بوابة الوفد:
2025-12-15@03:19:08 GMT

دور المثقف بين الأغلبية وديناميكية القطيع

تاريخ النشر: 5th, September 2025 GMT

لا يُقاس وعي الشعوب بعدد الأصوات المرتفعة ولا بحجم الحشود، بل بقدرتها على التفكير النقدي ومراجعة ما يُعرض عليها. وهنا يتجلى دور المثقف، فهو العين التي ترى أبعد مما تراه الأغلبية، والضمير الذي يذكّر المجتمع بخطورة الانسياق وراء ديناميكية القطيع، حيث يتحول الإجماع إلى قوة عمياء تدفع الجميع في اتجاه واحد، حتى وإن كان ذلك الطريق يقود إلى الهاوية.

ديناميكية القطيع ليست ظاهرة سطحية، بل هي آلية نفسية واجتماعية تتجذر في سلوك البشر. الفرد حين يجد نفسه داخل جماعة ضخمة، يميل إلى الانصياع لا لأن الفكرة صحيحة، بل لأن مخالفة الأغلبية تُشعره بالعزلة والخوف. من هنا يبدأ العقل في التنازل عن دوره، ويتحوّل الإنسان إلى تابع صامت.

لقد برهنت تجارب التاريخ أن الأغلبية قد تخطئ بل وتضلّل نفسها. أمم اندفعت إلى الحروب بدافع الحماسة الجمعية، وأخرى صدّقت الزعامات المستبدة تحت وهم الإجماع الشعبي، فانتهت إلى فقدان الحرية. حتى في الاقتصاد والفكر، كثيرًا ما قادت موجات الأغلبية إلى انهيارات لا إلى نهضات.

هنا يظهر دور المثقف الحقيقي: أن يقاوم صخب الحشود، وأن يضع أمام المجتمع مرآة صادقة تكشف ما يحاول تجاهله. إنه ليس من يسعى وراء التصفيق أو يلهث لإرضاء الجمهور، بل من يوقظ العقل الفردي، ويذكّر الناس أن الحقيقة لا تُقاس بالعدد، بل بالوعي.

في بعدها الفلسفي، فإن مقاومة القطيع تعني حماية جوهر الإنسان من الذوبان. فالحرية ليست أن أقول ما يقوله الجميع، بل أن أملك الشجاعة لأفكر وأختار حتى لو كنت وحيدًا. وهنا يكمن الدور الأخطر للمثقف: أن يظل صوتًا مضادًا حين يسود الصمت، وأن يحفظ للإنسان استقلاله الفكري كشرط لنجاة الجماعة كلها.

الخلاصة أن المجتمعات لا تنهض بالأغلبية الصاخبة، بل بالأقلية الواعية التي ترفض الاستسلام لديناميكية القطيع. والمثقف الحقّ هو القادر على أن يقود هذه الأقلية، لا لمجرد المخالفة، بل لصون العقل من الاستبداد الجماعي، وحماية المستقبل من أخطاء الحاضر.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: دور المثقف

إقرأ أيضاً:

الفلسفة ليست ترفًا… بل مقاومة يومية ضد التفاهة

نعيش في زمن تُهيمن عليه السرعة، اللحظة الخاطفة، المحتوى الخفيف، والصوت الأعلى لا الأعمق. زمنٌ تتقدّم فيه التفاهة بثقة، وتُصبح «الترندات» معيار القيمة، ويقاس الإنسان بما يقدّمه من ترفيه لا بما يصنعه من معنى. وربما وأنت تقرأ هذا الآن، يا صديقي، تشعر أن المشهد مألوف أكثر مما ينبغي. في عالم كهذا، يبدو التفكير الفلسفي كأنه فعل خارج السياق... أو هكذا يُراد له أن يكون. لكن الحقيقة، يا عزيزي، أن الفلسفة اليوم ليست رفاهية، بل فعل مقاومة.
الفلسفة في جوهرها ليست كلامًا معقّدًا، بل قدرة على التوقف حين يركض الجميع، وعلى التفكير حين يكتفي الآخرون بالتلقي، وعلى رؤية ما وراء الضجيج. وأنت تعلم، يا صديقي، أن التفاهة لا تنتصر بالقوة، بل بالهيمنة على الوعي، عبر محتوى سريع يلهيك عن السؤال. وهنا تظهر الفلسفة في صورتها الأجمل: شجاعة السؤال في زمن يكره الأسئلة.
الفلسفة تُعلّم الإنسان ألا يبتلع ما يُقدَّم له دون تساؤل، وألا ينساق خلف الرائج فقط لأنه شائع. وربما توقفتَ هنا لحظة، يا عزيزي، لتفكر في كمّ الأفكار التي مرّت عليك دون فحص. التفاهة تُحب النسخ، أما الفلسفة فتُقدّس الفرد. التفاهة تشغلك، والفلسفة تُصغي لك. التفاهة تمنحك متعة عابرة، بينما الفلسفة تمنحك معنى يبقى.
كما تكشف الفلسفة كيف تُصنع الرغبات، وكيف يتحوّل الإنسان إلى مستهلك للمحتوى بدل أن يكون صانعًا لمعناه. وربما هنا، يا صديقي، تبدأ الأسئلة الحقيقية. إنّها تُعيد الإنسان إلى موقعه الأصلي: كائن يفكّر لا كائن يُقاد. الفلسفة ليست معركة ضد أحد، بل معركة مع النفس؛ لاستعادة الوعي من قبضة الضجيج.
وحين نفهم هذا، نكتشف أن الفلسفة في زمن التفاهة تشبه إشعال شمعة في غرفة مزدحمة بالضوضاء؛ لن تطرد الظلام، لكنها تمنحك رؤية. وربما، يا عزيزي، كل ما نحتاجه اليوم هو هذه المساحة الصغيرة. فهي ليست دعوة للانعزال، بل لاستخدام العقل وسط الزحام، ولتذوّق الحياة ببطء حين يصبح كل شيء سريعًا.

إن مقاومة التفاهة لا تتم بالرفض فقط، بل بالفعل: بأن نقرأ بعمق، نفكر بصدق، ونتأمل بوعي. وربما توافقني، يا صديقي، أن الفلسفة لا تجعل العالم أهدأ، لكنها تجعلنا أقل هشاشة أمام الضجيج.
وفي النهاية، حين نقف في وجه التفاهة، نحن لا نحارب العالم، بل نحمي ذواتنا. وحين نختار الفلسفة، نختار أن نكون أعمق من السطح، وأوعى من كل ما يحاول أن يسحبنا إلى الأسفل.
الفلسفة ليست نظرية... إنها مقاومة.
كاتب في السرديات الثقافية وقضايا الشرق الأوسط
[email protected]

مقالات مشابهة

  • حقوق الإنسان كما تُمارس في عُمان
  • 3 أمور ترفع قدرك عند الله.. مركز الأزهر يوضح
  •  خبيرة اقتصادية: 70% من قراراتنا الشرائية تعتمد على العاطفة وليس العقل
  • الفلسفة ليست ترفًا… بل مقاومة يومية ضد التفاهة
  • نهم السؤال وظمأ الذات
  • حقوق الإنسان: قمع تظاهرات الشرش في البصرة يدفع نحو تعليق عمل الحكومة
  • علي جمعة: باب التوبة مفتوح ما لم يغرغر الإنسان
  • خمسُ كاملاتٍ أوقفتْ المعجزات
  • أســــــود..
  • رسالة اللاغفران.. جحيم المثقف العربي وتكسير أصنام الثقافة