حوار - رحمة الكلبانية -

هل احتياجات المستهلك من تدفع عجلة الإنتاج؟ أم أن المنتج والعلامة التجارية يخلقان رغبات جديدة لم تكن موجودة من قبل؟ بين هذين المنظورين يمتد تاريخ طويل من التحولات الاقتصادية والثقافية، من اقتصاد يلبي الحاجات الأساسية فحسب، إلى عصر العلامات التجارية العابرة للحدود حيث تختلط الضرورة بالرغبة.

ولفتح أبواب نقاش أوسع حول ذلك، التقى «عمان الاقتصادي» حشر بن خميس المنذري، الرئيس التنفيذي لشركة العلامة للتسويق، الذي سيتتبع في الصفحات المقبلة رحلة الانتقال من نظرية «الطلب يخلق العرض» إلى عصرٍ يستطيع فيه التسويق صناعة الطلب قبل أن يتشكل في ذهن المستهلك، ويروي كيف أصبح معجون الأسنان، الذي لم يكن يومًا حاجة ملحة، جزءًا من العادات اليومية، وكيف تحوّلت بعض المنتجات إلى ما هو أبعد من وظيفتها الأساسية، لتغدو رموزًا لهوية اجتماعية وثقافية.

كما يتطرق المنذري إلى أخلاقيات المهنة، ودور التسويق في خدمة قضايا إنسانية ووطنية، مستشهدًا بتجارب حملات دعمت منصات الزكاة أو عززت حضور المنتجات المحلية في السوق العُمانية، ويشرح كذلك كيف غيّر عصر البيانات الضخمة قواعد اللعبة، ليصبح تحليل سلوك المستهلك أداة أساسية في قرارات الإنتاج والتوسع، وركيزة لا غنى عنها في المنافسة الاقتصادية المعاصرة.

************************************************************

كيف ترى التحول من نظرية (الطلب يخلق العرض) إلى الطرح الحديث الذي يقترح أن التسويق يخلق حاجات لم تكن موجودة في السياقين الاقتصادي والاستهلاكي؟

هناك قصة تروى عن هينري فورد صانع السيارات الأمريكي الشهير، قال: لو سألت الناس ماذا تريدون، لقالوا خيولا أسرع!

هناك جدل حول نسبة هذه الرواية لفورد، لكنها تعطيك لمحة عن إشكالية الفهم للعرض والطلب في عالم اليوم! فحتى لو بدأت من نظرية «الأيادي الخفية» لأبي الاقتصاد آدم سميث التي طرحها عام ١٧٧٦، فلن تستطيع تفسير التهافت على دمية «لابوبو» في عام ٢٠٢٥.

هناك سياق تاريخي طويل متصل بهذا السؤال، لا يمكن فصل التسويق عما حصل في الحضارة الإنسانية ككل. كان الإنسان الأول محدودا في جغرافيته، فينتج ويقايض ما يسد احتياجاته الأساسية فحسب، ولا يرى حاجة أبعد عما توفره منطقته الجغرافية، وهذا كان اقتصاد الكفاف. حصلت الطفرة بتطور وسائل النقل، حين سافر الإنسان للبعيد، أصبح يبيع منتجاته لأناس لا ينتجونها ليحصل على المال ليشتري منتجات لا ينتجها. وصولا إلى الثورة الصناعية التي مكنت شركات كبرى من إنتاج أكوام هائلة من المنتجات، فظهرت الحاجة إلى بيع هذه المنتجات بشكل أسرع لإنتاج غيرها حتى لا تتراكم البضائع، ولزيادة الأرباح. وهنا تم فصل الزبون عن عملية الإنتاج، فما يراه هو بضاعة على الرف، لكن أين زرعت؟ أو صنعت؟ ومن صنعها؟ وما ظروف صانعيها؟ طُمست تماما!

وهذا ما يطرحه باستفاضة أنتوني جاليزو في كتابه «صناعة المستهلك» والذي درس فيه هذه التحولات التي يقول عنها: «أصبحت البضاعة مغلقة بهالة من الجهل».

بعد ذلك ظهرت شركات وظيفتها البحث عن زبائن لهذه المنتجات، وهذه هي شركات التسويق. وهذه الشركات قدمت نصائحها، وقالت إن الزبون لا يعرف هذه الشركة التي اشترى منها، فلا يثق بها، ولا ضمانة لعودته، فظهرت الحاجة لعلامة تجارية مميزة لكل منتج.

