أ.د. حيدر أحمد اللواتي **

عندما سُئل سترلينج عن أهم شيء في حياته، أجاب بلا تردد: "أولادي، هم أثمن ما أملك." كانت كلماته تفيض بالحب، وكان يعز شقيقته وأمه التي تبنته بحنان لا يُوصف، لكن خلف هذه الكلمات الدافئة، كانت هناك قصة مختلفة تماماً.

في عام ١٩٨٦، جاء جورج فايلانت، أحد الباحثين الرئيسين السابقين، لزيارة سترلينج في مدينته الصغيرة، وجد الرجل يعيش وحيداً في قاطرة متنقلة قديمة، بعيدة عن دفء العائلة التي يردد أنها أغلى ما في حياته، لم يتواصل مع زوجته منذ ١٥ عاماً، ليس بسبب الكراهية، بل لأنه لم يستطع تحمل فكرة الطلاق وتأثيره على أولاده، وكان الهاتف هو الوسيلة الوحيدة بينهما، لمجرد الاطمئنان من بعيد.

لاحظ جورج شيئاً غريباً: حزام الأمان في المقعد المجاور للسائق مغطى بالغبار، وكأنَّه لا يجلس أحد إلى جانبه منذ زمن بعيد، ما الذي حدث لرجل يحب أسرته بهذا الشكل ولا يملك رفيقاً في رحلاته؟

كان سترلينج قد تجاوز الستين، متقاعداً، يدرس الإيطالية لأنَّ ابنته تعيش هناك، ولربما حدث وأن احتاجت له، لذا أعد نفسه لهذه المهمة، لكن عندما سأله جورج عن ابنته، كانت الإجابة موجعة: "لم أرها منذ سنوات، رغم دعوتها لي، اعتذرت لأنني لا أريد أن أكون عبئاً عليها." وعندما سأله عن أحفاده قال: "هم بخير، يعيشون حياتهم، ولا يحتاجونني" ثم تحدث عن روتينه الوحيد، زيارة جارته المسنة في العشاء، مشاهدة التلفاز معها حتى تغفو، ثم يعود وحيداً إلى قاطرته، وتنهد بمرارة: "أخشى أن تموت جارتي، لأنني لا أعرف كيف سأقضي وقتي بعدها."

وقد يلاحظ القارئ الكريم أمرا عجيبا، فكيف لرجل يحب أولاده بهذا القدر أن يبتعد عنهم؟ لماذا يتجنب قضاء الوقت معهم رغم أنه يقول إنهم أهم ما في حياته؟

لنعود بالزمن إلى طفولته، ولد سترلينج عام ١٩١٦، وتربى على يد أخته روزلينا التي كانت بمثابة الأم له، لكن الحياة لم تكن رحيمة به، فقد أخته التي تزوجت وانتقلت بعيداً، وبعد مدة فقد الأم التي تبنته بعد ذلك.

هذا الفقد العميق ترك جرحاً لا يندمل في قلب سترلينج، كان يخشى أن يسبب فراقه نفس الألم لأولاده وأحفاده، فاختار البقاء بعيداً، محباً من بعيد، لكن مبتعداً، لم يكن بحاجة لهم مادياً أو صحياً، لكنه كان يعاني من وحدة قاتلة وصمت مؤلم، لم يهنأ بالسعادة قط.

