بين الحرية والرقابة: هل انتهى عهد الإنترنت الحر؟
تاريخ النشر: 18th, October 2025 GMT
رباب محمد الحسن
في 9 أكتوبر 2025، أثار بافيل دوروف، مؤسس تطبيق تلغرام، جدلاً واسعًا بمنشوره على منصة إكس، حيث أعلن أن “عهد الإنترنت الحر انتهى”، محذرًا من تحول الإنترنت إلى أداة سيطرة حكومية بدلاً من فضاء لتبادل المعلومات الحرة. جاء تصريحه في سياق انتقاد تدابير حكومية في دول غربية، مثل الهويات الرقمية في المملكة المتحدة، فحوصات العمر في أستراليا، وقانون ” Chat Control” في الاتحاد الأوروبي، معتبرًا إياها تهديدًا للخصوصية والحرية التعبيرية.
لماذا قد نكون مع تصريحات دوروف؟
تصاعد المراقبة الحكومية يهدد الخصوصية
دوروف يشير إلى تدابير ملموسة تُقوّض الخصوصية الرقمية. على سبيل المثال، قانون “Chat Control” في الاتحاد الأوروبي، الذي يُلزم فحص الرسائل الخاصة قبل التشفير، يُعتبر من قبل خبراء التشفير، مثل 500 عالم وقّعوا على رسالة مفتوحة، تهديدًا للتشفير النهائي (end-to-end encryption). هذا التشفير هو حجر الزاوية في تطبيقات مثل تلغرام وواتساب وسيغنال، ويحمي المستخدمين من التجسس الحكومي أو القرصنة. إذا تم تمرير القانون، فقد يُخلق ثغرات أمنية تُستغل ليس فقط من الحكومات بل من مجرمي الإنترنت. هنا، يبدو تحذير دوروف مشروعًا، خاصة مع دعم شخصيات مثل فيتاليك بوتيرين وإيلون ماسك، الذي حذر من “المراقبة الجماعية”.
قمع حرية التعبير تحت ذريعة الأمان
دوروف يسلط الضوء على قوانين غامضة تُستخدم لقمع الرأي. في المملكة المتحدة، أُبلغ عن اعتقال 30 شخصًا يوميًا في 2023 بسبب “رسائل مسيئة”، وفي 2024 سُجن 118 بسبب منشورات تحريضية. في ألمانيا، مداهمات الشرطة لما يعرف بـ “ترولز الإنترنت” أثارت انتقادات بأنها تستهدف النقد السياسي. هذه الأمثلة تدعم وجهة نظره بأن الحكومات تستخدم ذرائع مثل “السلامة” أو “حماية الأطفال” لتوسيع الرقابة، مما يخلق “تأثيرًا مبردًا” يحد من حرية التعبير. كمستخدمين، قد نشعر بالقلق من أن نقد المسؤولين قد يُعرضنا للملاحقة.
دوافع دوروف الشخصية تعزز مصداقيته
اعتقال دوروف في فرنسا عام 2024 بتهم تتعلق برفض تعاون تلغرام مع السلطات يُظهر أنه يواجه تداعيات مباشرة لدفاعه عن الخصوصية. في مقابلته مع تاكر كارلسون، أكد أنه لن يتنازل عن مبادئه حتى لو كلفه ذلك حريته. هذا يجعل تحذيراته تبدو نابعة من تجربة شخصية، وليست مجرد دعاية لتلغرام. كما أن نجاح حملات مثل “Fight Chat Control”، التي أوقفت تصويت القانون الأوروبي مؤقتًا، يُظهر أن هناك دعمًا شعبيًا وعلميًا لمخاوفه.
الإنترنت الحر كإرث ثقافي
دوروف يصف الإنترنت بأنه “وعد بتبادل المعلومات الحرة” بناه الآباء، وأن جيلنا قد يكون الأخير الذي يتمتع بهذه الحرية. هذه الرؤية رومانسية ولكنها تتردد صداها مع الكثيرين الذين يرون الإنترنت كفضاء للإبداع والنقاش الحر. تدابير مثل الهويات الرقمية في المملكة المتحدة أو فحوصات العمر في أستراليا قد تبدو بريئة، لكنها تُمهد لمراقبة شاملة، مما يدعم فكرته عن “عالم ديستوبي مظلم”.
