حدَّدت وزارة الأوقاف ، موضوع خطبة الجمعة القادمة ١٧ من أكتوبر ٢٠٢٥م، الموافق ٢٥ من ربيع الآخر ١٤٤٧هـ، بعنوان: «بالتي هي أحسن».

وقالت وزارة الأوقاف: إن الهدف من هذه الخطبة التوعية بأخلاقيات وآداب الاتفاق والاختلاف، وضرورة استيعاب الآخر.

نص خطبة الجمعة اليوم 

الحَمْدُ للهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ، القَوِيِّ المَجِيدِ، وأَشهدُ أنْ لَا إلهَ إِلا اللهُ وحدَهُ لَا شَريكَ لَهُ، شَهَادَةً مَنْ نَطَقَ بِهَا فَهُوَ سَعِيدٌ، سُبْحَانَهُ هَدَى العُقُولَ بِبَدَائِعِ حِكَمِه، وَوَسِعَ الخَلَائِقَ بِجَلَائِلِ نِعَمِه، أَقَامَ الكَوْنَ بِعَظَمَةِ تَجَلِّيه، وَأَنْزَلَ الهُدَى عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَمُرْسَلِيه، وأَشهدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، شَرَحَ صَدْرَهُ، وَرَفَعَ قَدْرَهُ، وَشَرَّفَنَا بِهِ، وَجَعَلَنَا أُمَّتَهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ علَيهِ، وعلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَومِ الدِّينِ، وبعد،

فلقد جُبلتِ الحياةُ على التنوعِ، وخُلقَ الإنسانُ مختلفًا في طبعِهِ وفكرِهِ؛ فالاختلافُ فطرةٌ إنسانيةٌ، وسُنةٌ كونيّةٌ، وصنيعةٌ ربانيةٌ، وليس الاختلافُ نقيصةً بشريةً، فهو غِنىً حضاريٌ، به تُثرَى العقولُ،  وتُوسعُ الأفهامُ، فجوهرُ الحضارةِ يَكمنُ في قدرةِ المجتمعِ على استيعابِ هذا التباينِ، والارتقاءِ به من التصادمِ إلى التنافسِ المحمودِ، فحينما انعدمَ الاستيعابُ تحوَّلتِ البيوتُ إلى ساحاتِ نزاعٍ، والمجالسُ إلى ميادينِ شِقاقٍ، وتفككتْ أواصرُ المودةِ؛ فالعقليةُ الفارقةُ ترى في مخالفةِ الرأيِ فرصةً للتعلّمِ لا دعوةً للتعصبِ، ويدركُ أنَّ سعةَ الأفقِ تبدأُ من تفعيلِ فنِّ الاستيعابِ، ليتحققَ الودادُ، قالَ اللهُ تعالى: {وَلَو شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّة وَٰحِدَة وَلَا يَزَالُونَ مُختَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُم وَتَمَّت كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَملَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجمَعِينَ}.

أيُّها الكرامُ، لقد كان المنهجُ النبويُّ منهجًا أدبيًّا رفيعًا في إدارةِ الخلافِ، كانت قدرتُه على احتواءِ المخالفِ درسًا في الإيمانِ بأنَّ الحقَّ قويٌّ بذاتِهِ، ولا يحتاجُ إلى قسوةٍ لفرضِ سطوتِهِ، بل إلى سعةِ صدرٍ تجتذبُ المخالفَ وتذيبُ عنادَهُ، فكانتْ كلماتُه بلسمًا، ونظراتُه أمنًا، حتى لمن جاءَ يتربصُ أو يخاصمُ،  ألم يصلْ إليكم خبرُ هذا الأعرابيِّ الجافِي الذي جذبَ رداءَهُ بعنفٍ مطالبًا بحقِّه، فكان جزاؤُهُ ابتسامةً نبويةً وعطاءً وفيرًا، مُحوّلًا الفظاظةَ إلى إجلالٍ، ألم تسمعوا عن هذا الاحتواءِ النبويِّ للشابِّ الذي طلبَ الإذنَ بالزنا؟ فنورَ قلبَه ووجدانَه بالعفّةِ والطّهرِ، ألم يكتبِ التاريخُ عن وفدِ نجرانَ الذي أذنَ لهم الجنابُ المعظمُ بإقامةِ صلاتِهم في مسجدِه المكرّمِ؟ رافعًا بذلك قيمةَ التعايشِ بينَ الحضاراتِ، ومبينًا أنَّ السعةَ النبويّةَ تحوي الجميعَ، في حُسنِ تطبيقِ للقاعدةِ القرآنيةِ: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحسَنُ}.

