من المقرر أن تُجرى الانتخابات التشريعية المقبلة في العراق في 11 نوفمبر/تشرين الثاني القادم، حيث يتنافس أكثر من 7768 مرشحا صادقت المفوضية العليا للانتخابات على مشاركتهم رسميا لشغل 329 مقعدا في مجلس النواب، خُصص تسعة منها لممثلي الأقليات الدينية والقومية (من مسيحيين وإيزيديين وشبك ومندائيين وأكراد فيليين).

هيكلية المشهد تبدو، أو لعلها أُريد لها أن تبدو، منفتحة على الجميع ومتوازنة في الفرص، دون إقصاء أو تهميش. لكن، كما هي الحال في العراق دوما، فإن القواعد الرسمية لا تمثل سوى الصفحة الأولى من القصة، وليس كلها.

القضية الأبرز التي تواجه هذه الانتخابات ليست في عدد المرشحين ولا في نسب التمثيل، بل في حالة العزوف الشعبي التي تتسع بفعل الإحباط المتراكم من ضعف الحكم والفساد وتكرار دورات الفشل.

انخفاض نسبة المشاركة لن يكون مجرد رقم في السجلات، بل حكما ضمنيا على شرعية العملية السياسية بأكملها ومستقبلها إزاء شعب بدأت بوضوح نسب زيادة حجم الوعي السياسي عنده بما لا يمكن معه أن يتقبل أو يستمر في تقبل آليات الحكم المهلهلة في عراق بُنيت قواعد حضاراته كلها على المعرفة والعلم والقدرة.

المحللون يُحذّرون من تكرار ما يسمونه "إخفاقات الممارسة" في التجربة الديمقراطية العراقية؛ ففيما تشير دراسات "معهد واشنطن للسياسات" إلى أن السلطة الحقيقية في العراق كثيرا ما تختبئ خلف الستار، بيد سماسرة النفوذ الطائفي وشبكات المصالح والمليشيات والرعاة الأجانب، تؤكد المفوضية العليا أن الانتخابات المقبلة قد تُعيد شيئا من التوازن بين هذه القوى، لكنها في حقيقة الأمر لا تملك أي دليل على ذلك، بل إنها تعلم أن هذا التوازن (المنشود) لم يحِن وقته بعد.

تفاؤل المفوضية العليا للانتخابات يبدو هشا أمام الحضور الإيراني العميق في المشهد العراقي؛ حضور بات اليوم أكثر دبلوماسية وأقل صخبا، إذ تسعى طهران إلى إعادة صياغة أدواتها وتأثيرها ضمن مؤسسات الدولة لا خارجها.

إعلان

وفي ملف آخر غير بعيد، تقف الأجهزة الأمنية، الحكومية وغير الحكومية، أمام اختبار بالغ الصعوبة، في ظل عجزها عن ضبط السلاح المنفلت واحتواء اقتصاديات الجماعات المسلحة.

رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أراد أن يُظهر رغبته في فرض (هيبة) الدولة من خلال دعواته المتكررة للسيطرة على السلاح المنفلت لدى العديد من المليشيات الولائية المنفلتة، وهو، قبل غيره، اكتشف أن التوازن بين القوة والسيادة لا يزال هشا، وربما يكون هذا العامل هو الأكثر تأثيرا في مسار الانتخابات المقبلة.

الانتخابات العراقية ليست شأنا داخليا، فهناك عدة قوى وجهات تسعى لوضع لمساتها على الشكل النهائي للإطار السياسي المُفرز بعد هذه الانتخابات، وبنظرة سريعة يمكن حساب الجهات المتدخلة في هذا الحدث العراقي الذي يتزامن مع متغيرات محلية، إقليمية ودولية بالغة الخطورة، وهي:

أولا: الضغط الأميركي.. استقرار لا انتصار

الولايات المتحدة الأميركية تنظر إلى الانتخابات من زاوية مركبة: استقرار أمني يمنع عودة تنظيم الدولة، وتوازن سياسي لا يُسلم بغداد كليا لطهران، وتدفق آمن للطاقة. أدوات الضغط الأميركية هنا متعددة:

المال والدولار عبر تنظيم مزادات العملة والتحويلات، وهو صنبور يمكن تشديده أو إرخاؤه بما يُربك السوق العراقي واقتصاديات شعبه. المساعدات والتدريب الأمني المشروطان بالإصلاح وضبط السلاح. الدبلوماسية الانتقائية: دعم شخصيات وبرامج بدل الرهان على كتلة واحدة.
أميركا لا تبحث عن "نصر" في بغداد بقدر ما تبحث عن عدم الخسارة؛ أي عراق لا ينزلق إلى فوضى تُكلفها أمنيا واقتصاديا، ولا يتحول إلى منصة ضغط إيراني مباشر. ثانيا: الضغط الإيراني.. نفوذ مؤسس لا مجرد أذرع

