامجهم النوويّ.
كذلك، حدّد ترامب مُهلة 50 يوماً لكلّ من روسيا وأوكرانيا لتوقيع إتّفاق بينهما، مُهدّداً بوتين بعقوبات غير مسبوقة، إنّ لم يتمّ التوصّل إلى صيغة تُنهي الحرب المُندلعة منذ العام 2022. أمّا في ما يخصّ لبنان، فلا يبدو أنّ الوضع سيكون مُغايراً لما حدث في إيران، فالولايات المتّحدة لا تزال تمدّ تل أبيب بكافة السلاح الذي ينقصها للتعامل مع "حزب الله" والحرس الثوريّ و"الحوثيين" والجيش السوريّ و"حماس"، وهي تنتظر إشارة من ترامب لاستئناف الضربات في العمق اللبنانيّ ضدّ مصالح "الحزب"، إنّ لم يرضخ الأخير للأمر الواقع.
من هنا، يُمكن القول إنّ خطر الحرب أو شنّ إسرائيل لغارات عنيفة على بلدات لبنانيّة وعلى الضاحية الجنوبيّة، يبقى خياراً لدى الأميركيين، للضغط على "حزب الله"، وزيادة النقمة الشعبيّة عليه من قبل مُناصريه، الذين لم يعودوا إلى قراهم المُدمّرة بعد، بسبب عدم إطلاق عجلة الإعمار المُرتبطة حكماً بنزع السلاح.
المصدر: خاص "لبنان 24" مواضيع ذات صلة معالم الردّ على ورقة برّاك تتبلور: لا عودة عن إنهاء سلاح "الحزب" Lebanon 24 معالم الردّ على ورقة برّاك تتبلور: لا عودة عن إنهاء سلاح "الحزب"