وتحولت المتاجر من دكاكين إلى صالات عرض أشبه بالمتاحف الفاخرة، وعبرت المنتجات من دورها الوظيفي المجرد لإسقاطات رمزية وثقافية على من يقتنيها.

وهنا يكون السؤال: هل هدف هذه الشركات كان بحث احتياجات هؤلاء الزبائن أم إقناعهم بمنتجات جديدة تطرحها هذه الشركات؟ الجواب مختلط بين هذا وذاك. ولو أخذنا مثالا شهيرا في هذا الجانب وهو معجون الأسنان، الذي لم يكن يُنتج على نطاق واسع، ثم حين تم إشهاره بوسائل التسويق ظهرت الحاجة إليه حتى أصبح اليوم من العادات اليومية التي يمارسها الغالبية العظمى من البشر دون تفكير؛ فهل كان معجون الأسنان في المرة الأولى هو طلب خلق عرض؟ أم عرض لمنتج لم يكن في ذهن الزبون؟ وسؤال آخر: هل معجون الأسنان الآن، هدفه هو صحي فقط، أم أن له رمزية اجتماعية في الرائحة المنعشة للفم، أو ابتسامة لامعة بيضاء؟

في سيناريو مثالي تماما سأقول إن التسويق محرك للازدهار الاقتصادي. إن من مصلحة الجميع أن تتحرك تروس الماكينة الاقتصادية؛ لأن كل عملية شراء، أو استهلاك تسحب خلفها سلسلة طويلة من الإنتاج، والوظائف، والفرص، والنمو لقطاعات عريضة من البشر.

في الطرف الآخر يجب أن يكون لدينا الوعي الكافي بأسباب الصورة السلبية تجاه التسويق وأحدها بكل تأكيد طوفان الإنتاج، وتوسيع الاستهلاك. وممارسات التسويق ليست بريئة من ذلك، لكن علم التسويق هو حقل محايد، يمكن الاستفادة منه في مناحٍ كثيرة في الحياة غير الأرباح التجارية للشركات! ولذلك ظهر فرع مهم في التسويق هو التسويق الاجتماعي.

في إحدى تجاربنا التسويقية كان زبوننا هم وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، حيث وفرت الوزارة منصة لإخراج الزكاة رقميا بسهولة ويسر؛ فكان الهدف حملة تسويقية تعرّف الناس بالمنصة، وتذكّرهم بركن مهم من أركان الإسلام.

والأدلة كثيرة على المساحة الكبيرة التي يمكن أن يدخل فيها التسويق بنظرياته وتطبيقاته ليروج قيما، أو يعزز سلوكا، أو يحارب ممارسة سيئة.

************************************************************

لنرجع إلى أصل القصة، برأيك هل ما زالت الحاجات الإنسانية تحكم السوق، أم أصبح السوق هو من يخلق هذه الحاجات ويقنع المستهلك بها؟

كارل ماركس صاغ مصطلح «فتشية السلع» «Commodity Fetishism» في كتابه رأس المال الذي نشر عام ١٨٦٧م، والمصطلح يأتي كاستعارة من مفهوم أنثروبولوجي أو ديني، وهي إضفاء صفة السحر، أو القوى الروحية لغرض محسوس كحجر أو كائن ليعبد؛ وهنا يوجه ماركس انتقاده للرأسمالية في تقديمها للسلع كأصنام تضفى عليها صفات تفوق دورها المحسوس الوظيفي، وتلغي عملية الإنتاج والجهد المبذول في إيصال هذه البضاعة للزبون.

يقول الأستاذ الكبير نعوم تشومسكي: «المهمة الأساسية لصناعة الإعلانات هي ضمان أن يقوم المستهلكون غير المُطّلعين باتخاذ قرارات غير عقلانية».

وهذه فقط نماذج لطوفان من النقد الموجه للتسويق من قبل فلاسفة وكتّاب ومفكرين معتبرين، وأعتقد أن الأسباب عديدة، أحدها أن هذا النقد هو موجه للرأسمالية نفسها كنظام اقتصادي واجتماعي بكل عيوبه وخطاياه، وربما لأن التسويق هو حبة الكرز الأجمل فوق هذا النظام. ولأسباب تاريخية أيضا، أن هذا العلم وضعت أطره المهنية، والأكاديمية في المدرسة الغربية وأسواقها وصولا لما نتلقفه طلابا في الجامعات، أو مهنيين في السوق.

