المُضاعِف الاقتصادي قراءة في السياق العُماني
تاريخ النشر: 15th, October 2025 GMT
د. يوسف بن حمد البلوشي -
إذا كانت القرارات الاستثمارية على المستويين الجزئي والكُلي تُستخدم كمقياسٍ لمعرفة مدى تحقُّق النمو الاقتصادي المُستدام، والإسهام في تعزيز الكفاءة الاقتصادية، فإنَّ ثمَّة مقاييس أخرى ترتبط بمفاهيم اقتصادية أكثر تخصصية؛ فعلى مستوى المشاريع الاقتصادية يُعد مؤشر معدل العائد الداخلي أحد المؤشرات الرئيسة لقياس جدوى الاستثمارات وبوصلة توجيهها؛ إذ يعكس العائد المُتوقَع، وذلك بالمقارنة مع تكلفة رأس المال.
أما على مستوى الاقتصاد الكلي؛ فالأمر يتجاوز قياس ربحية مشروع مُنفرد إلى تقييم التأثيرات المُتسلسِلة للسياسات والإنفاق على الناتج المحلي الإجمالي والقطاعات المرتبطة. وفي هذا السياق، يبرُز المُضاعِف الاقتصادي كأداةٍ كَمِّيَّةٍ مركزية لقياس الأثر المُمتَد للإنفاق العام أو الخاص، وتقدير ما يُمكن أن يترتب عليه من عوائد اقتصادية كُلية.
ويرتكزُ المُضاعِف الاقتصادي على الفرضية الكينزية (نسبة إلى العالِم الاقتصادي جون مينارد كينز، والذي يدعو إلى تدخُّل الحكومة في الاقتصاد لمواجهة فترات الركود الاقتصادي وشُح الوظائف)، ومفاد هذه الفرضية أن أي زيادة أولية في الإنفاق تؤدِّي إلى تحفيز الدخول الفردية؛ ما يرفع مستويات الاستهلاك، ومن ثم تَنتُج دورةٌ مُتكرِّرةٌ من الإنفاق والإنتاج والدخل، ما يؤدّي إلى تضاعُف الأثر النهائي على الناتج الكُلي، وبذلك فإنَّ حجم الزيادة في الناتج المحلي، يفوق الإنفاق الأوَّلي نفسه.
هذا المفهوم لا يقتصر على كونه أداة كمية فحسب؛ بل يعكس أيضًا مدى حيوية الروابط الاقتصادية بين القطاعات، ويُعد مرآةً لفاعلية السياسات المالية وقدرتها على خلق تأثيرات تراكمية مُستدامة.
ويتأثر المُضاعِف الاقتصادي بجُملة من المُحدِّدات التي تعكس البنية الاقتصادية والسلوك الاستهلاكي للمجتمع؛ فالميل الحَدِّي للاستهلاك (أي نسبة ما يُنفقه المستهلكون من أي زيادة في الدخل على السلع والخدمات بدلًا من ادخارها)، يمثل العامل الأكثر تأثيرًا؛ حيث كلما ارتفعت نسبة ما يُنفقه الأفراد من دخولهم الإضافية، زادت القدرة على توليد آثار مُضاعفة. أما درجة الانفتاح التجاري؛ فإنها تؤثِّر سلبًا على المُضاعِف الاقتصادي، من خلال تسرُّب جزء من الإنفاق على الواردات، وهو ما يُقلِّل من قوة المُضاعِف الداخلي. بينما تؤدِّي كفاءة الإنفاق الحكومي دورًا حاسمًا في هذا السياق؛ إذ إنَّ الإنفاق المُوجَّه نحو قطاعات ذات إنتاجية عالية وروابط قوية مع باقي مكونات الاقتصاد، يُحقِّق أثرًا مُضاعفًا أكبر، مقارنةً بالإنفاق الاستهلاكي قصير الأجل. علاوة على أنَّ قُدرة النظام المالي على توجيه السيولة نحو الأنشطة الإنتاجية، تُسهم في تضخيم أثر المُضاعِف عبر تحفيز الاستثمارات الجديدة.