قصة سترلينج ليست فقط قصة رجل وحيد، بل هي درس بليغ للأبناء، فالأب قد يكون مقتدرا ماديا ومعافا من الأمراض، ويمارس حياته بصورة طبيعية، لكنه يعاني من ألم فراق أولاده ويشعر بمحنة الوحدة بشدة ولكنه قد لا يتجرأ في التواصل مع الأبناء خشية أن يثقل عليهم أو أن يحرجهم أو ربما يخشى أن يسمع ردا منهم قد يؤثر في نفسه سلبا، ولذا فلابد للأبناء أن يكونوا واعين لذلك، لأن الأب يأبى أن يظهر ضعيفا محتاجا الى أبنائه ولذا يصعب عليه أن يسألهم، وعليهم أن ينتبهوا لذلك وأن يقوموا بدورهم برعايته وزيارته بصورة مستمرة، وأن يعرضوا خدماتهم عليه بين فينة وأخرى بل ويصروا على أبيهم بأن يخرج في نزهة أو يتناول العشاء معهم، لأن الدراسات العلمية تشير وبوضوح إلى أن الشعور بالوحدة يولد أمراضًا لا حصر لها، كما لاحظ الباحثون أنَّ الآباء تتحسن نفسيتهم ويقل الشعور لديهم بالآلام الجسدية في الأيام التي يقوم الأولاد بها في زيارتهم بشكل واضح وملحوظ.

ومن المهم التنبيه على أمر ذات أهمية بالغة، وهو التفريق بين الوقت وابداء الاهتمام، فالبعض قد يحرص على زيارة أبيه ولكنه عمليا لا يقضي وقته معه، لأنه لا يعيره أي انتباه أثناء زيارته، فذهنه مشغول بأمور أخرى، وإذا أحس الأب بذلك فان ذلك يزيد من شعوره بالوحدة والألم، فالانتباه اليه هو أول علامة لحبك إياه، واهتمامك بأمور أخرى بمحضره يشعره بأنه أمر ثانوي في حياتك، فيزيد ذلك من شعوره بالوحدة.

على الرغم من استرلينج، كان ناجحا في حياته العلمية، فلقد كان متخصصا في مجال علوم المادة، واستطاع أن يحافظ على صحته ونشاطه، كما أنه استطاع أن يوفر حياة كريمة ينعم بها، ولكنه لم يكن سعيدا، بل كانت الوحدة رفيقه والتعاسة لا تفارقه، والسبب في ذلك أبناؤه الذين أحبهم بكل جوارحه ولكنهم فارقوه ظناً منهم أنه ليس بحاجة إليهم!.

إذا كنت ممن تنعم بوجود والديك فاحرص على أن تجعل زيارتك لهما جزءًا من نظام حياتك، وليكن هدفك من الزيارة أن تزيح عنهم ألم الشعور بالوحدة وإدخال السرور على قلوبهم، فذلك عمل عظيم سيُسعدك في الدنيا والآخرة. 

للحديث بقية...

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

نفى وجود ثقافة أمازيغية.. القضاء الجزائري يثبت إدانة مؤرخ بتهمة المساس بالوحدة الوطنية

أُوقف بلغيث في 3 مايو/أيار الماضي بعد أن أدلى بتصريحات أثارت موجة غضب واسعة في الجزائر، حين قال خلال مقابلة تلفزيونية إن "اللغة الأمازيغية مشروع أيديولوجي صهيوني فرنسي"، مضيفاً أنه "لا وجود للثقافة الأمازيغية". اعلان

أيدت محكمة الاستئناف في الجزائر، الثلاثاء، الحكم الصادر بحق المؤرخ محمد الأمين بلغيث بالسجن خمس سنوات، مع تعديل يقضي بأن تكون ثلاث سنوات منها نافذة وسنتان موقوفتا التنفيذ، وفق ما أعلنه محاميه توفيق هيشور.

وقال هيشور في منشور عبر صفحته على فيسبوك: "أصدر مجلس قضاء الجزائر اليوم (الثلاثاء) حكماً قضى بتأييد الحكم المستأنف مبدئياً وتعديله بإدانة الدكتور محمد الأمين بلغيث ومعاقبته بالسجن لمدة ثلاث سنوات نافذة، إضافة إلى سنتين مع وقف التنفيذ."

