د. أحمد بن محمد بن راشد الهنائي*

تختص المحكمة الدستورية بالرقابة على دستورية القوانين واللوائح، وهي بذلك تعد الضامن الأساسي لحماية مبدأ سمو الدستور، وتتموضع هذه المحكمة -الدستورية- في أعلى درجات السلم القضائي في الدولة. وفي المقابل تقوم منهجية قياس أثر التشريع بتقييم فاعلية التشريعات قبل وبعد صدورها، بما يضمن تحقيقها للغاية من إصدارها.

وتعمد اختصاصات هاتين المؤسستين: المحكمة الدستورية (الوظيفة الرقابية) وقياس أثر التشريع (أداة المنهجية) على إحداث تطور نوعي في كل من العمل التشريعي والقضاء الدستوري. وذلك على النحو الآتي:

 

أولاً: الوظيفة الرقابية للمحكمة الدستورية:

يتمثل الاختصاص الأصيل للمحكمة الدستورية في الرقابة على دستورية القوانين واللوائح، كما تمتلك هذه المحكمة في بعض الأنظمة المقارنة -المحكمة الدستورية العليا المصرية- اختصاص الفصل في تنازع الاختصاص وتنفيذ الأحكام النهائية، واختصاص تفسير النصوص التشريعية التي تثير خلافًا في التطبيق العملي. في حين يعهد النظام الدستوري الفرنسي للمجلس الدستوري بجانب اختصاصه برقابة الدستورية اختصاصات أخرى، أبرزها: الإشراف على الانتخابات الرئاسية والتشريعية، والإشراف على الاستفتاءات، ودوره في إعلان حالة الطوارئ.

والبين من ذلك، تباين الأنظمة السياسية في التشريعات الدستورية المقارنة من مسألة التوسع والتضيق في الاختصاصات التي يمنحها المشرع الدستوري للمحكمة الدستورية، وبطبيعة الحال فإن ذلك مرده إلى تركيبة كل من النظام السياسي الحاكم والنظام الدستوري لكل دولة.

وتتباين الأنظمة الدستورية من مسألة الرقابة على الدستورية إلى ثلاثة أنظمة:

النظام الأول: يكون من اختصاص هيئة ذات صبغة سياسية، قد تكون بذاتها السلطة التشريعية، وقد تكون هيئة خاصة مستقلة لمباشرة هذه الرقابة. وتذهب غالبية الأنظمة الدستورية التي تختار هذا النوع من الرقابة إلى إسناده إلى جهة مستقلة تتولى الرقابة على دستورية القوانين على وجه الخصوص وذلك من خلال رقابة المحكمة الدستورية على القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية التي قد تخالف أحكام الدستور أو تتعارض مع نصوص تشريعية أخرى.

النظام الثاني: يكون من اختصاص هيئة قضائية، ويعتمد تحديد الجهة القضائية التي تتولى مباشرة الرقابة الدستورية على موقف المشرع الدستوري، ولقد اتجهت غالبية الدول الحديثة إلى تركيز الرقابة الدستورية بيد محكمة واحدة، وهو ما اصطلح الفقه على تسميته "بمركزية الرقابة" ويكون ذلك بنص دستوري صريح لتلك الجهة القضائية دون غيرها من الجهات القضائية.

النظام الثالث: قد يترك المشرع الدستوري الأمر للرقابة الشعبية واجتهاد القضاء، وذلك من خلال سكوته وصمته عن تحديد جهة قضائية محددة، وهذا أمر في غاية الخطورة، حيث إن الشعب لا يملك القدرة على البت في المسائل الرقابة الدستورية، بالإضافة إلى أن الاجتهاد القضائي الذي قد يصيب وقد يخطئ في هذه المسائل، ومرد ذلك عدم وجود كادر قضائي متخصص في الرقابة الدستورية.

 

ثانيًا: أداة التقييم والتقويم لمنهجية قياس أثر التشريع:

تتمثل أداة تقييم التشريعات من خلال وجود وحدة عامة تتولى تطبيق منهجية قياس الأثر التشريعي، وذلك عبر مراجعة كافة التشريعات ودراسة مدى الحاجة إلى استصدار تشريعات جديدة أو إجراء تعديلات على تشريعات نافذة أو إلغاء ما يتطلب إلغاؤه في كل مرحلة من مراحل التنمية، في ضوء مختلف مجالات الدولة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وذلك في إطار ما تفرزه تلك المجالات من مستجدات يتطلب قيام هذه الأداة بمزامنة تلك المستجدات وبما يتواكب مع السياسة العامة للدولة.

