عربي21:
2025-08-11@22:32:32 GMT

لماذا تعدّ إبادة غزة ضمن أفظع أهوال التاريخ البشري؟

تاريخ النشر: 11th, August 2025 GMT

من المغالطات الرائجة في مقاربة السياسات الوحشية الحديثة اعتبارها أدنى من خطورة الفظائع الشهيرة التي شهدها التاريخ البشري في أزمان وعهود خلت، بما في ذلك أهوال الحرب العالمية الثانية.

يكمن جوهر هذه المغالطة في تحييد عامل الزمن وإغفال ما تطوّر خلاله من كوابح وقيود لعرقلة تكرار جرائم الماضي الرهيبة.

لا تقتصر هذه الكوابح والقيود على تطوير مرجعيّات قيمية ومبدئية وقانونية ذات طابع دولي سابغ، وعلى نموّ حسّ أخلاقي عامّ على المستوى البشري بصرف النظر عن مدى الامتثال له في الواقع؛ بل تتعدّاه إلى حقيقة أنّ كثيراً من جرائم الحاضر تبقى مُقيّدة بواقع الإضاءة الإعلامية عليها وقْت حدوثها فصار من الصعب حجبها والتستُّر عليها، بعد أن تمادت إمبراطوريات ودول وأنظمة وجيوش في اقتراف الموبقات المغلّظة في ما مضى ونجحت في كنْسِها تحت البساط بسهولة.



كانت بعض مُقدِّمات برنامج الإبادة النازي ظاهرة تقريباً من خلال خطاب عنصري وتحريضي، وعبر تدخّلات تشريعية وإجرائية قسرية وسياسات مُطارَدة وتجميع وترحيل رهيبة بحقّ البشر المُستهدفين نحو "معسكرات التركيز". لكنّ كثيراً من الأهوال توارت خلف أسوار تلك المعسكرات المحصّنة إلى لحظة اندحار النظام الهتلري، فانكشفت فصول مرعبة عن فظائع مورست في ظلال الشعار المُضلِّل المنصوب على واجهتها عن العمل والحرية "آربايْت ماخْت فراي". قبل ذلك ببضعة عقود كانت ألمانيا تقترف في إفريقيا إبادات جماعية ما زال كثير من الناس يجهلون فظائعها حتى اليوم؛ حتى بعد الاعتراف الرسمي الألماني المتأخِّر جداً بها، كما جرى في جنوب غرب أفريقيا الألمانية، أو ناميبيا اليوم، بحقّ شعبيْ هيرورو وناما خلال السنوات من 1904 حتى 1908.

بعيداً عن تعتيم الماضي على الأهوال الشنيعة؛ فإنّ ما يجري حالياً في قطاع غزة مبثوث بوضوح ومنقول مباشرة من الميدان عبر الشاشات والشبكات رغم منْع جيش الاحتلال الإسرائيلي دخول بعثات الصحافة العالمية إلى قطاع غزة.

انتهاكات وحشية

تجري في تلك الرقعة الضيقة من الأرض استباحة رهيبة لأرواح البشر وكرامتهم في زمن نضج فيه خطاب دولي ينبذ السياسات والممارسات الوحشية التي وَقَع التمادي فيها من قبل، وترتفع فيه مبادئ القانوني الدولي والشرعة لحقوق الإنسان، وتعمل فيه الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ومجلس حقوق الإنسان، وهيئات محاسبة دولية تتقدّمها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية علاوة على الفصْل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يمنح مجلس الأمن حق التدخّل العسكري. هكذا تتجلّى المغالطة الجسيمة في عقد مقارنة مع أهوال الأمس على أساس تحييد الزمن.

ما يتعيّن استيعابه أنّ فظائع الماضي إنْ جَرّبت الاشتغال في الحاضر قد لا تجد تطبيقات رهيبة مُطوّرة أفضل ممّا يقترفه برنامج الإبادة الجماعية في قطاع غزة تحت أسماع العالم وأبصاره، وقد تستخلص دليل عملها من السياسات والممارسات المنهجية التي يعتمدها قادة الحرب الإسرائيليين وسرديّات التبرير الدعائي التي اعتادوها لتسويغ كلّ الأهوال التي يقترفونها. ينبغي أن يُستنتج بالمنطق ذاته، أنّ فظائع الحاضر، مثل التي تجري في غزة، إنْ اقتُرفت في عهود خلت، بما فيها خلال الحرب العالمية الثانية، فستأتي حينها بأبعاد أكبر مما تجري به اليوم، لأنها ستتحرّر حينها من الكوابح القائمة حالياً، ولن تضطرّ بالتالي إلى تلفيق حبكات تبرير دعائية كالتي تلجأ إليها في القرن الحادي والعشرين.