ويتخذُ المُضاعِف الاقتصادي أبعادًا عملية تطبيقية مؤثِّرة؛ حيث يُستخدَم في تقدير أثر الإنفاق العام على القطاعات الاقتصادية، والتأكُّد من أن الإنفاق يُوَلِّد مردودًا يفوق تكلفته. كما يُستعان به -في بعض الأحيان- في تقدير الأثر غير المباشر للأنشطة ذات الروابط الأمامية والخلفية، مثل: الصناعات التحويلية والبتروكيماويات. وفي أوقات الأزمات، يُمثِّل المُضاعِف أداةً لتقدير فعَّالية السياسات التوسُّعية في تحفيز النمو ومعالجة الركود، فضلًا عن دوره في تحليل الاستدامة المالية، عبر ربط كفاءة الإنفاق بالعائد الكُلي المتوقع؛ بما يساعد الحكومات على تحقيق التوازن بين الاستقرار المالي ودعم النمو.
وفي ظل التحوُّلات الاقتصادية العالمية، تسعى سلطنة عُمان إلى توسيع الهياكل الإنتاجية في قطاعات التنويع الاقتصادي، ولذلك يكتسب المُضاعِف الاقتصادي أهميةً خاصَّةً كأداةٍ لتقدير الأثر الكُلي للاستثمارات المُوجَّهة نحو التنويع الاقتصادي. وفي الواقع، لم يعُد الاعتماد التقليدي على عوائد النفط، كافيًا لتأمين النمو المُستدام؛ ما يفرض التركيز على استثمارات قادرة على توليد آثار مُضاعفة واسعة عبر مختلف القطاعات. وهُنا نضرب مثالًا بالاستثمار في البنية الأساسية؛ مثل: الموانئ والمطارات والطرق، والتي تُشكِّل رافعة لتعزيز سلاسل القيمة؛ إذ ينعكس هذا النوع من الإنفاق على التجارة والخدمات اللوجستية، ويُوَلِّد فرصًا إضافية في قطاعات داعمة. كما أن تطوير الصناعات المحلية عبر الصناعات التحويلية والأنشطة المرتبطة بالموارد الوطنية، من شأنه أن يُسهم في تعزيز الروابط الإنتاجية الداخلية، ويُقلِّل من تسرُّب الإنفاق عبر الواردات.
إلى جانب ذلك، يُشكِّل القطاع السياحي مجالًا واعدًا لتفعيل أثر المُضاعِف الاقتصادي؛ إذ تُوَلِّد المشاريع السياحية الكبرى آثارًا مُتسلسِلة على قطاعات النقل والضيافة والخدمات؛ ما يزيد من القيمة المحلية المضافة ويُحفِّز التشغيل. أما الاستثمار في الطاقة المتجددة، فإنه لا يقتصر على دوره في تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري؛ بل يفتح المجال أيضًا أمام نشوء صناعات خضراء جديدة؛ بما يتماشى مع التوجهات العالمية نحو الاقتصاد مُنخفض الكربون.
ولا شك أن توظيف مفهوم المُضاعِف الاقتصادي في عملية صُنع القرار، يُمثِّل أداةً لتعظيم العوائد الكُلية وضمان توجيه الموارد نحو القطاعات ذات القدرة الأعلى على خلق عوائد اقتصادية عالية. إضافة إلى أن تعزيز فعَّالية المُضاعِف يرتبط بتحسين كفاءة الإنفاق العام، وزيادة الميل الحدِّي للاستهلاك المحلي، والحد من تسرُّب الإنفاق عبر الواردات، وهو ما يستدعي إطلاق سياسات داعمة للصناعات الوطنية وتشجيع المنتجات المحلية.
وفي هذا السياق، أظهرت دراسة مهمة أجرتها وزارة الاقتصاد حول المُضاعِف الاقتصادي في سلطنة عُمان، أن قطاعات التنويع الاقتصادي -وعلى رأسها الصناعات التحويلية، والزراعة، والثروة السمكية، والتعدين، والسياحة- تتمتع بأثرٍ اقتصاديٍّ ومُضاعِف أعلى، مقارنةً بغيرها من القطاعات. ويعكس ذلك أهمية تعزيز الاستثمارات في هذه القطاعات الحيوية الواعدة.