لماذا قد نكون ضد تصريحات دوروف؟
تثير تصريحات بافيل دوروف، مؤسس تطبيق “تلغرام”، جدلاً واسعًا بعد تحذيراته من تحول الإنترنت إلى “أداة سيطرة نهائية”. إلا أن كثيرين يرون في خطابه قدرًا من المبالغة والدرامية التي قد تثير الخوف أكثر مما تعزز النقاش البنّاء.
أولًا: المبالغة في تصوير الواقع
يتجاهل دوروف التقدم التشريعي في مجال حماية البيانات، مثل اللائحة العامة لحماية البيانات في الاتحاد الأوروبي، التي عززت خصوصية المستخدمين وقيّدت استغلال بياناتهم. كما أن تجميد مشروع “Chat Control” في أكتوبر 2025 يعكس وجود مقاومة ديمقراطية حقيقية لأي محاولات رقابة مفرطة. لذا، بدلاً من الحديث عن “نهاية الإنترنت الحر”، يبدو أننا أمام مرحلة توازن جديدة بين الحرية والأمان.
ثانيًا: الانتقائية في النقد
يركّز دوروف انتقاداته على الغرب، بينما يتجنب الحديث عن الرقابة في دول أخرى مثل روسيا “بلده الأم” التي حظرت “تلغرام” بين عامي 2018 و2020 بعد رفضه تسليم بيانات المستخدمين، في حين تُمنع أيضًا منصات كبرى مثل تويتر وفيسبوك. هذا الصمت الانتقائي يُضعف مصداقيته، خاصة أنه يعيش في دبي، التي تفرض بدورها قيودًا على بعض خدمات الإنترنت. لذلك، يُنظر إلى خطابه أحيانًا كجزء من صراع مصالح بين الشركات التقنية والحكومات أكثر من كونه دفاعًا مبدئيًا عن الحرية.
ثالثًا: مرونة التكنولوجيا
التاريخ الرقمي يثبت أن الإنترنت قادر على التكيّف مع محاولات السيطرة، فكل وسيلة رقابة تفرز أدوات مضادة مثل الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN) وتقنيات التشفير المتقدم. هذه المرونة تجعل فكرة “التحكم الكامل” في الإنترنت شبه مستحيلة، وتؤكد أن التطور التكنولوجي نفسه هو آلية مقاومة طبيعية لأي نزعة للهيمنة.
رابعًا: نمو اللامركزية
تتجه التكنولوجيا اليوم نحو حلول لا مركزية مثل Web3 وتقنيات البلوك تشين (Blockchain)، التي تُوزّع السلطة على المستخدمين بدلًا من تركيزها بيد جهة واحدة. هذه البنية اللامركزية تجعل من الصعب على أي حكومة أو شركة كبرى التحكم الكامل في تدفق المعلومات أو احتكارها. ومع توسع هذه التقنيات، يصبح من الممكن بناء فضاء رقمي أكثر حرية واستقلالًا عن الهياكل المركزية التقليدية.
خامسًا: الديمقراطية الرقمية
لا تزال القوانين المنظمة للمحتوى الرقمي في الدول الديمقراطية تخضع لنقاشات علنية ومداولات سياسية، وغالبًا ما يكون هدفها المعلن حماية المستخدمين من التضليل وخطاب الكراهية، لا فرض السيطرة. وهذا يُظهر أن المسار الرقابي لا يسير في اتجاه واحد، وأن هناك توازنًا مستمرًا بين الحماية والحرية، حتى وإن بدا هذا التوازن هشًّا أحيانًا.
سادسًا: وعي المستخدمين
أصبح المستخدم اليوم أكثر إدراكًا لقيمة الخصوصية والأمان الرقمي، ما يمكّنه من الضغط على الشركات والحكومات لاعتماد سياسات أكثر شفافية ومسؤولية. هذا الوعي الشعبي هو السدّ الأول في وجه أي محاولة للهيمنة على الفضاء الإلكتروني، كما أنه يدفع نحو نمو ثقافة رقمية نقدية ترفض التسليم لأي سلطة مطلقة، سواء كانت حكومية أو تكنولوجية.