ولكن هذا النقد غالبا يأتي من حقول غير حقول التسويق والأعمال التجارية، وإنما من حقول الفلسفة، والنقد الثقافي وعلم الاجتماع، وأنا شخصيا أرى أن هذا النقد مهم ومعتبر وله دوافعه الجديرة بالدراسة، ولكن أيضا هي صورة ناقصة لأنها لا ترى الصورة الكلية.

لكن أحد المسوقين لم يصمت وردَّ على نعوم تشومسكي، وهو الصديق أحمد أبو زناد، الذي كتب كتابه «Adman vs. Chomsky» «رجل الإعلان في مواجهة نعوم تشومسكي»، أبو زناد استعار العديد من الدراسات في سلوك المستهلك، وعلم النفس، والاقتصاد السلوكي، ليحاجج تشومسكي. أورد أبو زناد نظرية «Information Asymmetry» «مفهوم عدم تماثل المعلومات» لجورج أكيرلوف، ومختصرها أن جهل المستهلكين بالمعلومات عن المنتج يؤدي لإحجامهم عن الشراء، والنتيجة النهائية هي انسحاب المنتجات الجيدة من السوق، وأيضا أن التسويق والإعلان يساعدان المستهلك على صناعة القرار، ويختصران عليه الكثير من عمليات البحث والمقارنة.

أبو زناد أرسل كتابه لتشومسكي، وصار ما بينهما أخذ ورد في ٤٠ رسالة إلكترونية، وتشومسكي عقل متمرد، ومجادل عتيد، لكنه اتّفق مع أبو زناد أن استخدامه لكلمة «المهمة الأساسية» في عبارته الشهيرة هو استخدام غير دقيق.

إذن القضية ليست فقط في نقد التسويق كإعلانات تغمر الشوارع أو على الهواتف، هناك صراعات فكرية وثقافية وحتى سياسية كبيرة تشد وتجذب هذه القضية.

وهنا أستحضر مثالا آخر شهيرا في عالم التسويق، كان بطله ميخائيل جورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، حيث ظهر عام ١٩٩٧ في إعلان لبيتزا هت تم تصويره في موسكو، يبدأ الإعلان بصورة الكرملين يمشي أمامه جورباتشوف مع حفيدته، ثم يدخلان لمطعم بيتزا هت، يعرفه الناس فيبدأ جدال في طاولة عائلة روسية، فيقول أحدهم إن بسببه صارت الفوضى الاقتصادية، ليرد الآخر، أن بسببه صارت لدينا حرية، فيحتدم النقاش ثم تحسمه الجدة بقولها: بسببه صار لدينا بيتزا هت، يضحك الجميع ويهتفون لجورباتشوف، ثم يظهر شعار بيتزا هت مع التعليق: لا شيء يجمع الناس مثل بيتزا ساخنة وشهية مثل بيتزا هت!

إن هذا الإعلان لا يخلو من رمزيات سياسية، إنها البوابة التي دخلت منها الكثير من المنتجات والعلامات الأجنبية الغربية إلى روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. هل كان المواطن الروسي فعلا يحتاج لهذه المنتجات أم يرغب في تجريبها؟

************************************************************

لو طلبنا منك أن تعيد تعريف «الحاجة» في ظل ما نعيشه من مستجدات، كيف ستعرّفها؟

التسويق علم متداخل مع باقي العلوم، وعند الحديث عن الحاجة والرغبة فلا يمكن إغفال «هرم ماسلو» الذي وضعه عالم النفس إبراهام ماسلو عام ١٩٤٣م، والذي يبيّن فيه دوافع الإنسان من الاحتياجات الأساسية لبقائه وصولا لطموحاته العليا. قاعدة الهرم السفلى تكون الاحتياجات الفسيولوجية للإنسان الطعام، والشراب، والنوم، بعدها يأتي الانتماء، ثم التقدير، ثم تحقيق الذات. وهنا يتم إسقاط الحاجات والرغبات على قرارات الإنسان؛ فأنت تحتاج بكل تأكيد الماء لتروي عطشك فهي حاجة، ولكن إن اشترطت أن تكون مياه معدنية في علبة زجاجية من ينابيع طبيعية بنسبة صفر صوديوم فهذه رغبة، بمعنى آخر أنت تذهب لإشباع احتياجاتك أولا، ثم تمضي إلى تحقيق رغبات أعلى.