لا يمكن الاشتباك العلني من قِبل إيران مع القوى الرافضة وجودها في العراق، لذا هي تميل إلى التأثير المؤسسي الهادئ:

الطاقة والاقتصاد (غاز وكهرباء وتجارة حدودية)، وهي مفاصل تجعل أي حكومة في بغداد محتاجة إلى تنسيق لا يُستغنى عنه. شبكات سياسية وعقائدية داخل مجلس النواب وخارجه، تضبط الإيقاع وتمنع نشوء أغلبية تناصب طهران العداء. المليشيات كورقة ردع قصوى عند الضرورة، لكنها باتت تُستخدم بحساب أدق؛ فالهدف ليس الانفجار، بل إدارة التوازن.

باختصار، فإن الانتخابات بالنسبة لطهران ليست حدثا، بل حلقة في سلسلة تثبيت قواعد نفوذ و"طمأنة حدود".

ثالثا: اللاعبون الإقليميون.. الجوار الذي لا ينعزل تركيا

أمن الحدود وملاحقة حزب العمال، ورقة المياه (نهرا دجلة والفرات)، والرهان الاقتصادي على طريق التنمية والربط البري نحو المتوسط. أنقرة تريد بغداد شريكا لا خصما، وقوة قادرة على كبح المجموعات المسلحة على حدودها.

الخليج

يتّجه المشهد الخليجي في علاقته بالعراق نحو تطبيعٍ إيجابي، تتقدمه مشاريعُ الربط الكهربائي والاستثماراتُ المشتركة، ولغةُ تهدئةٍ تتناغم مع مناخ الانفتاح الإقليمي، دون ارتهانٍ لكتلةٍ محددة بقدر ما يعبّر عن رغبةٍ في عراقٍ عربيِّ القرار. ويوازي ذلك حضورٌ استثماريٌّ ذكيٌّ يركّز على البنية التحتية والموانئ والمناطق الحرة والطاقة المتجددة، مستفيدًا من مساحات الفرص التي يتيحها الاقتصادُ العراقي المتنوع. وفي المقابل، تسعى المبادراتُ الخليجية إلى توظيف أدوات الطاقة والتمويل في مشروعات الغاز والبتروكيماويات، مدعومةً برصيدٍ دبلوماسيٍّ فاعلٍ يُستثمر عند تعقّد الملفات، ليشكّل المجموع في النهاية مقاربةً خليجيةً براغماتيةً متدرجةً نحو شراكةٍ إقليميةٍ أكثر توازنًا.

إعلان

هذه العواصم لا تخوض الانتخابات بأحزاب، لكنها تقيس النتائج بمدى قدرة بغداد على تبريد الجبهات: مع السلاح، ومع الاقتصاد، ومع الجوار.

رابعا: المليشيات.. الدولة بين الاحتواء والافتكاك

المليشيات فاعل لا يمكن القفز عليه: قوة مسلحة، اقتصاد ظل، حضور اجتماعي، وصلات إقليمية. أمامها خياران تاريخيان:

الاندماج المشروط: تحويل جزء معتبر إلى أطر نظامية تحت سقف الدولة، مقابل ضمانات سياسية واقتصادية. هذا يمنحها شرعية ومصالح، ويمنح الدولة فرصة ترتيب بيتها. الافتكاك إذا شعرت بأن الدولة تُفلت من يدها: عندها يرتفع منسوب العنف، وتتسع اقتصاديات التهريب والجباية، وتُستهدف البنى التحتية، وتُهاجر الرساميل والكفاءات، ويهتز سعر العملة، وتتحول الانتخابات إلى هدنة قصيرة لا مسار.

الثمن في حال فلتان الدولة من أيديهم (بمعنى تقلص مجالهم ونفوذهم) قد يكون موجات من التصعيد الأمني، وحملات ترهيب سياسي، وتفخيخا اقتصاديا عبر تعطيل المنافذ والمشاريع. لكن كلفته عليهم عالية أيضا: عقوبات، عزلة تجارية، وتآكل الحاضنة الاجتماعية المتعبة من اقتصاد القوة.

خامسا: المشاركة والشرعية.. الصندوق لا يكفي وحده

المعادلة المفصلية: نسبة المشاركة. كثافة تصويتية معقولة تمنح الشرعية، وتُسعف أي حكومة في التفاوض مع الداخل والخارج.

