لطالما كانت السينما أداة للكشف عن القهر الإنساني، ومرآة تعكس تفاصيل الألم المسكوت عنه. وفي السياق الفلسطيني، خصوصا في غزة المحاصرة والمجوعة قسرا، لم تعد الكاميرا ترفا فنيا بل ضرورة وجودية. عبر مخرجات متواضعة تقنيا -بسبب عسر التمويل وشح الموارد-، لكن غنية بالصدق، استطاع صناع السينما في غزة تجسيد الجوع كفعل عنف ممنهج، وكاشف عميق لهشاشة الحياة اليومية.

الجوع في السينما الفلسطينية ليس مجرد عرض جانبي للحصار، بل هو مركز درامي يُكشف من خلاله حجم الانتهاك الإنساني. وما بين التوثيق، والرمزية، نجحت الأفلام التي نستعرضها اليوم بتحويل "لقمة العيش" إلى صرخة ضد الظلم، وعين تبصر ما يحاول العالم تجاهله.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2إيراداته العالمية تقترب من 200 مليون دولار.. "ذي فانتاستك فور" يواصل صدارة شباك التذاكرlist 2 of 2"كانابا" ملحمة هندية على الطريقة الهوليوديةend of list3000 ليلة: الطعام كأداة إذلال

"3000 ليلة" فيلم درامي فلسطيني صدر عام 2015، تأليف وإخراج مي المصري المعروفة بأعمالها الوثائقية والدرامية التي تسلط الضوء على معاناة الإنسان الفلسطيني، لا سيما النساء والأطفال. عُرض الفيلم لأول مرة في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي، ولاقى استحسانا نقديا واسعا، وشارك في عدة مهرجانات دولية أخرى، من بينها مهرجان دبي السينمائي الدولي.

تدور أحداث الفيلم حول ليال، المعلمة الفلسطينية الشابة التي تعيش في الضفة الغربية وتُعتقل ظلما من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي بتهمة واهية تتمثل في "تقديم المساعدة لشاب فلسطيني جريح". تُزج ليال في سجن إسرائيلي للنساء، وهناك تصدم بالواقع القاسي: السجينات الجنائيات الإسرائيليات، الحارسات العنيفات، والرقابة المشددة.

تصبح حبكة الفيلم أكثر تعقيدا وعمقا عندما تكتشف ليال أنها حامل، وتجبَر على اتخاذ قرار مصيري بين الإجهاض أو إنجاب طفلها في بيئة السجن القاسية. تختار الأمومة، ويصبح ابنها "نور" هو الضوء الوحيد في عتمة السجن، مما يمنحها دافعا للصمود والمقاومة وسط المعاناة.

وفي مشهد بارز خلال العمل، يظهر الجوع ليس كحرمان جسدي فحسب، بل كوسيلة إذلال وتفتيت للكرامة حيث تتجاوز المجاعة البعد الغذائي. إذ يوزع الطعام بتمييز، وتستبدل الوجبات بالعقوبات، وتصبح الأمومة مرهونة بقطعة خبز، فيما تهدَد الأمهات بحرمان أطفالهن من الطعام.

إعلان

الجوع هنا ليس بيولوجيا فقط، بل نفسيا، سياسيا، ممنهجا. في هذا السياق، الحصار لم يعد سياجا حول غزة وحدها، بل منظومة كاملة لعقاب الروح والجسد، وتلك إحدى أذكى الطرق التي وظفت بها السينما الفلسطينية المجاعة كعنصر درامي.

غزة مونامور: الجوع كحضور خفي

في طرح إنساني مغاير للصورة النمطية عن غزة، يفاجئنا صانعو "غزة مونامور" بفيلم رومانسي يتناول قصة عاطفية هادئة بين عيسى/رجل في الستين من عمره (قام بدوره الفنان سليم ضو) وسهام/بائعة أرملة في السوق (قامت بدورها الممثلة هيام عباس)، حيث نشهد غزة كخلفية لأحلام صغيرة مؤجلة وتفاصيل حياتية تقاوم البؤس بصمت.

أحد عناصر الجذب في الفيلم هو الجمع بين الواقع الثقيل لحياة الفلسطيني العادي وبين الرمزية الحالمة المتمثلة في الحب والجمال المكبوتين، وفي ظل استخدام الشقيقين ناصر الكاميرا الثابتة والمشاهد الطويلة، سُمح للمشاهد بأن تتسرب له المشاعر بهدوء دون مبالغة أو تصنع.

