المؤسسة العسكرية والافتقار إلى الحس الوطني

خالد فضل

أثارت تصريحات وزير الخارجية القطري السابق اللغط، بوصفه للقيادات العسكرية السودانية بالافتقار إلى الحس الوطني والخضوع لتأثيرات خارجية قادت إلى تدمير بلادهم.

لمس الوزير القطري عصباً حساساً في التوليفة السودانية الهشة، وفتح باباً للتأمل الجاد فيما آلت إليه الأوضاع في بلادنا.

ومن اللهوجة التصدي العاطفي العاطل عن أي تفكير نقدي فيما قال، بل الصواب عندي أن نأخذ ما قاله باعتباره شهادة من خارج الصندوق، وقراءة من شخص تولى حقيبة الخارجية في بلد اتسمت علاقاته بالحكومة السودانية بالثبات والاستقرار في معظم العهود التي تولت السلطة.

والحقيقة الثابتة أن المؤسسة العسكرية قد تولت الحكم لمدة ستين سنة من أصل سبعين سنة هي عمر البلد المستقل، لهذا لا يمكن الفصل بين تاريخ المؤسسة العسكرية السودانية والحكم.

في الواقع يبقى المدنيون سواء أكانوا من فئات التنظيميين الحزبيين أو التكنوقراط المستقلين مجرد توابع لحكم القائد العسكري الفرد، وفردانية القائد نفسها ليس لخصائص شخصية بل للتراتبية العسكرية التي تجعله فرداً. ومن ثم ينتقل بتلك الفردانية المهنية إلى دست السلطة، ليس متوقعاً منه بهذه الوضعية أن يصير ديمقراطياً على كل حال، وهذا بالضبط هو سبب رفض ومقاومة الحكم العسكري من جانب القوى المدنية الحية في المجتمع السوداني.

إنّ الافتقار إلى الحس الوطني والمساهمة في تدمير البلاد وإهدار مواردها البشرية والمادية وتمزيق وحدة ترابها وتشتيت شعوبها وغيرها من ممارسات ضارة ببناء الدولة الحديثة ارتبط بصورة وثيقة بنوع الحكم في السودان، تلك وقائع وليس تحليلاً يخطئ ويصيب. ففي الفترات القصيرة التي آل فيها الحكم للمدنيين، تركزت جهودهم كلها في محاولات لإصلاح الأعطاب التي ورثوها من أسلافهم العسكريين، وقبل أن تكتمل عملية الإصلاح يقفز أحد العسكريين مرة أخرى ليخرب ما بدأ إصلاحه ثم يضيف إليه تخريبه لباقي الجسد السليم وهكذا استمر الانحدار التاريخي في الدولة السودانية حتى بلغت الآن مرحلة السيولة والتلاشي.

الافتقار إلى الحس الوطني ليس شتيمة بالمناسبة، بل هو إشارة إلى خلل في  نمط التفكير في كيفية إدارة الشأن العام وشؤون الحكم في بلد يمتاز مجتمعه البشري بتعدد وتنوع مشهود. نجد مثلاً أن ألعاب الأطفال في الرياض أو البيت تشتمل على مكعبات متعددة الألوان مع وجود رسومات لأشكال هندسية يحاكيها الطفل لتنمية حساسية التنسيق في تركيب وإدارة هذه التعددية للوصول إلى نسق متجانس وجميل. ولعل هذه من أول خطوات التعليم والتدريب للإنسان في التعود على وجود تعددية في الحياة. وهذه بالضبط هي قيمة وميزة النظام الديمقراطي، فهو ليس أفضل نظام بل لا يوجد أفضل منه حتى الآن كما نسب القول إلى ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الأسبق.

إنّ التدريب العسكري يقوم على فرضية واحدة، الأمر والطاعة، ليس هناك فرصة للنقاش وإن كانت الأوامر خطأ، من يخالف الأوامر الخاطئة ويفعل الصواب يحاسب على خطأ مخالفة الأوامر ولا يثاب على الصواب. ولعلنا نذكر واقعة محاسبة العسكريين المرحوم الملازم محمد صديق وحامد الجامد، بسبب عصيانهما للأوامر وانحيازهما لحماية المتظاهرين السلميين ضد اعتداءات عناصر جهاز الأمن أمام بوابات القيادة العامة للجيش في يوم 6 أبريل 2019م. لقد امتلأت مشاعر الضابطين بالروح الوطنية في تلك اللحظة التاريخية، فيما افتقرت قيادتهما لها. أو على الأقل رجحت التراتبية والأوامر العسكرية على الشعور الوطني، وهذا يقود بدوره للسؤال عن العقيدة المعنوية والتربية لأفراد المؤسسة العسكرية وتجاذبها الواضح بين الانحياز الوطني السليم والخضوع لسوء التقدير الناجم عن الانضباط العسكري وموجباته، ولأن هذا الموضوع يغوص عميقاً في تكوين المؤسسة وظروف تكوينها في الأساس كحامية للسلطة والحكم وليس حماية للشعب. من هنا ربما نشأ هذا التكالب العقيم على الاستيلاء على السلطة ليس باعتباره واجباً وطنياً تحتمه الظروف الموضوعية بل كحق مكتسب لتلك المؤسسة.