لكن هذا لا يعني أن تصادفك قصص صادمة، فقبل سنوات قليلة قام مراهق صيني ببيع كليته ليشتري جهاز هاتف آيفون جديد، وعندما عاد إلى منزله اكتشفت والدته الأمر فانهارت، ولأنه أجرى العملية في ظروف غير صحية كونها ممارسة غير قانونية تأثرت كليته المتبقية وأصيب بقصور كلوي جعله طريح الفراش بشكل دائم.

قد لا تكون كل قصص الاستلاب لبريق العلامات التجارية، ورسائل الوسائط الإعلانية بالسوداوية ذاتها، ولكن هذا الطوفان من التشييء واضح تماما ويتنامى بسرعة، لكن التسويق مجرد وسيط يُستخدم مثلما تستخدم وسائط أخرى.

فربما نحتاج إلى جهة تتبنّى استراتيجيات تسويقية وحملات إعلانية تكافح الانسياق الأعمى خلف الحملات الإعلانية، هذا إلى جانب منظومة قوانين وتشريعات تضع حدودا قانونية لممارسات خاطئة في عالم التسويق والإعلان؛ فمثلا الإعلانات المضللة، أو الحملات التي تستهدف الأطفال، أو تشيع العنصرية، أو تروج للمحظورات، لا يمكن أن تكون وجهات نظر.

************************************************************

وما الفرق بين خلق الحاجة الحقيقية وخلق الرغبة العاطفية؟ وهل من أخلاقيات تحكم ذلك؟

يقال إن الأخلاقيين يصفون العالم كما يجب أن يكون، بينما يصف الاقتصاديون الواقع كما هو! وأنا هنا لا أبرر لشيء ما، ولكنني أتمنى أن أكون متوازنا، بين مسوق شغوف بقطاعه من رأسه حتى أخمص قدميه، ومسؤوليتي الأخلاقية كإنسان ومواطن وأب!

في عام ٢٠٢١ عُثر في إندونيسيا على ما يعد أقدم رسم بشري في التاريخ داخل أحد الكهوف، نقشٌ يصل عمره لأكثر من ٤٠ ألف سنة. وهنا السؤال ما الذي حدا بذلك الإنسان الذي كان مهتما بالصيد وحماية نفسه من المفترسات لأن يبذل جهدا ووقتا في رسم هذه اللوحة!

ولماذا نذهب بعيدا، عام ٢٠١٨ تم اكتشاف لقى أثرية في بلدة قميرا بولاية ضنك، تعود للألفية الثانية قبل الميلاد، بعضها أدوات فخارية تظهر فيها حرفة فنية عالية في الرسم والتنفيذ. وهنا السؤال أيضا لماذا قضى أجدادنا الأوائل وقتا إضافيا في تزيين أدوات من المفترض أن لها غرضا وظيفيا محددا؟!

ربما ذلك الإنسان لم يكن يحكي قصته لمن حوله فحسب، لكنها رسالة يبثها في عروق التاريخ ليضفي لقصته معنى أكبر! هذا هو الفرق بين الإنسان وباقي الكائنات! أن علاقاته وقراراته ليست مادية وظيفية بحتة، بل تحمل معاني مشتركة بين الإنسان وما حوله، حتى الطعام الذي يأكله أو السلع التي يستهلكها.

بل الأكثر من ذلك، أن المنتجات والعلامات التجارية أصبحت تتقاسم شيئا من هوية المستهلك. في الحقيقة أنت لا ترتدي قميصا يسترك أو يقيك العوامل البيئية فحسب، بل أيضا يوصل رسالة عنك. كل السيارات تنقلك من النقطة أ إلى النقطة ب، لكن هناك مشاعر وعواطف وتوقعات تنطبع بالتسويق والتجارب مع منتج معين أو علامة تجارية شهيرة. وهذه الأخيرة غيّرت قوانين اللعبة في التسويق، إنه «سحر العلامات التجارية».