ورغم الطابع الرومانسي للفيلم، فإنه ينطوي على طبقات عميقة من تصوير الحرمان، البطل صياد عجوز يعيش في غرفة شبه خالية مع طعام فقير وواقع اقتصادي بائس شبه معدوم، حيث يظهر الجوع في خلفية المشهد، في الحوار، في الملابس، دون أن يشار إليه صراحة. هذه الرمزية تنجح بنقل الإحساس باليأس، كأن الجوع جزء من طقس الحياة اليومية، شعور متراكم باللاجدوى، فراغ لا يملؤه الطعام، بل الكرامة المفقودة.

فيلم "غزة مونامور" من بطولة سليم ضو وهيام عباس (موقع مهرجان القاهرة السينمائي)ولدت في غزة: المجاعة في الأفلام الوثائقية

"ولدت في غزة" فيلم وثائقي إسباني لاقى صدى واسعا حين عرض عبر منصة نتفليكس، أخرجه الصحفي والمخرج هيرنان زين المعروف بأعماله التي توثق النزاعات والمآسي العالمية من زاوية إنسانية بالغة الحساسية.

يركز الفيلم على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في صيف عام 2014، والتي راح ضحيتها أكثر من ألفي فلسطيني، معظمهم من المدنيين. لكن ما يجعله مختلفا أنه لا يوثق الحرب بشكل عام، بل ينظر إليها من خلال عيون الأطفال الفلسطينيين الذين عاشوا أهوالها.

يتتبع الفيلم 10 قصص واقعية لأطفال تتراوح أعمارهم بين 8 و15 عاما، يتحدثون بكلماتهم البسيطة والمؤثرة عن الفقد، والخوف، والصدمات النفسية التي تعرضوا لها خلال القصف الإسرائيلي. هؤلاء الأطفال يتحدثون عن آباء فقدوهم، منازل دمرت، مدارس اختفت، وأحلام تبددت تحت ركام الحرب.

في الفيلم الوثائقي (Born in Gaza)  يصير الجوع صوتا صامتا يهمس في خلفية المشهد دون حاجة للمبالغة أو المونتاج الحاد؛ فالكاميرا التي تتابع طفلا يبحث عن وجبة بين الركام أبلغ من أي سيناريو.

لقطة لثلاجة فارغة، طفل يفتش بين أكياس الإغاثة، أطفال يقفون في صفوف أمام المخابز، أم تقتسم الرغيف بين خمسة، مشاهد يومية تنقل الجوع كأزمة جماعية، تتجاوز الأفراد لتصبح نظاما من القهر فيما تكتب تاريخا بديلا لما يقال في نشرات الأخبار.

ولعل ما يميز العمل، كونه لا يتحدث عن الحرب بلغة السياسة أو الأرقام، بل يقدمها كما يراها الطفل: كوابيس، جروحا، صمتا، ودموعا، هذا المنظور يجعل الرسالة أكثر صدقا وانحيازا للإنسانية رغم المنظور المحايد لصانعه.

إعلان

في كل الأفلام السابقة، لم يقدَّم الجوع كضعف، بل جرى استثماره كأداة تفكيك للخطاب السياسي القامع. من خلال تجسيده، يعيد الفلسطيني تعريف الجوع: ليس انكسارا بل صمودا، ليس غيابا بل موقفا. صناع السينما الفلسطينيون لا يجمّلون الجوع بقدر ما يجردونه من صمته محولينه إلى لغة سينمائية تقول ما لا يقال.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات فی غزة

إقرأ أيضاً:

ذاكرة الجينات.. كيف يبقى أثر المجاعة في الجسد والدماغ أجيالا؟

يمر قطاع غزة حاليا بمجاعة ساحقة وصفت بأنها "الأسوأ" في العالم، لكن الأسوأ من ذلك أنها لا تتوقف، بل تتفاقم بشكل أسّي يوما بعد يوم.

يدفعنا ذلك إلى تأمل آثار المجاعة طويلة الأمد على البشر، والواقع أن دراسة شتاء الجوع الهولندي، وهي فترة خلال الحرب العالمية الثانية التي شهدت انخفاضا شديدا للغذاء في هولندا، كانت من أشهر الدلائل على أن المجاعة لا تنتهي بإطعام الجائعين، بل تترك أثرا قد يمتد أجيالا مستقبلا.

وجد الباحثون في هذا النطاق، أن الأطفال الذين كانوا في بطون أمهاتهم أثناء المجاعة، عانوا من آثار صحية طويلة الأمد، مثل زيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والسكري واضطرابات الصحة النفسية في مراحل لاحقة من الحياة.