إنّ أي فظاعة تُقترف اليوم منهجياً من قبل أنظمة حديثة، مثل دولة الاحتلال والإبادة وجيشها العصري المتطوّر المسمّى اختصاراً IDF، ينبغي تصنيفها ضمن الأهوال الجسيمة التي شهدها التاريخ الإنساني عموماً حتى وإن بدت شكلياً دون مستوى ما جرى في الماضي، فهي تُقترف اليوم رغم وجود كوابح متعدِّدة منصوبة في وجهها، فكيف ستبدو إنْ تحرّرت من هذه المُعيقات ووجدت السبيل سالكة أمامها لمزيد من اقتراف الموبقات الرهيبة على النحو الذي حظيت به إمبراطوريات ودول وأنظمة وجيوش في أزمان خلت.

لا غنى عن التنبيه إلى ذلك لأجل تنبيه الضمائر الحرّة في كلّ مكان إلى خطورة المدى الجسيم الذي ذهب إليه برنامج الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي، بحقّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، مستخدماً القتل الجماعي والتدمير الشامل وحرب التجويع والإفقار والإذلال، وكذلك الحرب البيولوجية والبيئية التي تقوم على افتعال واقع تنتشر فيه الأمراض والأوبئة والآفات والتلوّث. بكلمة أخرى، يتعيّن إدراك أنّ الفظائع الرهيبة في التاريخ البشري المتواصل ليست محسوبة على الماضي وحسب، ولا تأتي مشاهدها حصراً بالأبيض والأسود أو بصُوَر نادرة كما يحسب بعضهم، فقد تأتي مُلوّنة ومبثوثة على الهواء مباشرة من ميدان وقوعها أوّلاً بأوّل، وقد تتلاحق تفاصيلها الفاجعة تحت أنظار العالم بلا هوادة، وقد تقترفها دولة حديثة عبر سلطاتها الإدارية وجيشها العصري، وستجد حينها مَن يصعدون منابر الحديث أو يحضرون في حلقات النقاش بربطات عنق حريرية لتبريرها ولوْم ضحاياها.

من خطورة تحييد الزمن أيضاً، الغفلة عن حقيقة أنّ فظائع النصف الأول من القرن العشرين تحديداً مورِسَت في سياق حربيْن عالميّتين رهيبتيْن أساساً، حوّلتا العالم الحديث إلى أشلاء من عشرات ملايين البشر في مُدن الحُطام والرماد والأدخنة، أمّا الإبادة الجماعية في غزة فتجري في سياق تقوم فيه الحروب الحديثة بترشيد استخدام القوّة والدمار الشامل وتقتصد معه في سفك دماء المدنيين أيضاً، ما يقتضي تحاشي الاستغراق في عقد مقارنات ساذجة مع فظائع الماضي.

سباق مع الزمن

من المهمّ لإدراك خطورة الفظائع التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي، مستخدماً أسلحة وذخائر وتقنيات غربية، مراعاة التناسُب في فِعْل القتل والتدمير والتشريد والتجويع بالنظر إلى مساحة الرقعة الجغرافية الضيقة للغاية وكذلك التعداد السكاني الإجمالي المحدود ضمنها. فخلال قرابة سنتين من برنامج الإبادة الجماعية المتواصل قتل جيش الاحتلال وألحق جراحاً وإعاقات بعُشْر سكّان قطاع غزة على الأقلّ. وتُحذِّر الأمم المتحدة ووكالاتها الإنسانية من أنّ الجيش الإسرائيلي يقتل من أطفال قطاع غزة كلّ يوم ما يُعادل فصلاً مدرسياً كاملاً، دون أن تتدخّل أي قوّة دولية لوقف ذلك. وحتى لدى الاكتفاء بحصيلة القتلى المدنيين في قطاع غزة، أي بمعادلة قتْل 3 في المائة من السكان معظمهم من الأطفال والنساء، قتلاً مباشراً بالقذائف والرصاص، فإنّ ذلك يُقارب ببساطة فعل إبادة ثلث مليون إنسان في لندن أو مدينة نيويورك، أو نصف مليون من قاطني اسطنبول، أو ثلثي مليون من سكّان القاهرة، مع استمرار عدّاد القتل في التصاعُد بلا هوادة، مع مسح أكثر من 80 في المائة من الأحياء السكنية من الوجود. ولاشكّ أنّ استصحاب تقديرات الضحايا غير المباشرين، أي الذين فارقوا الحياة بسبب غياب الدواء والرعاية الصحية أو تحت تأثيرات الأطعمة الفاسدة والبيئة الملوّثة علاوة على آلاف المفقودين، سيقفز بالمؤشِّرات إلى مستويات رهيبة جداً في المقارنة.