أيُّها المكرّمون، لقد حَوّلتْ جماعاتُ التطرفِ الخلافَ من اختلافِ تنوعٍ إلى صراعِ وجودٍ، حين تعتبرُ رأيَها نصًّا، وتفسيرَها شرعًا، فلا تحتملُ أن يدورَ الفكرُ خارجَ فلكِها الضيقِ، فتفقدُ الفكرَ قدرتَه على النموِّ، وتغتالُ الرحمةَ باسمِ التّشددِ، في حالٍ من الانغلاقِ الفكريِّ، والاستئصالِ الممنهجِ لروحِ المراجعةِ والإصغاءِ؛ ليتحولَ المخالفُ إلى عدو، وتتحولَ الحجةُ إلى بدعةٍ، والحوارُ الهادئُ إلى ساحةٍ للتكفيرِ، حتى يغدو الإيمانُ نفسُهُ ملكيةً خاصةً لا يشاركُهم فيها أحدٌ، لتبقى مأساةُ التطرفِ أنَّهُ يقتلُ آدابَ الحوارِ باسمِ الحقيقةِ، ويجرّدُ العقلَ من حريّتِهِ باسمِ الالتزامِ، وقد تناسى أصحابُ هذا الفكرِ المتطرفِ هذا المبدأَ القرآنيَ: {لَآ إِكرَاهَ فِي ٱلدِّينِ}.

سادتي الكِرَام، إنَّ للاتفاقِ والاختلافِ أخلاقًا وآدابًا تضبطُ سيرَ الحوارِ، فعليكمْ بالصدقِ في النيةِ، وابحثوا عنِ الحقِ أينما كانَ، وتحلُّو بحُسنِ الاستماعِ، وتجنّبوا السخريةَ والتجريحَ، والبعدَ عن تضخيمِ نقاطِ التباينِ، أنصتوا قبل أن تحكموا، والتمسوا الأعذارَ قبل أن تتهموا، واحرصُوا على النقاطِ الجامعةِ؛ فالمؤمنُ الحقُّ لا يُخاصم بلسانه، بل يُحاور بحجّته، وتطبيقُ تلك الآدابِ صِمامُ الأمانِ للمجتمعاتِ، بها تُصانُ الوحدةُ منَ التّمزقِ، وتُحفظُ كرامةُ الأفرادِ؛ فالمجتمعُ الذي يتعلمُ أفرادُه استيعابَ بعضِهم البعضَ هو مجتمعٌ قويٌّ راسخٌ، يختلفون في الفروعِ لكنَّهم يتفقونَ على الأصولِ، فاختلافُ المشاربِ الفكريّةِ يمكنُ أنْ يكونَ مصدرًا للقوةِ إذا سُيِّر بالحكمةِ، فالاستيعابُ هو الركيزةُ التي تجعلنا نتعايشُ مع الآخرِ، حتّى لو لم نتفقْ معَهُ،؛لنكونَ جميعًا كالبنيانِ المرصوصِ الذي يشدُّ بعضُه بعضًا، رغم تنوعِ أجزائِه، قالَ اللهُ تعالى: {ٱدعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلحِكمَةِ وَٱلمَوعِظَةِ ٱلحَسَنَةِ وَجَٰدِلهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعلَمُ بِٱلمُهتَدِينَ}.

أيها الكرامُ، الاختلافُ سُنَّة كونيةٌ لا مفرّ منها، وميدانٌ رحبٌ تُختبر فيه العقولُ، وتُوزنُ به القلوبُ، وليسَ العيبُ أن نختلفَ، ولكن العيبَ أن نُسيءَ الأدبَ عند الاختلافِ، فلْيكن اختلافُنا كاختلافِ النجومِ في السماءِ: تباعدٌ في المواضعِ، ولكنها جميعًا تُنيرُ ليلَ الإنسانِ، لا تُظلمُه، فما أجملَ أن نختلفَ برقيّ، ونتناصحَ بحبٍّ، ونتذكّرَ أنّ الحقَّ أكبرُ منِ الأشخاصِ، وأنّ غايةَ الحوارِ الوصولُ إلى النورِ، لا إشعالَ النارِ.

*****

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَه وأشهدُ أنّ سيدَنا محمدًا رسولُ اللهِ، اللهم أدمِ الصلاةَ والسلامَ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلينَ سيدِنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين.