في الحالات الأربع التي استولى فيها ضباط المؤسسة العسكرية على الحكم لم تكن المسوغات الوطنية قوية ولازمة لهذه الدرجة. والتاريخ مبذول لمن يريد أن يعرف الحقائق، وملابسات ما قبل 17 نوفمبر أو 25 مايو أو 30 يونيو أو 25 أكتوبر بسنواتها المختلفة حاضرة ولها شهود كثر ما يزالون أحياء. النتيجة لعمليات السطو العسكري على السلطة ونزعها من بين يدي المدنيين قادت إلى كوارث وطنية أودت على أيامنا هذه بالدولة السودانية. فمن مدخل معالجة قضية الحرب في الجنوب وخطة الأراضي المحروقة في أيام الجنرال عبود إلى خطة استئصال وإبادة الحواضن الاجتماعية والقبائل التي ترفد الدعم السريع بالمقاتلين اليوم يبدو الافتقار إلى الحس الوطني سمة بارزة في التعامل مع مفهوم الدولة الوطنية واعتبار شعوبها جميعهم ضمن سياقها دون تمييز بسبب الدين والعرق والجهة والتوجه السياسي بما في ذلك التمرد أو الموالاة. فالحقيقة أن الدولة على يدي الحكام العسكريين لم تقم على مبادئ حقوق الإنسان وحريته وحر اختياراته بل قامت على مبدأ القهر والتسلط وفرض رؤية الحاكم العسكري وهذا أس البلاء.

لقد أشار الوزير القطري إلى مكمن النزف في الجسد الوطني، وهو لم يخطئ في تقديري، لم يتدخل في شأننا الوطني في الحقيقة، فالرجل قال بصريح العبارة إن العسكريين ظلوا باستمرار رهائن لتدخلات خارجية، التصدي للحقيقة لا يكون بمهاجمة من يطلقها بل بمواجهة ما قال وإثبات خطأه، عندها يمكن الرد بالشتم أو حتى مقاضاة القائل. فهل يجرؤ من في فيه ماء على الرد. بينما في فضاء مدني ديمقراطي لا حجر ولا تخوين بل طرق عديدة مفتوحة للتأكيد أو النفي والتحقيق والذهاب إلى منصة القضاء للفصل بين المتخاصمين.

الوسومالاستقلال الحس الوطني الحكم المدني الديمقراطية السودان القضاء المؤسسة العسكرية خالد فضل وزير الخارجية القطري

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الاستقلال الحس الوطني الحكم المدني الديمقراطية السودان القضاء المؤسسة العسكرية خالد فضل وزير الخارجية القطري المؤسسة العسکریة

إقرأ أيضاً:

انقسام في المنصات بشأن احتمالات التصعيد العسكري في سوريا

انتشر على منصات التواصل الاجتماعي مقطع فيديو زعم أنه يوثق اشتباكات عنيفة جرت في مساء الخامس من أكتوبر/تشرين الأول الجاري في منطقة دير حافر بريف حلب بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وقوات الحكومة السورية.

ففي أعقاب التوترات العسكرية المتصاعدة بين قوات (قسد) وقوات النظام في منطقة ريف حلب، اجتاحت منصات التواصل الاجتماعي، فيديوهات ومنشورات زعم ناشروها أنها توثق مشاهد من قصف متبادل، واشتباكات مباشرة، وتحركات عسكرية غير مسبوقة بين الطرفين.

واتهمت قسد من وصفتهم بالمسلحين التابعين لحكومة دمشق بتصعيد الاعتداءات والانتهاكات في مناطق شمال وشرق سوريا، وقالت إن الطيران المسير التابع لهم استهدف سيارتين عسكريتين في محيط دير حافر ما أدى لجرح 7 من مقاتليها، إضافة إلى استهداف الأحياء السكنية بدير حافر.

