في زمنٍ تتنافس فيه الدول على كسب العقول والقلوب قبل الأسواق، لم يعد النفوذ يُقاس فقط بما تملكه من ثرواتٍ أو جيوش، بل بما تمتلكه من قدرةٍ على تسويق صورتها الإنسانية والحضارية في وجدان العالم. ومصر، التي كانت وما زالت مهد الحضارات وموئل الثقافات، تقدم في الأسابيع الأخيرة نموذجًا متكاملًا لكيفية تحويل الأحداث الوطنية إلى رسائل عالمية تعبّر عن هوية متجددة وصورة ناضجة للدولة الحديثة.

فوز الدكتور خالد العناني بمنصب المدير العام لمنظمة اليونسكو لم يكن مجرد انتصار دبلوماسي، بل خطوة رمزية تعبّر عن عودة مصر لتقود الحوار الثقافي العالمي. هذا الفوز يعكس ثقة المجتمع الدولي في قدرة مصر على حماية التراث الإنساني وصون القيم الثقافية التي تُقرّب الشعوب بدل أن تفرّقها. لقد عرف العالم خالد العناني وزيرًا للسياحة والآثار، أدار ملف التراث المصري بعين المؤرخ وذهن المخطط، فحوّل الثقافة إلى طاقة جذب واستثمار. واليوم، حين يعتلي أعلى منصة ثقافية دولية، يرسل للعالم رسالة فحواها أن مصر لا تزال قادرة على قيادة الفكر الإنساني، ليس فقط بما تملكه من آثارٍ عريقة، بل بما تملكه من رؤية مستقبلية تجعل الثقافة أداة للتنمية والسلام.

وفي المشهد نفسه، يطلّ المنتخب المصري لكرة القدم في طريقه إلى كأس العالم بروحٍ وطنية تُعيد للأذهان فكرة “الهوية الجماعية” التي تتجاوز الانتماء الرياضي إلى انتماءٍ حضاري وإنساني. فالرياضة اليوم لم تعد ساحة منافسة بدنية فحسب، بل وسيلة لتسويق صورة الشعوب وبناء الجسور بين الأمم. كل هدف يسجله اللاعب المصري هو رسالة بأن هذا الشعب قادر على المنافسة والانتصار رغم التحديات. الملاعب تتحول إلى شاشاتٍ دعائية كبرى تَعرض روح مصر: الصبر، والإصرار، والفرح الجماعي الذي يختزل في لحظةٍ واحدة حكاية وطن بأكمله.

أما الوجه الأسمى في المشهد المصري الراهن فهو ذلك الدور الإنساني والدبلوماسي الذي تلعبه القاهرة في إحلال السلام بغزة. فبينما تتصاعد ألسنة اللهب في الإقليم، تظلّ مصر الصوت العاقل الذي لا يملّ من الدعوة إلى التهدئة وإعادة بناء الثقة. لقد نجحت القاهرة مؤخرًا في التوصل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار بعد عامين من المعاناة، وهو ليس إنجازًا سياسيًا بقدر ما هو تجسيد لموقفٍ أخلاقي وإنساني ثابت. فمصر، التي تعرف معنى الحرب أكثر من غيرها، تدرك أن السلام ليس ضعفًا، بل شجاعة مضاعفة. ومن هنا أصبحت صورتها في الإعلام الدولي مرتبطة بالمسؤولية والاتزان، حتى صارت “الوسيط الموثوق” الذي يلجأ إليه العالم حين تتعقد الطرق وتتعثر اللغات.

هذه الأحداث الثلاثة — الثقافية والرياضية والدبلوماسية — تبدو متباعدة في ظاهرها، لكنها في جوهرها نسيج واحد من القوة الناعمة المصرية. إنها دروس عملية في “التسويق الوطني”؛ فحين تفوز مصر في محفل ثقافي، أو تصعد في ميدان رياضي، أو تُسهم في صناعة سلام، فإنها تروّج لصورتها بأبلغ مما تفعله أي حملة إعلامية. فالتسويق هنا ليس إعلانًا يُشترى، بل قصة تُروى، وسلوك يُمارس، وتأثير يُترك في العقول قبل العيون.

اليوم، تملك مصر فرصة نادرة لإعادة صياغة سرديتها أمام العالم. فبدل أن تكون الدولة التي تُعرّف بتاريخها فقط، يمكنها أن تُعرّف بما تفعله الآن — بالثقافة التي تنفتح، وبالشباب الذي يصعد، وبالسلام الذي يصنعه العقل المصري في لحظات العتمة. العالم لا يحتاج إلى أن يُذكَّر بأن مصر هي أرض الأهرامات، بل يحتاج أن يرى أنها لا تزال قادرة على بناء “أهرامات جديدة” من الفكر والإنجاز الإنساني.

لقد آن الأوان أن تتحول النجاحات الأخيرة إلى استراتيجية تسويق وطني شاملة تستثمر في الرموز لا بوصفها أحداثًا مؤقتة، بل كركائز لهوية مستدامة. أن يُصبح فوز العناني قصة تروى في معارض السياحة الدولية، وأن يُستثمر صعود المنتخب في الترويج لمصر كدولة شابة نابضة بالحياة، وأن يُقدّم دورها في غزة كنموذجٍ للقوة المسؤولة التي تُوازن بين المصلحة والإنسانية.