والعلامة التجارية لم تعد وسما على مواشٍ لنميزها ونؤكد ملكيتها، إنها حبكة تفهم عالم الأعمال والإنسان على حد سواء، هندسة رمزية لتضفي ارتباطات ثقافية واجتماعية، ووعد غير مكتوب بمستوى معين من التوقعات.

قد يرى البعض أن هذا التيار رومانسي يخدم أجندة الشركات الكبرى، ولكن الإنسان كان دائما مغرما بهذه المعاني، لماذا كانت حضارات العالم القديم تستورد اللبان وهو منتج عطري لا يدخل في الغذاء أو الكساء الضروري للحياة! وسواء لطقوس دينية أو للبحث عن مكانة اجتماعية، أو غيره، الحقيقة أن هناك شيئا يتعدى الوظيفة المجردة للمنتج. هذه الحالة العاطفية لا يمكن إلغاؤها لأنها متأصلة في الإنسان وهو يعبر عنها بكل الطرق وإحداها المنتجات التي يقتنيها.

************************************************************

هل تعتقد أن الناس اليوم يعرفون ما يحتاجونه فعلا، أم أن التسويق صار أكثر تأثيرا من إدراكهم الشخصي؟

في مشهد شهير من المسلسل الأمريكي «ماد مان» والذي يسرد تاريخ صناعة الدعاية والإعلان في جادة مادسون منهاتن في نيويورك خلال حقبة الخمسينيات والستينيات الميلادية، جاءت عبارة على لسان بطل المسلسل دون دريبر: «السعادة هي رائحة السيارة الجديدة، هي أن تتحرر من خوفك، هي إعلان في لوحة على الشارع الرئيسي يقول لك إن كل شيء على ما يرام».

طبعا لمن تابع هذا المسلسل يفهم الدور الذي أدّته شركات الدعاية والإعلان في إعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان والمنتجات، لكن لا يمكن فصل ذلك عن كل السياقات الاجتماعية التي صاحبت ذلك.

على سبيل المثال حين خرجت المرأة للعمل في القطاعات التجارية والصناعية، هذا أوجد قوة شرائية جديدة في المنزل، لكن في الوقت ذاته أوجدت فراغا بشكل أو بآخر، وأصبح من الصعب على المرأة أن تحضّر العشاء لأسرتها. لكن ظهر الحل، الطعام المجمد الجاهز، والذي تضعه في الفرن مباشرة وخلال دقائق يصبح جاهزا للأكل على سُفرة العائلة. هل التسويق من صاغ هذا التحول الاجتماعي من أساسه؟ لا أعتقد، ولكن بكل تأكيد ساهم التسويق في رسم المشهد.

هل حقا نشعر بسعادة عندما نشتري شيئا جديدا؟ قد نجد الجواب في كتاب متميز وهو «علامات السيروتونين»، للكاتب العماني مظفر الصارمي وفيه يتحدث مظفر عن هرمونات الدماغ المسؤولة عن السعادة نتيجة الشراء والتملك. عندما تشتري سيارة جديدة، فإن هرمون الدوبامين يعطيك إحساس النشوة والتحفيز، وعندما تشعر بأن مكانتك الاجتماعية تعززت بهذا الشراء، فهنا يعمل هرمون السيروتونين في علاقة عاطفية يتم تطبيعها مع العلامة الجديدة لهذه السيارة والتي أصبحت تقاسمك شيئا من شخصيتها. يجب أن نفهم هذا لندرك قوة التسويق والإعلان والعلامات التجارية.

وأنا لا أحاول أن أكون المحامي عن الممارسات السلبية في التسويق، فبعد طوفان الشبكات الاجتماعية، وظهور «الترند» لا يمكن أن نغفل القانون الجديد «الانسجام الاجتماعي أهم من التفضيل الشخصي» على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، ربما تتبنّى الكثير من الجماهير صيحة معيّنة ليس لأنها معجبة بها، أو مقتنع فيها، بل لرغبة في التماهي الاجتماعي.