تمتاز فظائع الحاضر الجارية في مسرح الإبادة الجماعية والتدمير الشامل والتجويع الرهيب بأنّها مُصوّرة ومحمولة إلى العالم على مدار الساعة طوال سنتين تقريباً من أرجاء قطاع غزة المسحوق سحقاً. فما المدى الذي كان سيبلغه نظام التوحّش الحديث هذا لو وُجِد قبل قرن من الزمن مثلاً؟

تُدرِك قيادة الاحتلال أنّه قد تأتّى لها، أو سُمِح لها بالأحرى، أن تقترف كلّ هذه الأهوال الرهيبة وهي مُقيّدة اليدين بمنطق العصر الحديث، المُسيّج قيمياً وأخلاقياً والمحروس أممياً بهيئات ومحاكم وأنظمة، والمُواكب بآليّات إضاءة كافية على الوقائع والممارسات. استأنفت القيادة الإسرائيلية حملة التطهير العرقي في فلسطين التي مورست قبل ثلاثة أرباع القرن (نكبة 1948) وهي تُسابق الزمن في محاولة إبرام حسم تاريخي في قطاع غزة والضفة الغربية بأساليب متعددة. وهي إذ تُدرِك معضلتها مع قيود الزمن الجديد فإنّها تحاول تحييده بتكريس حالة "الاستثناء الإسرائيلي" التي سُمِح لها بصفة مزمنة أن تتعالى على أنظمة المجتمع الدولي ومواثيقه، مستحضرة مزيجاً تلفيقياً من دور "الضحية الاستثنائية" التي يجوز لها ما لا يجوز لغيرها، واستدعاءات انتقائية من نصوص مُقدّسة تُقدّم بصفة تلفيقية كدليل عمل للإبادة لا يعبأ بمواثيق العصر الحديث والتزاماته، كما اعتاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ذاته أن يفعل. وإمعاناً في تحييد الزمن، وإرجاع عقاربه إلى منطق ساد في قرون سالفة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تتردّد القيادة الإسرائيلية بصفة متكرِّرة في تذكير الأمريكيين والأوروبيين بجرائم حرب سابقة اقترفتها دولهم حتى منتصف القرن العشرين. إنها حيلة رخيصة تبتغي الإسكات من جانب؛ وإظهار اتصال فظائع التجربة الاستعمارية المطوّرة في فلسطين بسياق غربيّ غرسها في هذه الرقعة من جانب آخر.

"ميدل إيست آي"

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه غزة الاحتلال غزة الاحتلال طوفان الاقصي قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة رياضة صحافة مقالات رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإبادة الجماعیة فی قطاع غزة

إقرأ أيضاً:

الجزائر تدين المخططات الصهيونية التي تستهدف مستقبل غزة

الثورة نت /..

أعربت الجزائر ، مساء اليوم السبت، عن إدانتها الشديدة ورفضها القاطع، للمخططات الصهيونية التي ترهن مستقبل قطاع غزة، ومستقبل فلسطين ومستقبل السلام في المنطقة برمتها.

دعت، في بيان نقلته وكالة الأنباء الجزائرية، المجتمع الدولي ومجلس الأمن الدولي الى تحمل المسؤوليات الملقاة على عاتقه لوضع حد لهذه المخططات ووقف جريمة الإبادة والتجويع التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ ما يقرب العامين.

وقال بيان صادر عن وزارة الشؤون الخارجية والجالية الجزائرية بالخارج والشؤون الإفريقية: “تثبت سلطة العدو الإسرائيلي عدم اكتراثها بإرادة المجتمع الدولي وقراراته, وهي تخطط لإعادة احتلال قطاع غزة، عسكريا وتهجير سكانه قسرا وعنوة”.

وشدد البيان الجزائري، “ضرورة الإسراع في التكفل بالأولويات الإغاثية الاستعجالية التي يفرضها الوضع الراهن, وفتح المعابر لإنقاذ سكان غزة المجوعين”.

وبدعم أميركي وأوروبي، يواصل جيش العدو الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر 2023، ارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة أسفرت عن استشهاد 61,369 مدنياً فلسطينياً، غالبيتهم من الأطفال والنساء، وإصابة 152,850 آخرين، حتى اليوم، في حصيلة غير نهائية، حيث لا يزال الآلاف من الضحايا تحت الركام وفي الطرقات لا تستطيع طواقم الإسعاف والإنقاذ الوصول إليهم.

مقالات مشابهة

  • غزة – إجمالي عدد شاحنات المساعدات التي دخلت خلال الـ15 الماضية
  • جنرال إسرائيلي: لماذا لم تُهزم حماس بعد كل الضربات التي تلقتها؟
  • "أونروا": الاحتلال يواصل إسكات الأصوات التي تبلغ عن الفظائع في غزة
  • باحثان: هذه 6 استراتيجيات تستخدمها واشنطن للتبرؤ من فظائع حلفائها
  • مبيعات الإسكندرية للأدوية تتخطي 2.7 مليار جنيه خلال العام المالي الماضي
  • فلسطين تطالب مجلس الأمن بتحرك عملي وفوري لوقف إبادة غزة
  • هروب من الواقع وصدمة في الزمن.. تفاصيل الحلقة الثانية من حكاية «فلاش باك».. صور
  • الجزائر تدين المخططات الصهيونية التي تستهدف مستقبل غزة
  • مصدر مسؤول في الحكومة السورية عن مؤتمر قسد: هذا المؤتمر خرق للاستحقاقات التي باشرت الحكومة السورية في تنفيذها بما في ذلك تشكيل هيئة العدالة الانتقالية وبدء أعمالها، ومسار الحوار الوطني الذي أطلقته الحكومة السورية في شباط الماضي والمستمر حتى إيصال البلاد إ