اتهامات تمس الوحدة الوطنية وخطاب الكراهية

وكانت المحكمة الابتدائية قد أصدرت، في 3 يوليو/تموز الماضي، حكماً بسجن بلغيث خمس سنوات نافذة بعد إدانته بتهمتي "القيام بفعل يستهدف الوحدة الوطنية بواسطة عمل غرضه الاعتداء على رموز الأمة والجمهورية"، و"نشر خطاب الكراهية والتمييز"، بحسب ما أوضحت النيابة العامة التي طالبت حينها بعقوبة سبع سنوات سجناً.

Related شاهد: إيقاعات روحية وأهازيج أمازيغية لموسيقى كناوة مع انطلاق حملة توعية بالتراث المغربيالمتحدثون بالأمازيغية في المغرب يخشون من اندثار لغتهمالمسيلة في "تيزي وزو".. قرية أمازيغية تحصد لقب الأجمل والأنظف بفضل تكاتف أهلها تصريحات تثير الجدل وتغضب الأوساط الثقافية

وأُوقف بلغيث في 3 مايو/أيار الماضي بعد أن أدلى بتصريحات أثارت موجة غضب واسعة في الجزائر، حين قال خلال مقابلة تلفزيونية إن "اللغة الأمازيغية مشروع أيديولوجي صهيوني فرنسي"، مضيفاً أنه "لا وجود للثقافة الأمازيغية".

وقد اعتُبرت تصريحاته مسيئة ومتناقضة مع الهوية الوطنية الجامعة، خصوصاً أن الأمازيغية تُعد جزءاً أصيلاً من الموروث الثقافي الجزائري.

اعتراف دستوري بالأمازيغية كلغة رسمية

وتُعد الأمازيغية لغة وطنية ورسمية في الجزائر منذ عام 2016، بعد أن صوّت البرلمان بأغلبية ساحقة لصالح تعديل دستوري يعترف بها إلى جانب اللغة العربية.

وفي عام 2017، قررت السلطات الجزائرية إدراج رأس السنة الأمازيغية "يناير" ضمن قائمة الأعياد الوطنية الرسمية، في خطوة رمزية تؤكد التعدد الثقافي وتعزز مفهوم الوحدة الوطنية.

مؤرخ مثير للجدل

ويُعرف محمد الأمين بلغيث، وهو أستاذ جامعي وباحث في التاريخ، بإطلاقه تصريحات مثيرة للجدل حول قضايا الهوية والتاريخ الوطني. وقد واجه في مناسبات سابقة انتقادات حادة من أكاديميين ومثقفين اتهموه بـ"تحريف التاريخ" و"التحريض على التفرقة"، فيما يرى مؤيدوه أنه يطرح قراءات "جريئة وغير تقليدية" للتاريخ الجزائري.

انتقل إلى اختصارات الوصول شارك هذا المقال محادثة

مقالات مشابهة

  • نفى وجود ثقافة أمازيغية.. القضاء الجزائري يثبت إدانة مؤرخ بتهمة المساس بالوحدة الوطنية
  • قطر: مفاوضات دقيقة في شرم الشيخ ونعمل على الوصول لوقف نار طويل الأمد بغزة
  • ما رؤيا الرسول التي كانت سببًا في تخصص د. أحمد عمر هاشم في الحديث؟ - فيديو
  • مدير إدارة الوقف يحيل المتغيبين بالوحدة الصحية بالقلمينا بالوقف للتحقيق
  • اكتشاف بصمة فضائية في الحمض النووي البشري
  • Sntf: تعميم الحجز والاقتناء الالكتروني لتذاكر رحلات الخطوط الطويلة
  • Sntf: تعميم الحجز والاقتناء الإلكتروني لتذاكر رحلات الخطوط الطويلة
  • معظم المصابين من النساء..دراسة تكشف ارتباطًا بين كوفيد طويل الأمد واضطراب نادر في نبض القلب
  • ليس غبيا.. غوارديولا يرد على اهتمام برشلونة بهالاند