الجينات هي شفيرة الحياة (غيتي)ذاكرة الجينات

ويُعتقد أن هذه التغيرات ناتجة عن تعديلات جينية، حصلت للأم وانتقلت للجنين، استجابةً لسوء التغذية أثناء نموه.

ويشير مفهوم "الذاكرة الجينية" إلى إمكانية انتقال التجارب أو السلوكيات أو السمات عبر الأجيال من خلال المادة الوراثية، وبينما يُعتقد تقليديًا أن الذاكرة تجربة فردية مخزنة في الدماغ، اقترح بعض الباحثين أن تجارب خاصة جدا، مثل الجوع الشديد والمرض، قد تترك بصمات بيولوجية تنتقل عبر الأجيال.

نعرف أن الجينات هي ببساطة شفيرة الحياة، توجد في الحمض النووي، وكأنه كتاب يحمل توجيهات لتصنيع كل شيء في جسم الكائن الحي، فتجد هنا مجموعة من الجينات المسؤولة عن لون الشعر، وأخرى مسؤولة عن طول الجسم، ويمتد الأمر وصولا إلى أدق التراكيب الخلوية في أجسامنا، وبقية الكائنات الحية.

وتشير فكرة ذاكرة الجينات إلى أن جيناتنا قد تحمل علامات ضغوط بيئية (مثل المجاعة أو سوء التغذية) تؤثر على صحة الأجيال القادمة أو سلوكها أو وظائفها الفزيولوجية.

الجيني هو عملية تترجم فيها المعلومات الموجودة في الجينات إلى بروتينات تؤدي وظائف في الجسم (شترستوك)التعبير الجيني

ولا تعني الذاكرة الجينية أن الذكريات (مثل ذكريات أحداث معينة) تكون مشفّرة مباشرة في الحمض النووي. بل تشير إلى إمكانية تأثير العوامل البيئية على ما يسميه العلماء بعملية "التعبير الجيني"، وأن هذه التغييرات يمكن أن تنتقل عبر الأجيال. ويتم استكشاف هذا الأمر أساسًا من عملية تُعرف باسم علم التخلق.

إعلان

ويعرف التعبير الجيني بأنه عملية تترجم فيها المعلومات الموجودة في الجينات إلى بروتينات تؤدي وظائف في الجسم.

ببساطة، يمكن التفكير في الجينات كخطط أو تعليمات موجودة في الحمض النووي، بينما البروتينات هي الأدوات أو الآلات التي تنفذ هذه الخطط.

على سبيل المثال، إذا كان لديك جين مسؤول عن إنتاج الإنزيمات الهاضمة في المعدة، فهذا الجين يُعبِّر عن نفسه عندما تأكل الطعام، فينتج البروتين الخاص بالإنزيمات للمساعدة في الهضم.

الجوع يتخطى زمن المجاعة (وكالة الأناضول)فوق الجينات

في تلك النقطة يتدخل "علم الوراثة فوق الجينية"، ويرصد تغيرات في نشاط الجينات لا تتضمن تعديلات في تسلسل الحمض النووي نفسه، ولكنها تؤثر على كيفية التعبير الجيني.

يمكن أن يحدث هذا من آليات مثل "مثيلة الحمض النووي"، وهي عملية إضافة مجموعة كيميائية تسمى الميثيل إلى الحمض النووي، مما يؤدي إلى تغييرات في كيفية تعبير الجينات دون تغيير تسلسلها، حيث يمكن أن تؤثر المِثْيَلَة في تنشيط أو إيقاف الجينات، مما يؤثر على وظائف الخلايا وتطور الكائنات الحية.

عندما يعاني الكائن الحي من الجوع أو سوء التغذية فترات طويلة، يتكيف جسمه من خلال تغيرات فوق جينية تساعده على التعامل مع الإجهاد.

يمكن أن تشمل هذه التغيرات تغيير المسارات الأيضية، بجعلها مركزة ومختصرة للحفاظ على الطاقة وإعطاء الأولوية للوظائف الأساسية.

كما يمكن أن يؤدي الجوع إلى تغيرات في كيفية التعبير عن بعض الجينات المشاركة في تخزين الدهون، وتنظيم الجوع، أو أيض الجلوكوز، وإذا ساعدت هذه التغيرات الكائن الحي على البقاء على قيد الحياة في ظل ظروف قاسية، فقد تنتقل إلى الأبناء.