بهذه الصورة، لا تعود إنجازات مصر مجرد أخبارٍ في نشرات المساء، بل علامات مضيئة في ذاكرة العالم. فالدول التي تُتقن فن تسويق نفسها، لا تكتفي بأن تكون حاضرة في الأحداث، بل تصنع الأحداث نفسها. ومصر، وهي تجمع بين عبق التاريخ وروح العصر، تبرهن اليوم أنها لا تزال قادرة على أن تكون رسالة للعالم — رسالة من حضارة تعرف أن القوة الحقيقية ليست في الصراع، بل في الإبداع، ولا في السيطرة، بل في التأثير.

وهكذا، حين تنظر الشعوب إلى مصر اليوم، تراها كما يجب أن تُرى: بلد يصنع الثقافة، ويمارس الرياضة، وينشر السلام؛ بلد لا يكتفي بالحديث عن مجده الماضي، بل يكتب كل يوم فصلًا جديدًا في مجده القادم.

طباعة شارك الدكتور خالد العناني اليونسكو غزة

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الدكتور خالد العناني اليونسكو غزة التی ت

إقرأ أيضاً:

الغرف السياحية: قمة السلام رسالة قوية للعالم بالريادة المصرية وما تنعم به من أمن وأمان

أكد حسام الشاعر، رئيس الاتحاد المصري للغرف السياحية أن استضافة مصر قمة شرم الشيخ للسلام"، التي تُعقد برئاسة مشتركة بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبمشاركة قادة وممثلي أكثر من عشرين دولة حول العالم، تمثل رسالة جديدة تؤكد مكانة مصر الدولية وقدرتها على جمع العالم على أرضها تحت مظلة السلام والأمن والاستقرار.

قمة شرم الشيخ للسلام 

وأوضح الشاعر أن هذا الحدث العالمي يعكس ثقة المجتمع الدولي في أمن واستقرار مصر، ويؤكد أن شرم الشيخ ما زالت الوجهة المفضلة لاستضافة أهم الفعاليات والمؤتمرات الكبرى، مشيرًا إلى أن المدينة سبق وأن استضافت العديد من القمم التاريخية والفعاليات الدولية، كان آخرها مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (COP27)، الذي رسخ صورتها كمنصة للحوار والسلام والتنمية المستدامة.

مشهد سياسي استثنائي.. قمة شرم الشيخ تتوج جهود مصر لوقف حرب غزةتوافد قادة وزعماء دول العالم المشاركين في قمة شرم الشيخ للسلامماكرون يصل إلى مصر لحضور قمة شرم الشيخ للسلامطارق فهمي: قمة شرم الشيخ تمثل نقطة تحول تاريخية ومصر تسعى لتحصين وقف إطلاق النار

وأضاف رئيس اتحاد الغرف السياحية أن توافد ملوك ورؤساء وممثلي الدول للمشاركة في القمة سيساهم في الترويج العالمي لشرم الشيخ كوجهة آمنة ومبهرة تجمع بين الجمال الطبيعي والبنية التحتية السياحية المتميزة، مؤكدًا أن اتحاد الغرف السياحية وكافة مؤسسات القطاع الخاص والفندقي يقدمون كامل الدعم والتعاون لضمان خروج هذا الحدث بالصورة التي تليق بمكانة مصر وسمعة سياحتها.

وشدد الشاعر على أهمية استثمار مثل هذه الفعاليات الكبرى في الترويج للسياحة المصرية عالميًا، ودعم الحملات الدعائية التي تبرز ما تتمتع به المقاصد المصرية من أمن واستقرار وتميز في الخدمات. كما تسلط الضوء علي مدينة شرم الشيخ ، التي تشهد نسب إشغالات فندقي تتجاوز 90% منذ أكثر من عام، ما يعكس انتعاشًا حقيقيًا في القطاع وضرورة دعمه بسياسات تشجع على الاستثمار السياحي المتكامل.

واختتم حسام الشاعر تصريحاته بالتأكيد على أن شرم الشيخ ستظل رمزًا للسلام وواجهة مشرفة لمصر أمام العالم، تجمع القادة وتلهم الشعوب، وتبعث برسالة قوية بأن مصر كانت وستظل واحة للأمن والاستقرار.

طباعة شارك الغرف السياحية قمة شرم الشيخ للسلام مصر غزة امريكا

مقالات مشابهة

  • مجلس كنائس مصر يهنئ العالم باتفاق السلام الذي ينهى الحرب في غزة
  • الطائفة الإنجيلية: قمة شرم الشيخ تجسّد الدور المصري التاريخي في دعم جهود السلام
  • د. عبير عطالله تكتب: شهادة ثقة في الاقتصاد المصري
  • نائبة: قمة شرم الشيخ تكتب فصلا جديدا من السلام.. ومصر الضامن لأمن المنطقة
  • الغرف السياحية: قمة السلام رسالة قوية للعالم بالريادة المصرية وما تنعم به من أمن وأمان
  • السلام للعالم من شرم الشيخ.. مدينة تتحدث بلغة الجمال والسلام (صور وفيديو)
  • السيسي لـ العناني: الفوز باليونسكو إنجاز تاريخي يعكس المكانة الرفيعة التي تحظى بها مصر
  • د. هبة عيد تكتب: المزحة التي خرجت عن السيطرة.. عندما يتحول الذكاء الاصطناعي إلى فوضى رقمية
  • د. نرمين سامي تكتب: من مدينة السلام.. السيادة المصرية تتحدث