عبادَ اللهِ، إنّ التحرشَ من أكثرِ الجرائمِ الأخلاقيّةِ والاجتماعيّةِ فتكًا بنسيجِ المجتمعِ وأمانِهِ، فهو لا يمسُّ ضحاياه فقط، بل يهدمُ قيمَ الاحترامِ المتبادلِ، ويقوّضُ الثقةَ بينَ أفرادِ المجتمعِ، ويزعزعُ الشعورَ العامّ بالأمنِ، وتكمنُ خطورتُه في أنَّه يتجاوزُ الفعلَ الجسديَّ أو اللفظيَّ؛ ليصيرَ سلوكًا عدوانيًّا ممنهجًا، يعكسُ انحرافًا نفسيًّا وتربويًّا حادًّا.

أيُّها الكرامُ، التحرشُ كلمةٌ ثقيلةٌ، يرتجفُ لها قلبُ المؤمنِ، وتدمعُ لها عينُ الغيورِ، فهو عدوانٌ أثيمٌ، وغدرٌ قبيحٌ، ووصمةُ عارٍ في جبينِ الإنسانيةِ، قبلَ أنْ يكونَ إثمًا مبينًا في ميزانِ الشرعِ، فهو تطفّلٌ على حرماتِ الغيرِ، واعتداءٌ على خصوصياتِهم، وتلويثٌ لنقاءِ الأرواحِ، وسرقةٌ لصفوِ الأمنِ، فالمتحرشُ لا يدركُ عواقبَ فعلتِهِ، يزرعُ الخوفَ في القلوبِ، ويهدِمُ الثقةَ في النفوسِ، ويشوّهُ براءةَ الطفولةِ، ويجعلُ الضحيةَ أسيرةً لجراحٍ نفسيّةٍ قد لا تندملُ أبدًا، إنَّه يهزُّ كيانَ الأسرةِ والمجتمعِ، ويشيعُ الفاحشةَ والريبةَ، ويحوّلُ الأمنَ إلى قلقٍ، والطمأنينةَ إلى خوفٍ.

أيُّها النبلاءُ، لقد صدقَ الجنابُ المعظمُ حينَ وضعَ هذه القاعدةَ: «إذا لم تستحِ فاصنعْ ما شئتَ»، فأيُّ حياءٍ يبقى فيمنْ يترصّدُ الأبرياءَ، ويتلمسُ ثغراتِ الغفلةِ؛ ليمدّ يدَه الآثمةَ، أو يطلقَ لسانَه الفاحشَ، أو يرمقَ بعينِه الخائنةِ؟ إنَّه خوارٌ في الرجولةِ، وخواءٌ في الإيمانِ، وتجرؤٌ على حدودِ اللهِ، واستضعافٌ لمن أوجبَ اللهُ علينا حمايتَهُ.

أيُّها ألآباءُ، اغرسوا في قلوبِ أبنائِكم العفّةَ واحترامَ الحرماتِ، ولا تتهاونوا أبدًا في الإبلاغِ عن هذا الجرمِ، كونوا صوتًا لمن لا صوتَ له، ودرعًا واقيًا لكلِّ ضعيفٍ ومستضعفٍ، أظهروا الرفضَ القاطعَ لكلِّ متحـرشٍ، واجعلوا من مجالسِكُم وأسواقِكَم وشوارعِكم مناطقَ محرمةً على كلِّ من سوّلتْ له نفسُه العبثَ بسلامةِ الآخرينَ، وليكنْ هذا البيانُ النبويُّ المعظمُ طريقَ الخلاصِ: «منْ يضمنُ لي ما بينَ لِحْيَيهِ وما بينَ رجلَيهِ، أضمنُ له الجنةَ».

اللهمّ احفظ مصرَ وأهلَها من كلِّ مكروهٍ وسوءٍ. 

طباعة شارك موضوع خطبة الجمعة خطبة الجمعة صلاة الجمعة وزارة الأوقاف

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: موضوع خطبة الجمعة خطبة الجمعة صلاة الجمعة وزارة الأوقاف خطبة الجمعة

إقرأ أيضاً:

موضوع خطبة الجمعة غدًا 17 أكتوبر

خطبة الجمعة.. كشفت وزارة الأوقاف المصرية عن موضوع خطبة الجمعة غدًا الموافق 17 أكتوبر،25 ربيع الآخر 1447 هـ، والتي تأتي بعنوان «بالتي هي أحسن».