أضف إلى ذلك، أن زيادة الإنفاق الإنمائي والتركيز على القطاعات ذات الأثر الأكبر-كقطاعات الزراعة والثروة السمكية والتعدين، والتي تُمثِّل مدخلات لقطاع الصناعات التحويلية- بمثابة وصفة ناجحة للاقتصاد العُماني، وستُحقق آثارًا إيجابية في تلبية الطلب المحلي وتقليل التسرُّبات المالية، مقابل الواردات، بجانب زيادة الصادرات ودخول العملة الأجنبية إلى سلطنة عمان. وفي السياق نفسه، من شأن زيادة الإنفاق الإنمائي على قطاعات مثل اللوجستيات والسياحة، أن يكون لها أثر كبير ومباشر في زيادة توليد الوظائف والتشغيل وتحقيق التوازن في ميزان الخدمات.
وتُظهِر القراءة المُتأنِية لبيانات الميزانية العامة للدولة، أن حوالي 8% فقط من إجمالي الإنفاق العام يُخصص للإنفاق التنموي، ومن هذا الإنفاق التنموي لا تتجاوز حصة القطاعات الرئيسة للتنويع الاقتصادي (الزراعة والثروة الحيوانية، واللوجستيات، والسياحة، والتعدين، والصناعة) 5%. وهذه النسبة متواضعة نسبيًا، مقارنةً بحجم التطلعات والوصول إلى زخمِ نموٍ قادرٍ على توليد الوظائف وتنويع الهياكل الإنتاجية؛ الأمر الذي يستدعي تعزيز الإنفاق الإنمائي للنهوض بأداء القطاعات الإنتاجية والخدمية.
ويكتسب هذا التوجُّه أهميةً خاصة، إذا ما ارتبط بتطوير البنية الأساسية للتجمُّعات الاقتصادية والصناعية، وزيادة المخصصات المُوجَّهة للترويج الاستثماري؛ بما يُسهم في تعزيز تدفُّق الاستثمارات الخاصة والأجنبية نحو قطاعات التنويع الاقتصادي، ويدعم تحقيق مُستهدفات «رؤية عُمان 2040».
وفي سياق توجيه الاستثمار الأجنبي المباشر إلى القطاعات الاقتصادية ذات المُضاعِف الأعلى، نجد أن سلطنة عمان حقَّقت زيادة مطردة في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ولكن معظمها -أي أكثر من 80%- يتركَّز في قطاع النفط والغاز، في حين أن قطاعات التنويع الاقتصادي تشهد نقصًا في الاستثمارات المُوَجَّه للنهوض بها. كما إن الائتمان المصرفي في سلطنة عُمان، مُوجَّهٌ بشكل مباشر إلى الأجهزة والشركات الحكومية وموظفي القطاع العام؛ حيث يُشير تقرير الاستقرار المالي لعام 2025 الصادر عن البنك المركزي العُماني، إلى الفجوة في تخصيص الائتمان المصرفي للقطاعات الإنتاجية، وخاصةً المؤسسات الصغيرة والمتوسطة؛ إذ بلغت النسبة الممنوحة لها 1.3% فقط، من النسبة المقررة في الأساس عند 5%، ما يعني أن الفجوة تصل إلى 1.9%. والطموح أن ترفع النسبة المقررة للشركات الصغيرة والمتوسطة إلى 7%، ويتم تفعيل شركة لضمان القروض لتوفير التمويل المطلوب بتكلفة والاشتراطات المناسبة في مختلف القطاعات الاقتصادية لشركات القطاع الخاص.
ونختم بالقول إنَّ الاقتصاد العُماني، ورغم توافر الموارد الطبيعية والبشرية والمكانية والجيوسياسية، بجانب أن خطة التنمية الخمسية العاشرة (2021– 2025) تُعد ثاني أفضل خطة خمسية في تاريخ عُمان الحديث منذ عام 1970م، من حيث إيرادات سعر النفط، والذي بلغ متوسطًا عند 80 دولارًا للبرميل. إلّا أنَّ الاقتصاد ينمو بوتيرة بطيئة، غير قادرة على مواجهة الضغوط المجتمعية والمتمثلة في ندرة الوظائف ومحدودية الدخول، إلى جانب التحديات التي تعاني منها شركات القطاع الخاص؛ الأمر الذي يؤكد ضرورة توظيف مفاهيم مثل المُضاعِف الاقتصادي، كأداةٍ علميةٍ كَمِيَّةٍ لقياس الأثر الاقتصادي، وتوجيه الاستثمارات المحلية والأجنبية نحو القطاعات التي نمتلك فيها مزايا نسبية، وتوفر هي في المقابل مُضاعِفًا اقتصاديًا عاليًا.