أما انخفاضها فيُحوّل مجلس النواب إلى مرآة مشروخة؛ شرعية قانونية من دون سند اجتماعي، وعندها تُدار السياسة أكثر فأكثر خارج المؤسسات.

سادسا: رئيس الوزراء بين ولاية أولى وولاية ثانية

رئيس الوزراء الحالي يقف على حبل مشدود، يريد ولاية ثانية تُكرّس صورته "إداريا إصلاحيا"، ويعرف أن الطريق يمر عبر ثلاثة امتحانات:

خدمة عامة ملموسة: كهرباء، رواتب، مشاريع. الناخب العراقي لا يطلب خطابا بقدر ما يطلب انتظاما في حياته. ضبط السلاح المنفلت من دون صدام شامل؛ أي ترويض بالتدرّج بدل الكسر. موازنة الإقليم: ألا يُحسب كليا على طهران أو واشنطن، وألا يخسر دعم العواصم العربية التي تملك المال والسوق.

ولاية ثانية للسوداني ممكنة حسابيا إذا توافرت صفقة كتل تتبادل الضمانات: استمرار برامج الخدمات، عدم تهديد المصالح الأمنية لشركاء الداخل والخارج، وتوزيع "مطمئن" للمناصب.

سابعا: خرائط ما بعد النتائج، ثلاثة سيناريوهات ترسيخ الوضع القائم: إعادة توزيع محدود للمقاعد داخل الكتل نفسها، حكومة توافق واسع، ومناخ تهدئة إقليمي نسبي. النتيجة: إدارة يومية محسنة بلا تحولات بنيوية. توازن جديد داخل المعسكرات: تعاظم وزن تيارات إصلاحية/مستقلة داخل أحزاب قائمة، ما يفرض حوكمة أشد على المال والسلاح، ويؤذن بمسار اندماج تدريجي للمليشيات. اهتزاز أمني/سياسي: مشاركة هزيلة، خلافات حادة على رئاسة مجلس النواب والحكومة، وتدافع ميداني بين أجنحة مسلحة. هنا يدخل العامل الخارجي ليضبط الإيقاع؛ واشنطن وطهران، تجنبا للانفجار، فيما يقيس الجوار العربي استعداده للإنقاذ المشروط.

أخيرا وليس آخرا، خبرة العراق تقول:

لا دولة بلا توازن داخلي، ولا توازن بلا عقد اجتماعي، ولا عقد بلا عدالة في السلطة والثروة والسلاح. والانتخابات، أي انتخابات، مرآة لا محرّك؛ تُظهر استقامة الوجوه إذا كانت البنية سليمة، وتُضاعف الاعوجاج إذا كان الأساس مائلا. فقد تُنجب الصناديق برلمانا جديدا، لكن سؤال العراق أبعد: من يحكم ما بعد النتائج؟

إن نجح العراقيون في تثبيت معادلة بسيطة: "سلاح واحد، مال مراقَب، ومصالح منفتحة مع الجوار" تصبح الانتخابات بداية سياسة، لا نهاية موسم. وإن تعذر ذلك، فستبقى الدولة معلقة بين النص والظل؛ تُكتب القواعد في الجريدة الرسمية، وتُدار السلطة في مكان آخر.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: غوث حريات دراسات مجلس النواب فی العراق

إقرأ أيضاً:

اغتيال المسؤول العراقي صفاء الحجازي باستهداف موكبه شمال بغداد

اغتيال المسؤول العراقي صفاء الحجازي باستهداف موكبه شمال بغداد

مقالات مشابهة

  • هل يعيد مقتل المشهداني شبح الاغتيالات وفوضى الأمن للعراق؟
  • تقرير أوروبي:أمريكا لن تعترف بنتائج الانتخابات العراقية
  • الدينار العراقي يتحسن قليلاً في بغداد وكوردستان
  • اغتيال مرشح لمجلس النواب العراقي شمال بغداد
  • مقتل مرشح للانتخابات البرلمانية العراقية بانفجار عبوة ناسفة شمال بغداد
  • اغتيال المسؤول العراقي صفاء الحجازي باستهداف موكبه شمال بغداد
  • تحالف العزم:اغتيال المشهداني تصعيد خطيــر يمس أمن الدولة ويهدد مصداقية الانتخابات
  • اغتيال مرشح للأنتخابات البرلمانية العراقية بانفجار عبوة ناسفة
  • اغتيال مرشح للبرلمان العراقي بتفجير استهدف سيارته (شاهد)