موضوع خطبة الجمعة:

الحمد لله حمدًا يوافي نعمَه، ويكافىء مزيدَه، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهِك، ولعظيم سلطانِك، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدِنا محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما بعد،

- 1 الاختلاف سنة كونية ربانية، وبيان أقسامه:

الحياةُ بدون اختلافٍ تصبح رتيبةً مملةً، تخيل أن أشكالَ الخلقِ، كلماتِهم، أفكارِهم، لباسِهم، حركاتِهم، تصرفاتِهم، الأشجارَ والأحجارَ، الليلَ والنهارَ… إلخ، جاءت على نمطٍ واحدٍ، لأضحت الدنيا جحيمًا لا تطيقُه النفوسُ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيَكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [القصص: 71-72]، لذلك كان “الاختلاف رحمةً بهم”.

وقد قرر القرآنُ الكريمُ أن الخلقَ يختلفون أيضًا في أذواقِهم، وصورِهم، وألسنتِهم، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]، وقال أيضًا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} [فاطر: 27].

بل حتى على مستوى أصابعِ الإنسانِ، فلا يوجد شخصٌ تتطابق بصماتُه مع غيرِه ولو كان أخاه لأمه وأبيه، قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 3-4].

هذا الاختلافُ الكونيُّ لا يعني الصراعَ والصدامَ، فهذا الكونُ على ما فيه من تنوعٍ واختلافٍ إلا أنك تجد فيه تناغمًا وتناسقًا بين جميعِ المخلوقاتِ قال تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3].

خطبة الجمعة:
حتى تكتمل هذه السنةُ الربانيةُ جعل اللهُ الناسَ تتباين وجهاتِ نظرِهم، وتختلف أفكارُهم قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48]. وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118].

قال ابن عطية: (المعنى: لجعلهم أمةً واحدةً مؤمنةً قاله قتادةُ حتى لا يقع منهم كفرٌ، ولكنه عز وجل لم يشأ ذلك، فهم لا يزالون مختلفين في الأديانِ، والآراءِ، والمللِ، وهذا تأويل الجمهور). أ.هـ [المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز].

وقال ابن عجيبة: ({أُمَّةً وَاحِدَةً}: متفقين على الإيمانِ، أو الكفرانِ، لكن مقتضى الحكمةِ وجودُ الاختلافِ، ليظهر مقتضياتُ الأسماءِ في عالمِ الشهادةِ، فاسمه “الرحيم والكريم”: يقتضي وجودَ من يستحق الكرمَ والرحمةَ، واسمه «المنتقم والقهار»: يقتضي وجودَ من يستحق الانتقامَ والقهريةَ.

وقوله: {وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ}: إن كان الضمير «للناس»: فالإشارةُ إلى الاختلافِ، واللامُ للعاقبةِ، أي: ولتكون عاقبتُهم الاختلافَ خلقهم، وإن كان الضميرُ يعود على «من»: فالإشارةُ إلى الرحمةِ، أي: إلا من رحم ربك، وللرحمةِ خلقه.

الإشارةُ: الاختلافُ بين الناس حكمٌ أزليٌّ، لا مَحِيدَ عنه، وقد وقع بين أهل الحقِّ وبين أهل الباطلِ، فقد اختلفت هذه الأمةُ في الفروعِ، فقد كان في أول الإسلام اثنا عشر مذهبًا، ولا تجد علمًا من «علم الفروع» إلا وبين أهله اختلافٌ، ففي ذلك رخصةٌ لأهل الاضطرارِ، لأن من قلد عالمًا لقي اللهَ سالمًا). أ.هـ [البحر المديد في تفسير القرآن المجيد].

أقر النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم الاجتهادَ الناشئَ عن الاختلافِ في فهمِ النصِّ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قال: قال النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزابِ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فأدرك بعضَهم العصرُ في الطريقِ، فقال بعضُهم: لا نصلي حتى نأتيَها، وقال بعضُهم: بل نصلي، لم يُرَدْ منا ذلك، فذُكِر للنبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم، فلم يعنِّف واحدًا منهم» [رواه البخاري].

نص خطبة الجمعة:
عن معاذِ بن جبلٍ أن النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم لما أراد أن يبعثه إلى اليمنِ قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاءٌ؟»، قال: أقضي بكتابِ اللهِ، قال: «فإن لم تجد في كتابِ اللهِ؟»، قال: فبسنةِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، قال: «فإن لم تجد في سنةِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، ولا في كتابِ اللهِ؟» قال: أجتهد رأيي، ولا آلو، فضرب رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم صدرَه، وقال: «الحمدُ للهِ الذي وفق رسولَ، رسولِ اللهِ لما يرضي رسولَ اللهِ» [رواه أبو داود، وأحمد].رفوف كتب

أقسام الاختلاف:

(أ) اختلافُ التنوعِ: الذي يتمثل في الأقوالِ المتعددةِ التي لا تضادَّ ولا تناقضَ بينها في المجملِ، وإنما تصب في معينٍ واحدٍ، وهذا ما يعرف بــ«الخلافِ اللفظيِّ»، وهو غالبُ نتاجِ الشريعةِ الغراءِ، وما تمخض عن أقوالِ الفقهاءِ والعلماءِ على اختلافِ مشاربِهم، وهذا الاختلافُ ليس مذمومًا إذا رُوعي فيه حدودُ الأدبِ والأخلاقِ، فهو نتيجةُ الاجتهادِ، وتفاوتُ الأفهامِ في مسائلَ متفاوتةٍ، بل إن صاحبَه مأجورٌ إذا كان من أهلِ العلمِ، فعن عمرو بن العاصِ أنه سمع النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم يقول: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ» [متفق عليه].

هذا الاختلافُ يقود إلى النجاحِ، وتثمر عنه الإنجازاتُ، ولا يفسد للودِّ قضيةً، وتحفظ فيه الحقوقُ، وتصان فيه الأعراضُ عن أن تُنتهك، ولهذا صنف رجلٌ كتابًا في «الاختلافِ»، فقال الإمامُ أحمدُ بن حنبلٍ: لا تسمِّه «الاختلافَ»، ولكن سمه «السعةَ».رفوف كتب

(ب) اختلافُ التضادِّ: وهو الأقوالُ والآراءُ المتضادةُ أو المتناقضةُ التي لا يمكن الجمعُ بينها، لأنها تمثل أصولَ الدينِ، وثوابتَه، أو تتعارض مع مقاصدِ الشريعةِ العامةِ، وهذا منفيٌّ ألبتةَ، لأن الله منزهٌ عن الخطأ والنسيانِ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4].

قال الإمامُ السبكيُّ: (والذي نقطع به أن الاتفاقَ خيرٌ من الاختلافِ، وأن الاختلافَ على ثلاثةِ أقسامٍ: أحدُها: في الأصولِ، ولا شك أنه ضلالٌ، وسببُ كل فسادٍ، وهو المشار إليه في القرآنِ. والثاني: في الآراءِ، والحروبِ، ويشير إليه قولُه صلى اللهُ تعالى عليه وسلم لمعاذٍ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمنِ: «تطاوعا ولا تختلفا»، ولا شك أيضًا أنه حرامٌ، لما فيه من تضييعِ المصالحِ الدينيةِ والدنيويةِ. والثالث: في الفروعِ كالاختلافِ في الحلالِ والحرامِ ونحوِهما، والذي نقطع به أن الاتفاقَ خيرٌ منه أيضًا). أ.هـ [روح المعاني للآلوسي].

2 - آداب وأخلاقيات الاختلاف:

أتقنا فنَّ الاختلافِ في كل شيءٍ من أمورِ الحياةِ لكن افتقدنا آدابَ الاختلافِ وأخلاقياتِه، تجاوزُ هذه الآدابِ يؤدي إلى إيغارِ الصدورِ، وزرعِ الشحناءِ والخصوماتِ، وتمزيقِ الوحدةِ والاجتماعِ، قال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].

وعن جابرٍ قال: سمعتُ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم يقول: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» [رواه مسلم].

«التحريشُ»: الإغراءُ على الشيءِ بنوعٍ من الخداعِ، أي: إيقاعُ الفتنةِ، والعداوةِ، والخصومةِ.

أولًا: الرجوعُ إلى كتابِ اللهِ، وسنةِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم المتمثلِ في فهمِ العلماءِ المنضبطين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].رفوف كتب

خطبة الجمعة:
{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].

{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10].

 

 

مقالات مشابهة

  • الأوقاف تطلق قوافل دعوية موسَّعة إلى مختلف محافظات الجمهورية
  • لنشر الفكر المعتدل.. الأوقاف تطلق قوافل دعوية موسعة لمختلف المحافظات
  • خطبة الجمعة اليوم بالتي هي أحسن للتوعية بأخلاقيات وآداب الاتفاق والاختلاف
  • «بالتي هي أحسن ».. الأوقاف تحدد نص خطبة الجمعة 17 أكتوبر 2025
  • موضوع خطبة الجمعة غدًا 17 أكتوبر
  • وزارة الأوقاف تحدد خطبة الجمعة القادمة
  • الأوقاف تنشر نص خطبة الجمعة بعنوان «بالتي هي أحسن»
  • «بالّتي هي أحسن».. الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة 17 أكتوبر 2025
  • «بالتي هي أحسن».. ننشر نَص موضوع خطبة الجمعة القادمة لوزارة الأوقاف