في تجربتك مع السوق العماني، هل وجدت المستهلك يقاوم التسويق العاطفي إلى حد ما؟ أم أن «التأثير النفسي» هو المحرك الأقوى هنا؟

من الصعب اليوم عزل المستهلك في أي بلد عن المستهلك العالمي، إنها لغة جديدة عابرة لكل الحدود، وعُمان ليست استثناءً. هناك علامات تجارية عالمية فرضت حضورها على جماهير واسعة في كل الدول في قطاعات الطعام، الرياضة، السيارات، الترفيه وغيرها. لكن ربما العواطف التي تحرك العُمانيين لها محددات مختلفة عن العواطف التي تحرك شعوبا أخرى. في بداية الحرب على غزة، قاد العمانيون حملات لمقاطعة شركات عالمية لأنها تعاطفت مع جيش الاحتلال الإسرائيلي. جزء كبير من مجد هذه العلامات التجارية العالمية تقوض في أيام نتيجة موقف سياسي أو تضامن عاطفي أبداه العمانيون. ووجدت شخصيا أن العديد من مقاهي القهوة في عُمان تضع خريطة فلسطين ورسمة حنظلة على أكوابها. وانحازت شريحة كبيرة من المستهلكين في عُمان إلى علامات تجارية محلية صغيرة متخلين عن علامات تجارية عالمية شهيرة.

وهذا ما يعد فرصة في إرساء ثقافة جديدة، مفادها أن ندعم منتجاتنا الوطنية ومشاريعنا المحلية لصالح أجنداتنا الوطنية. لا أرى أي مثلبة في أن نسوّق هذه العواطف، لأنها حقيقة، ولأنها تعود بالنفع علينا جميعا كأسواق ومجتمعات.

ففي السياق نفسه ينبهر العمانيون بكل ما هو عماني في العديد من المنتجات، فالعسل العماني، واللحم العماني، والحليب العماني، واللبان العماني، وغيرها إشارات واشتراطات تعني الجودة والثقة.

وقد ساهم التسويق بكل تأكيد في وصول علامات تجارية عمانية إلى العالمية في قطاعات الطاقة، والكهرباء، والعطور، وغيرها.

لننظر لجانب أكثر إشراقًا الآن، من خلال تجربتك.. هل يساهم التسويق في دعم المشاريع الاقتصادية من حيث تحريك السوق وتنشيط النمو، حتى في غياب طلب واضح؟

هل الجمهور المستهدف دائما على وعي بمنتجك أو علامتك التجارية؟ بالطبع لا. ربما يكون لديك منتج عظيم ولكن لم يسمع أحد به. أما أن المنتج الجيد يبيع نفسه، فهذه خرافة لا تنطبق على معظم القطاعات، وأنا في عملي أقابل كل يوم مشاريع ممتازة تنهار لأنها لم تحظ بالتسويق الجيد.

لا أتكلم هنا على مستوى المنتجات والخدمات الاستهلاكية بل أتكلم على مستوى قطاعات بأسرها. أعتقد أنني كنت محظوظا لأكون ضمن الفريق الذي عمل على الهُوية الترويجية الموحدة لسلطنة عُمان، وقد قام فريق المشروع بعمل استبيان عالمي حول التصورات عن سلطنة عُمان، وكانت النتائج تقول إن هناك نقصا في إشهارنا لمزايا عُمان وفرصها في عدد من القطاعات. لكن المفرح حقا أن الغالبية العظمى ممن زاروا السلطنة في قطاع السياحة مثلا كانت تجربتهم متميزة ويعطون سلطنة عُمان انطباعات أفضل عما يعطيه أقرانهم الذين زاروا دولا قريبة منا. هنا يعني أن لدينا منتجا متميزا في هذا القطاع، ولكن يجب أن نسوّق له، ونعلن عنه للجماهير التي لم تسمع به بعد، والتي لا تدرك أن هناك تجربة مثرية تنتظرهم.

************************************************************

تقاس اليوم الكثير من قرارات الإنتاج والتوسع بناءً على تحليلات سلوك المستهلك الرقمية.. هل هذا التوجه يعطي صورة دقيقة عن الواقع الاقتصادي أم قد يكون مضللا؟

هناك كتاب شهير للكتاب سيث ستفينز بعنوان «الكل يكذب» فكرته باختصار بأن الناس يكذبون أو ينمقون ردودهم في الاستبيانات أو أثناء المقابلات، أو حتى في أحاديثهم اليومية، لكن كلمات بحثهم التي يضعونها في محركات البحث على شبكة الإنترنت تفضحهم. ففي المقابلات العلنية يغلب على الناس الخجل، أو الخوف من الحكم الاجتماعي، لكن حين يبحثون على الإنترنت يكتبون ما يريدون الحصول عليه بشكل حقيقي.