وغني عن البيان، إن عملية التقييم لتلك الأداة تتمثل من خلال تجميع كافة المعلومات والمعطيات الخاصة بالتشريع محل المراجعة وتحليل تلك المعلومات تحليلًا دقيقًا يتسم بالشفافية والمساواة، فضلًا عن وجوب المشاركة المجتمعية للفئة ذات الاختصاص بتطبيق التشريع، مع مراعاة سيادة القانون والحوكمة في التنفيذ، دون إغفال دراسة التكلفة الاقتصادية وتفنيد العائد الإيجابي للتشريع محل المراجعة، وصولًا إلى عملية تقويم أداة قياس الأثر التشريعي عبر طرح كافة البدائل التشريعية، ومن ثم القيام باختيار البديل الأفضل والأنسب في ضوء ما افرزته عملية تقييم العوامل الخاصة بتطبيق منهجية قياس أثر التشريع.

وبذلك تأتي مرحلة تقويم التشريعات من خلال الأداة الخاصة بمنهجية قياس الأثر التشريعي في مرحلة تالية لمرحلة التقييم التي تتمثل في قيام هذه المؤسسة -هيئة قياس أثر التشريع- بالفحص والتمحيص والمقارنة بالتشريع المقارن للتشريعات محل الدراسة، بغية تجويد العمل التشريعي للدولة.

 

ثالثًا: تلازم الوظيفة القضائية ودور الأداة التشريعية:

البين من الاختصاص الوظيفي للرقابة الدستورية ومنهجية قياس الأثر التشريعي، وجود علاقة ترابطية بين كل من المحكمة الدستورية وهيئة قياس أثر التشريع، تتجلى في قيام المحكمة الدستورية بدور رقابي للقوانين واللوائح التي تصدر عن السلطة التشريعية في الدولة، بالإضافة إلى مركزية الرقابة التي تتمثل في الاختصاصات المناطة بجهة قضائية واحدة دون غيرها من الجهات، عوضًا عن شمولية تلك الرقابة بالنظر إلى كافة التشريعات التي قد تتصادم مع القواعد الدستورية وغيرها من القواعد القانونية، وتبرز أهمية هذه المحكمة -الدستورية- في تحقيق مبدأ الموازنة بين السلطات العامة في الدولة، من خلال التوفيق بين ما يصدر من قوانين السلطة التشريعية ولوائح السلطة التنفيذية، بالإضافة إلى الرقابة الدستورية التي تمتلكها السلطة القضائية، وذلك في إطار النصوص الدستورية الحاكمة لكافة السلطات في الدولة.

ويعضد من قيام المحكمة الدستورية بالاختصاصات المناطة بها، وجود هيئة تختص بتطبيق منهجية قياس الأثر التشريعي، كون وجود هذه الهيئة مدعاة للتطبيق السليم في سن التشريعات وفق أسس وقواعد منهجية، بالإضافة إلى تمكين تلك الهيئة بالتفرغ إلى دراسة كافة التشريعات، وبالأخص تلك المتعلقة بالمجالين الاقتصادي والاجتماعي، نظرًا لدورهما الكبير في تحقيق تنمية محلية تتسم بالتسارع والاستدامة.

 

رابعًا: قياس الأثر التشريعي والرقابة الدستورية في النظام الأساسي للدولة:

بالنظر إلى الاختصاصات الرقابية للمحكمة الدستورية، ومنهجية قياس اُثر التشريع على النظام الأساسي للدولة، وما آلت إليه الممارسة العملية في سلطنة عمان في كل من العمل التشريعي والقضاء الدستوري، يتجلى الآتي:

 