الخلاصة: تصريحات بافيل دوروف حول نهاية الإنترنت الحر تلقي الضوء على قضية معقدة. من ناحية، هو محق في الإشارة إلى قوانين قد تهدد الخصوصية وحرية التعبير، خاصة مع اتجاهات مثل فحص الرسائل أو الهويات الرقمية. من ناحية أخرى، الحاجة إلى مكافحة الجرائم الإلكترونية تجعل بعض التنظيمات ضرورية، كما يرى معارضوه. بدلاً من الانحياز، يبقى السؤال: كيف يمكن تحقيق الأمن دون التضحية بالحريات؟ هذا الجدل يتطلب نقاشًا عامًا وشفافًا لضمان أن الإنترنت يظل فضاءً للحرية والأمان معًا.
الوسومرباب محمد الحسنالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الإنترنت الحر
إقرأ أيضاً:
النضال من أجل الحرية كل لا يتجزأ
يمثل الأستاذ أحمد نجيب الشابي الذي تم الزج به أخيرا في السجن عن سن تناهز الـ 81 سنة نموذجا للنضال الكلي الذي لا يتجزأ من أجل الحرية والديمقراطية والتعايش السلمي ووحدة المجتمع ومدنية الدولة، ورفض الاستثناء والإقصاء والاستئصال وتخوين المخالفين أو ظلمهم.
كيف لا وقد باشر النضال منذ ستينيات القرن الماضي في الجامعة التونسية بالانتماء لحزب البعث العربي الاشتراكي وحوكم بـ 11 سنة سجنا قضى منها سنتين وتم وضعه في الإقامة الجبرية بمدينة باجة التي سرعان ما غادرها إلى الجزائر ثم إلى فرنسا حيث انسحب من البعث وخاض تجربته السياسية الثانية مع منظمة آفاق العامل التونسي دفع ثمنها حكما غيابيا بـ 12 سنة سجنا ثم كانت تجربته السياسية الثالثة بتأسيس التجمع الاشتراكي التقدمي الذي تحول بعد 1987 إلى الحزب الديمقراطي التقدمي والذي جسد من خلاله قناعاته بالتنوع الفكري والسياسي داخل البلاد وفي الكيانات السياسية وعلى رأسها الحزب الديمقراطي التقدمي الذي كان رأس حربة في مقاومة استبداد نظام بن علي وفساده وكان لقياداته وعلى رأسهم الأستاذ نجيب الشابي دورا أساسيا في تحرك 18 أكتوبر 2005 وتوحيد المعارضة في هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات التي صدرت عنها وثائق مهمة حول مدنية الدولة والمرأة والحريات العامة والفردية. والتي مثلت تجربة رائدة في العمل السياسي المشترك وساهمت في تنضيج الاوضاع لقيام ثورة الحرية والكرامة دون أن تتطور إلى جبهة سياسية وطنية بعد أن اختلفت السبل بمكوناتها إثر ثورة الحرية والكرامة.
ويبقى الأستاذ نجيب شخصية محترمة ثابة على المبادى والقيم الإنسانية بقطع النظر عن الاتفاق معه أو الاختلاف لما له من رصيد نضالي ديمقراطي ثري وغني بالدروس والعبر وله من الخيارات والمواقف التي طبعت مسيرته، وقد تعرض لها في كتابه "المسيرة والمسار / ما جرى وما أرى" وهي ككل تجربة بشرية فيها الصواب والخطأ والأكيد أنها نابعة إما من اجتهاد جماعي مع رفاق دربه أثناء كل تجاربه أو اجتهاد شخصي من منطلق تقدير المصلحة الوطنية ودوره في التأثير في الأوضاع وصناعة الأحداث كفاعل سياسي له طموحاته السياسية المشروعة دون ارتباطات أو ارتهانات أو زبونية سياسية.