في المقابل، نفت وزارة الدفاع السورية ما وصفتها "بالمزاعم" حول استهداف الجيش للأحياء السكنية في دير حافر وقالت: "هذه الادعاءات المضلِّلة تهدف إلى التغطية على جرائم قسد بحق المدنيين ومحاولاتها المستمرة لزعزعة الأمن والاستقرار، ووحدات الجيش قامت بالرد على مصادر النيران التي استهدفت قريتي حميمة والكيطة شرقي حلب".

وأشارت التقارير الصحفية إلى أن قوات "قسد" نصبت سواتر ترابية في مناطقها المقابلة لسيطرة الحكومية السورية في دير الزور قبل الاشتباكات، بالمقابل أغلقت السلطات السورية جميع المعابر البرية والنهرية والطرق العامة التي تربط مناطق قسد بمناطق سيطرة الحكومة السورية.

وكانت قوات "قسد" أعلنت عودة الهدوء إلى محاور مدينة دير حافر بريف حلب بعد هذه الأحداث التي جرت في المنطقة.

ردود الفعل

وعلى منصات التواصل تباينت آراء النشطاء حول هذا التصعيد الميداني، إذ رأى بعضهم أن المناوشات الجارية تمهيد لعمل عسكري يهدف لتحرير مناطق شاملة، بينما استبعد آخرون احتمال توسعها معتبرين أن ما يحدث لا يتجاوز اشتباكات متقطعة يمكن حسمها سريعا.

إعلان

ورصدت حلقة (2025/10/6) من برنامج "شبكات" جانبا من تعليقات النشطاء، إذ اعتبر حساب باسم (إي جي) أن المناوشات الحالية مقدمة لمعركة قصيرة لتحرير بعض المناطق من دون حرب شاملة، فعلّق:

"كل المؤشرات تقول إن هناك نية لعمل عسكري محدود. هذا التوتر والمناوشات بداية لمعارك مثل هذا النوع، إن حدثت معركة فستكون محدودة شبيهة بالسابقات، تحرير عدة مناطق ثم الوقوف. لا يوجد عمل عسكري شامل".

أما حساب يحمل اسم "تيتشر" فقلل من أهمية المناوشات واعتبر أنها لا ترقى إلى عملية عسكرية حقيقية، وأن السيطرة على مناطق مثل دير حافر لن تستغرق وقتا طويلا إن قررت الدولة التقدم، فكتب:

"لسا ما في شي مناوشات هاي فقط لو الدولة بدها تتقدم دير حافر كلها ما تطول معها ساعة".

أما الناشط عز فيرى أن الاشتباكات لن تتطور إلى معركة واسعة ما لم يبدأ قصف مراكز محددة لـ"قسد"، وغرّد:

الاشتباكات الحالية لن تتطور لعمل عسكري إلا حين يرافقها قصف لمراكز قسد في القامشلي وعامودا والمالكية.

وعلّق الناشط دليار معتبرا أن مستقبل سوريا متربط ببقاء الكرد فيها، ويرى أن الحكم في البلاد سيكون لهم إن استمرت الدولة موحدة، فكتب:

إنْ كان الكُرد سيبقون في سوريا ضمن دولة واحدة، فعلى الأعراب وسائر القوميات بمختلف أطيافهم أن يُدركوا أن الحكم في سوريا لن يكون إلا للكُرد.

مقالات مشابهة

  • الاحتلال يغلق حاجز الحمرا العسكري في الأغوار الشمالية
  • جلالة السلطان يزور متحف التاريخ العسكري في العاصمة البيلاروسية
  • تعلن محكمة غرب الأمانة عن الحكم الصادر على المحكوم عليه لبيب عبدالغني الفقيه
  • النائب العام يناقش مع وزير الدفاع أوضاع النيابات العسكرية وسبل تطوير أداءها
  • انقسام في المنصات بشأن احتمالات التصعيد العسكري في سوريا
  • النائب العام ووزير الدفاع يبحثان تعزيز أداء النيابات العسكرية في عدن
  • 52 عاما على نصر أكتوبر المجيد.. ملحمة العبور التي أحدثت تغييرا في الفكر العسكري العالمي
  • رئيس الأركان يدشّن مقار النيابات العسكرية الجديدة ويطلق النظام الإلكتروني للقضاء العسكري .. عاجل
  • الأمن النيابية تحذر من استغلال المؤسسة العسكرية في التصويت الخاص