نصت المادة (70) من النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (101/96) على أن: "يعين القانون الجهة القضائية التي تختص بالفصل في المنازعات المتعلقة بمدى تطابق القوانين واللوائح مع النظام الأساسي للدولة وعدم مخالفتها لأحكامه، ويبين صلاحياتها والإجراءات التي تتبعها". أبانت المادتان (11،10) من المرسوم السلطاني رقم (90/99) بإصدار قانون السلطة القضائية على تشكيل هيئة -عند الحاجة- في المحكمة العليا للنظر في تنازع الاختصاص والأحكام والمنازعات المتعلقة بمدى تطابق القوانين واللوائح مع النظام الأساسي للدولة وعدم مخالفتها لأحكامه. جاءت المادة (2) من المرسوم السلطاني رقم (88/2008) في شأن هيئة تنازع الاختصاص والأحكام، بتحديد اختصاصات الهيئة، وقد وردت تلك الاختصاصات دون الإشارة إلى المنازعات التي قد تثار في مدى تطابق القوانين واللوائح مع النظام الأساسي للدولة. بموجب المرسوم السلطاني رقم (35/2022) بشأن تنظيم إدارة شؤون القضاء تم إلغاء هيئة تنازع الاختصاص والأحكام. أكدت المادة (85) من النظام الأساسي للدولة رقم (6/2021) أهمية وجود جهة قضائية تختص بمسائل الرقابة الدستورية، وذلك بالنص على أن: "يعين القانون الجهة القضائية التي تختص بالفصل في المنازعات المتعلقة بمدى تطابق القوانين، والإجراءات التي لها قوة القانون، والمراسيم السلطانية، واللوائح مع النظام الأساسي للدولة وعدم مخالفتها أحكامه، ويبين صلاحياتها والإجراءات التي تتبعها". قام المشرع العماني عوض إنشاء محكمة دستورية أو على أقل تقدير الإبقاء على هيئة تنازع الاختصاص والأحكام مع إضافة الاختصاص الخاص بالمنازعات الناتجة عن تطابق القوانين واللوائح مع النظام الأساسي للدولة بإلغاء تلك الهيئة، ومن ثم ترتب على ذلك وجود فراغ تشريعي بعدم وجود جهة قضائية مختصة للنظر في الرقابة الدستورية على القوانين واللوائح.

 

أما بالنسبة لمنهجية قياس أثر التشريع في الواقع العماني، نجد بأنه ليس هناك جهة مختصة تقوم باتباع منهجية قياس الأثر التشريعي، مع الإشارة إلى وجود بوادر غير ممنهجة في طريق تبني هذه المنهجية دون أن يكون لها تنظيم تشريعي يقوم بإنشاء هذه الجهة وتحديد اختصاصاتها.

وفي ظل غياب هذه الجهة فقد أبان الواقع العملي عن وجود خلل في المجال التشريعي، لعل من بين ذلك في المدى الماضي القريب على سبيل المثال لا الحصر: قيام إحدى الجهات بإصدار لائحة تنفيذية خاصة باختصاصاتها في شهر أبريل 2025، لتقوم في شهر يوليو من العام ذاته (2025)، بتعديل تلك اللائحة، أي خلال مدة وجيزة جدًا (ثلاثة أشهر) من صدور اللائحة.

 

الخاتمة:

وحاصل القول نرى أهمية قيام المشرع العماني في الإسراع بإنشاء كل من: المحكمة الدستورية، وهيئة قياس أثر التشريع وتحديد اختصاصاتهما، وذلك لوجود تلازم وترابط بينهما من حيث الوظيفة والأداة، وذلك للأسباب الآتية:

وجود فراغ تشريعي يتمثل في عدم وجود الجهة القضائية المختصة بالرقابة الدستورية على المنازعات المتعلقة بمدى تطابق القوانين واللوائح والإجراءات الأخرى التي لها قوة القانون، والمراسيم السلطانية، واللوائح مع النظام الأساسي للدولة وعدم مخالفتها أحكامه. عدم وجود الجهة القضائية المختصة بالرقابة الدستورية يتعارض مع كل من: المادة (85) من النظام الأساسي للدولة الخاص بتعيين هذه الجهة. والمادة (95) من النظام الأساسي للدولة ذاته، الناص على وجوب قيام الجهات المختصة على استصدار القوانين التي تستلزمها أحكام هذا النظام، وذلك خلال سنتين من تاريخ العمل به. وجود خلل في العمل التشريعي في ظل غياب جهة معينة تتولى القيام بتطبيق منهجية قياس أثر التشريع، التي تختص بدراسة القوانين النافذة واستصدار القوانين اللازمة وإلغاء ما لا يتواكب مع كل مرحلة من مراحل التنمية العمانية. يترتب على إنشاء وتحديد اختصاصات هاتين الجهتين -المحكمة الدستورية، وهيئة قياس أثر التشريع- تحقيق محاور وأولويات رؤية "عُمان 2040". ومن ثم تحقيق رقابة دستورية ناجزة، وتجويد العمل التشريعي.