إن معرفته من قريب تؤكد عمق إنسانيته وتقديره لغيره والتزامه الصارم بعهوده ووعوده ونزاهة معاملاته والرجولة في تصرفاته التي تعد عملة نادرة في هذا الزمن الرديء كما تدحض عنه عدة انطباعات تبدو سلبية وهي في حقيقتها غير ذلك.وهو الرجل الذي يقبل النقد لمسيرته ومواقفه ويستمع بإنصات ويقبل المراجعة والتصويب وقد حصل ذلك في أكثر من مناسبة في حوارات مطولة معه حول بعض مواقفه وتحالفاته أيام الثورة وأثناء عشرية الانتقال الديمقراطي. ولعل من أبرزها موقفه من الإسلاميين الذين يتباعد عنهم أحيانا حد التناقض والصراع ويتقارب معهم أحيانا أخرى حد التماهي والتحالف فهو ناقد لمنطلقاتهم الفكرية والسياسية ومجادل لهم فيها من داخل نسقها بقطع النظر عن وجاهة آرائه من عدمها ومنافس لهم سياسيا وبشراسة في الاستحقاقات الانتخابية ومدافع عنهم في المحاكم مؤمن بحقهم في المشاركة السياسية، حيث سجل له التاريخ السياسي التونسي الحديث مرافعتة الشهيرة عن حركة الاتجاه الإسلامي وقيادتها في محكمة أمن الدولة سنة 1987 وكتاباته في مجلة الموقف التي كان يديرها سنة 1988 حول ضرورة ضمان الحريات السياسية للجميع بما في ذلك الإسلاميين حد تشبيه بعض خصومه له بنجيب الله آخر حاكم لأفغانستان موالي للاتحاد السوفييتي الذي حصل بينه وبين المجاهدين الأفغان تقارب أثناء إرغامهم للسوفييت على الانسحاب.
إن معرفته من قريب تؤكد عمق إنسانيته وتقديره لغيره والتزامه الصارم بعهوده ووعوده ونزاهة معاملاته والرجولة في تصرفاته التي تعد عملة نادرة في هذا الزمن الرديء كما تدحض عنه عدة انطباعات تبدو سلبية وهي في حقيقتها غير ذلك.
أما بخصوص تعاطيه مع المرحلة الحالية التي يعود فيها إلى السجن بعد ما يقارب النصف قرن من النضال السياسي السلمي الديمقراطي، حيث كان تقديره لما حصل سليم من الوهلة الأولى حين اعتبر أن تدابير 25 تموز / يوليو 2021 انقلابا على الديمقراطية رغم ما صاحب العشرية من سلبيات كان من أشد معارضيها لأن الحل بالنسبة إليه يكمن في إصلاح النظام الديمقراطي من داخله بآليات الديمقراتية نفسها وليس بإجراءات من خارجها.
وقد اعتبر من البداية أن وحدة المعارضة مدخل أساسي لعودة الديمقراطية فانطلق في مشاورات وتنسيق مع بعض الأطراف السياسية والشخصيات التي يلتقي معها في الموقف لتأسيس إطار سياسي نضالي إلا أن المواقف لم تكن ناضجة لتك الخطوة الأمر الذي جعله يتجه لتأسيس جبهة الخلاص الوطني مع بعض مكونات مواطنون ضد الانقلاب الذين تقدموا أشواطا في العمل السياسي والميداني المشترك ومع أطراف وشخصيات أخرى، وقد مثلت خير تعبير عن قناعته الراسخة بالنضال السلمي مع جميع مكونات الساحة السياسية بما في ذلك الإسلاميين (النهضة / ائتلاف الكرامة / العمل والانجاز) من أجل عودة النظام الديمقراطي والاحتكام لإرادة الشعب وقد جعل الجبهة إطارا مفتوحا للجميع انخراط أو تنسيقا إلا من استثنى نفسه.
لهذه الأسباب يتم سجنه رغم أنه أحد أبرز شيوخ النضال الديمقراطي في تونس وأحد أهم مدارسه المخضرمة وذات المرجعيات الفكرية والسياسية المتنوعة دون اعتبار لسنه الذي قضى منه ما يزيد عن النصف قرن من النضال دون كلل أو ملل أو تردد أو تراجع، وتجاوز كل العقبات والمطبات وهو اليوم يضرب مثالا حيا للتضحية من أجل المبادئ والأفكار والقناعات التي لا تتجزأ ولا تقبل المساومة .
*كاتب وناشط سياسي تونسي