لذلك ومن منطلق رؤية تخصُّصِية يمكننا القول إن الأوضاع الاقتصادية الراهنة تستدعي طرح معالجات قائمة على تفكير جديد أكثر جسارة، وتنفيذ إجراءات وتدخلات استراتيجية عميقة غير سائدة، بما يضمن اتخاذ قرارات جريئة وحشد الموارد والهمم لتحقيق تحولات نوعية في مختلف القطاعات يتلمسها الجميع وتسهم في مسيرة التقدم والوصول إلى الازدهار المنشود.
د. يوسف بن حمد البلوشي مؤسس البوابة الذكية للاستثمار والاستشارات
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: قطاعات التنویع الاقتصادی الصناعات التحویلیة الع مانی م ضاع ف ا أثر الم سلطنة ع
إقرأ أيضاً:
شركة طلابية تطلق "مِداد" لإنتاج حِبر عُماني صديق للبيئة
مسقط- الرؤية
توصل فريق "مِداد" الطلابي من الجامعة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا إلى فكرة تمكنه من استغلال نفايات القهوة بشكل مُبتكر لإنتاج حبر صديق للبيئة من نفايات القهوة بجودة عالية وبأسعار منافسة مقارنة بالحلول التقليدية، ولديه القابلية للتحلل الحيوي، حيث يمكن للمستخدم استبدال الحبر التقليدي للطابعات بهذا النوع من الحبر الصديق للبيئة بدون الحاجة لشراء طابعات جديدة أو بمواصفات مختلفة.
وحول مميزات المنتج، قال الطالب يعرب الشريقي أحد أعضاء فريق مداد إن المنتج بعدة مميزات، حبر عضوي مبتكر مستخلص من القهوة يتميز بأداء عالٍ وثبات ألوان يضاهي الأحبار التقليدية دون الحاجة إلى مكونات ضارة كذلك يمتاز بأنه متعدد الاستخدامات مما يُعد خيارًا مثاليًا للطباعة المكتبية، التجارية، والإبداعية، بما يقدمه من جودة وكفاءة عالية بالإضافة الى أنه يعد حلا صديقا للبيئة يساهم في تقليل استهلاك المواد الكيميائية والمشتقات النفطية.
وحول الجوائز والمشاركات المحلية قال الشريقي أن الفريق تأهل للمرحلة النهائية ضمن أفضل (5) مشروعات في مسابقة شارك تانك بجامعة التقنية والعلوم التطبيقية بمسقط لعام 2024م، كذلك شاركنا في ملتقى "الإبداع والابتكار نحو ريادة الأعمال" في غرفة تجارة وصناعة عمان في يناير2025م، كذلك حصدت مِداد جائزة circular economy start up award في مسابقة Eureka GCC من بين أكثر من 300 شركة ناشئة شاركت في المسابقة.
وفيما يتعلق بحالة المشروع قال الطالب يعرب الشريقي أن المنتج في مرحلة البحث والتطوير لإنتاج وتصنيع النموذج الأولي ونأمل الحصول على مستثمر للمضي قدما بالمشروع وإنتاج الحبر بكميات تجارية.
يُشار إلى أن مشروع "مِداد" يُعد أحد المشاريع المحتضنة في الحاضنة العلمية بالجامعة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا الممولة من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار ضمن برنامج دعم الحاضنات العلمية، يتكون أعضاء فريق المشروع من الطالب يعرب الشريقي واليقين المطرية ووسن الغافرية وغاية الربيعية وغسان الناعبي ونرجس الشيبانية وميرة السعيدية وزبيدة المعمرية والزهراء المعمرية وهبة العَودية.