 

 

 

*دكتوراة في القانون الدستوري والعلوم السياسية

رئيس مركز البحوث والدراسات الجامعية

نائب الرئيس التنفيذي للمكتب الوطني للمحاماة

 

المراجع:

د. إبراهيم محمد الشرفاني، رقابة المحكمة الدستورية على السلطة التقديرية للمشرع. أ.د. سامي جمال الدين، القانون الدستوري والشرعية الدستورية على ضوء قضاء المحكمة الدستورية العليا. د. شعبان أحمد رمضان، النظام الدستوري البحريني طبقًا لأحدث التعديلات الدستورية لعام 2012. د. محمد فؤاد عبدالباسط، ولاية المحكمة الدستورية العليا في المسائل الدستورية. د. أحمد بن محمد الهنائي، مقال "قياس أثر التشريع في القانون العماني"، جريدة الرؤية العمانية. النظام الأساسي للدولة رقمي (101/96) و (6/2021). قانون السلطة القضائية رقم (90/99). قانون هيئة تنازع الاختصاص والأحكام رقم (88/2008). قانون تنظيم وإدارة شؤون القضاء رقم (35/2022).

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

استمرار عملية إزالة الألغام التي زرعها النظام البائد في قرى جبل الأكراد بريف اللاذقية، لضمان عودة آمنة للأهالي



2025-08-04Belalسابق النقل السورية تبحث مع السفارة الألمانية التعاون في مجالات النقل الذكي والمستدام انظر ايضاً النقل السورية تبحث مع السفارة الألمانية التعاون في مجالات النقل الذكي والمستدام

دمشق-سانا بحث وزير النقل السوري الدكتور يعرب بدر مع القائم بأعمال السفارة الألمانية بدمشق كليمنس …

آخر الأخبار 2025-08-04النقل السورية تبحث مع السفارة الألمانية التعاون في مجالات النقل الذكي والمستدام 2025-08-04حملة “شفاء 2” تنطلق في حلب… أطباء سوريون مغتربون يجرون عمليات جراحية نوعية 2025-08-04وزيرا الطاقة والمالية يبحثان تعديل تعرفة الكهرباء في سوريا 2025-08-04الصحة السورية تبحث مع مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع تعزيز التعاون 2025-08-04مترو دمشق على خط التنفيذ… مباحثات سورية إماراتية لإحياء المشروع الإستراتيجي 2025-08-04استئناف حركة دخول المواطنين إلى السويداء وخروجهم منها عبر بصرى الشام 2025-08-04وزارة الاقتصاد والصناعة السورية: السماح بتصدير الرصاص يدعم استمرار عمل مصانع الصهر 2025-08-04مشفى الكلية الجراحي بدمشق يتسلم 15 جهاز غسيل كلية متطوراً-فيديو 2025-08-04الوفد التقني لوزارة الخارجية والمغتربين يلتقي عضو المجلس الرئاسي في دولة ليبيا الشقيقة 2025-08-04ورشة عمل للإعلاميين بدمشق حول التواصل أثناء المخاطر ومواجهة الشائعات

صور من سورية منوعات واتساب يطلق ميزة تحديثات الحالة للمجموعات 2025-08-04 روبوت يلتحق ببرنامج دراسات عليا في الصين 2025-08-04
مواقع صديقة أسعار العملات رسائل سانا هيئة التحرير اتصل بنا للإعلان على موقعنا
Powered by sana | Designed by team to develop the softwarethemetf © Copyright 2025, All Rights Reserved

مقالات مشابهة

  • وهبي معلقا على قرار رفض بعض مواد المسطرة المدنية.."لانخشى الرقابة الدستورية بل نشجعها ونراها ضمانة لدولة القانون"
  • المحكمة الدستورية تقرر عدم دستورية منح النيابة العامة صلاحية طلب بطلان الأحكام 
  • المحكمة الدستورية تقضي بعدم دستورية عدد من مواد قانون المسطرة المدنية
  • تكالة يهاجم تحركات النواب لتفعيل المحكمة الدستورية
  • المحكمة الدستورية تعدل أحكام إنشاء مركز البحوث والدراسات الدستورية للدول الأفريقية
  • استمرار عملية إزالة الألغام التي زرعها النظام البائد في قرى جبل الأكراد بريف اللاذقية، لضمان عودة آمنة للأهالي
  • الأعلى للدولة يؤكد بطلان إجراءات البرلمان بتشكيل المحكمة الدستورية ويحذر من تداعياتها
  • الأعلى للدولة في ليبيا: إجراءات مجلس النواب بشأن المحكمة الدستورية باطلة
  • الرقابة الإدارية تشدد على الشفافية.. ووزارة الاقتصاد ترد بتحرك سريع لتحسين الأداء