من جانب آخر، يعد الجوع شكلا من أشكال الإجهاد الشديد، ومن ثم قد يؤدي الجوع المزمن إلى تغيرات طويلة الأمد في جينات الاستجابة للإجهاد، مما قد يؤثر على كيفية استجابة الأجيال القادمة للضغوطات البيئية مثل ندرة الغذاء.

كما يمكن أن يؤدي الجوع إلى ضعف الجهاز المناعي، مما قد يُغيّر الجينات المسؤولة عن الاستجابات المناعية، ومن ثم فإذا مر الفرد بهذه التجربة، رغم ضعف جهازه المناعي، فقد تنتقل التكيفات الجينية التي مكّنته من التأقلم إلى أبنائه.

حتى الدماغ

ويجري ذلك على كل شيء، حيث يمكن أن يؤثر الجوع، وخاصةً خلال المراحل المبكرة من الحياة، على نمو الدماغ، بشكل يظهر مستقبلا على المزاج والوظيفة الإدراكية في الأطفال الذين لم يختبروا المجاعة أصلا، ولكنّ آباءهم اختبروها.

يظهر ذلك أيضا في تجارب النماذج الحيوانية، حيث أظهر الباحثون أن التوتر الغذائي يمكن أن يؤدي فعلا إلى وراثة التغيرات الجينية عبر الأجيال.

على سبيل المثال، أظهرت الفئران التي تعرضت لنظام غذائي محدود أثناء الحمل تغيرات سلوكية في ذريتها، مثل زيادة القلق أو تغير سلوكيات التغذية، والتي ارتبطت بتعديلات جينية في جينات معينة. ويبدو أن هذه التغيرات السلوكية قد وُرثت للجيل التالي، على الرغم من أن الأحفاد لم يتعرضوا لنفس القيود الغذائية.

يؤثر على كل شيء

بل ويجري الأمر على الآباء والأمهات أنفسهم كما يفترض فريق من العلماء، أجرى تجارب على الفئران في عام 2017، إذ قام باحثون من جامعة سانت ماري في تكساس بتقييد تناول الطعام لدى الفئران البالغة بشكل كبير في ثلاث مناسبات منفصلة خلال حياتها.

إعلان

وفي أول فترتين من المجاعة، فقدت الحيوانات 20% من كتلة أجسامها. وفي فترة المجاعة الثالثة، وهي الأطول، فقدت 30%.

وقد وجد الفريق البحثي أن الفئران التي عانت من المجاعة كانت درجة حرارة أجسامها ومستويات سكر الدم لديها أقل مقارنةً بفئران سليمة خضعت لمجموعة التحكم.

ويعني ذلك أن التكيفات الفسيولوجية خلال فترات الجوع أثرت على حالة الفئران بعد ذلك، وكأنها جهزتها للمجاعة القادمة، حيث كان جهدها يحتفظ بالدهون المخزنة للحصول على الطاقة، بشكل أفضل.

وتشير الدراسة، التي أعلن عنها في الاجتماع السنوي للجمعية الفسيولوجية الأميركية في معرض الأحياء التجريبية 2017 في شيكاغو، إلى أن فترات الجوع الشديد السابقة أثرت على الإستراتيجيات التي اتبعتها الفئران في فترات الجوع التالية.

يشير ذلك إلى أن الجوع يتخطى زمن المجاعة، ويترك ندبا تظل مستمرة وذات أثر في حياة الذين عانوا منه، بل وذريتهم المستقبلية.

مقالات مشابهة

  • الأمم المتحدة: حالة كبيرة من الجوع بغزة والمساعدات التي تصل لا تكفي
  • ذاكرة الجينات.. كيف يبقى أثر المجاعة في الجسد والدماغ أجيالا؟
  • لوتان: أرقام تكشف كيف أصبحت غزة بؤرة المجاعة في العالم
  • وفاة رضيع بغزة نتيجة الجوع وسوء التغذية
  • المنفي يستقبل المبعوث الخاص للرئيس الفلسطيني ويؤكد دعم ليبيا الثابت للقضية الفلسطينية
  • طبيب بريطاني: الماء والملح قوت أطفال غزة وسط المجاعة
  • مراسلة الجزيرة نت.. قصة أم تطعم أبناءها من رماد المجاعة
  • وفاة طفل في غزة نتيجة الجوع وسوء التغذية
  • استشهاد فتى فلسطيني بسبب الجوع وسوء التغذية بغزة