يقول أحد المسوقين إن أمنيتنا أن نضع كاميرات مراقبة للمستهلكين في منازلهم حتى نرى كيف يستهلكون منتجاتنا لنستهدفهم بشكل أفضل. في الحقيقة أن هذا حاصل في عالم اليوم من خلال الشاشات والإنترنت بين أيدينا. بكل تأكيد قد جربت أن تبحث عن غرفة في فندق لرحلة ما، وبعدها تنهمر عليك الإعلانات عن غرف مشابهة في البلد ذاته، وبعدها سيارة للإيجار في البلد ذاته، وبعدها مطاعم ثم مقاهٍ. إنه علم البيانات الذي أصبح اليوم اقتصادا مهما لا يمكن أبدا إغفاله. يتنامى هذا الواقع حين تعرف أن هناك سماسرة للبيانات وأن الشركات الكبرى تبيع لبعضها بيانات مستخدميها لتضع لهم منتجات جديدة.

إذن الواقع هنا أن من لا يستخدم هذه البيانات في قطاع التسويق، أو صناعة السياسات العامة، أو الابتكار فلن يستطيع أبدا مجاراة هذا الواقع العالمي والتحولات الحاصلة فيه.

هل هذا أخلاقي؟ أو حتى قانوني؟ ربما هذا نقاش آخر يطول، ولكن كل شخص يتحمّل مسؤولية شخصية تجاه مناعته وقدرته على الاختيار في ظل كل هذه البهرجة البراقة للسلع والمنتجات.

جاء في موطأ الإمام مالك عن جابر بن عبدالله: رأى عمر بن الخطاب لحمًا معلقًا بيدي، فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: اشتهيت لحمًا فاشتريته فقال: أو كلما اشتهيتَ اشتريتَ يا جابر!

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العلامات التجاریة علامات تجاریة معجون الأسنان بکل تأکید الکثیر من بیتزا هت فی عالم لا یمکن یجب أن أن هذا لم یکن

إقرأ أيضاً:

وفيات الثلاثاء .. 12 / 8 / 2025

#سواليف

#وفيات الثلاثاء .. 12 / 8 / 2025

خضرة مفلح ابو خير القطيشات
العميد المتقاعد عبد اللطيف العساف
الحاجة نوال عبيدالله الغنيمات
نوال سعيد علي منصور ملكاوي
المهندس خالد عبد المهدي النوايسة
فاطمة محمد موسى الحياصات
الحاجة عائشة علي السالم الرحاحلة
فارس نجل النائب مجحم الصقور
عبدالله الطيراوي

علي حسني سعيد العوراني

مقالات ذات صلة وفيات الاثنين .. 11 / 8 / 2025 2025/08/11

يوسف صالح المغربي

ليلى نصر صالح الجوهري

محمد صلاح الخصاونة

جيهان محمود عبدالرزاق صيام

سليمان سليم يونس سويدان

فرح زواد عيسى حتر

احمد سلمان المرعي

فريدة شحدة الأزعر

فيصل جميل فاضل المساعفة

إنا لله وإنا إليه راجعون..

مقالات مشابهة

  • افتتاحية: صناعة الحاجة
  • الرأسمالية والفصام والرغبات البشرية
  • المنفعة العامة.. يدٌ دافئة في ليل الحاجة
  • هذا ما فعله المعتدون بعمي موسى..ضحية اعتداء أم البواقي يروي القصة الحقيقية
  • الاعتداء على مسِن في أم البواقي..عمي موسى يروي القصة الحقيقية
  • وفيات الثلاثاء .. 12 / 8 / 2025
  • مياه الأقصر تواصل تدريب شباب إسنا على مهارات التسويق الرقمي
  • الخضيري يحذر من مخاطر الحلويات التجارية ومكوناتها الضارة على الصحة
  • الفريق ربيع يلتقي رئيس التمثيل التجاري المصري لبحث سبل التعاون في مجال التسويق الخارجي