البرهان.. يلعب بالنار
تاريخ النشر: 20th, October 2025 GMT
البرهان.. يلعب بالنار
أحمد عثمان جبريل
البعض يظن أن بإمكانه أن يروض اللهب، وأن يمشي بين جمر المصالح دون أن تمسّه النار.. لكن النار، كما نعلم جميعًا، لا تحابي من يلهو بها، ولا ترحم من يخادعها.. والبرهان، في مغامرته السياسية، لا يبدو فقط كمن يلعب بالنار، بل كمن يغذيها بحطب المراوغة والتناقض.
❝ المستبد عدو الحق، عدو الحرية، وقاتل الأمم.
. لأنه لا يرى في الناس سوى أدوات لسلطانه. ❞
— عبد الرحمن الكواكبي
1.منذ أن انطلقت الثورة السودانية، ظل السودان معلقًا بين أمل التغيير وكوابيس الماضي.. ومع كل لحظة مفصلية، كانت هناك فرصة للعبور نحو المستقبل، لكن دائمًا ما يعترض هذا المسار من يظنون أنهم أقدر على احتكار الزمن والتاريخ.
البرهان ليس قائدًا انتقاليًا بقدر ما هو لاعب سياسي يبدّل الأقنعة، كمن يبدل ملابسه، يمارس لعبة البقاء على الحافة، ويظن أن بإمكانه أن يمسك كل الخيوط دون أن تنقطع إحداها بين يديه.
2.اليوم، وبين أنياب حرب طاحنة ومجتمع دولي يتوق لتسوية تنقذ ما تبقى من السودان، يحاول البرهان أن يجمع بين طرفين متناقضين: “العالم الخارجي الباحث عن مداخل للسلام، وقوى الإسلاميين التي لفظها الشعب بثورته وأسقطها من سدة الحكم”. يحاول أن يرضي الطرفين، أن يعقد اتفاقات في الخارج، ويصالح خصوم الثورة في الداخل، دون أن يسأل نفسه السؤال الحاسم: “كيف يمكن لرجل أن يكون على وفاق مع خصمين لا يجتمعان؟”.
3.في هذا الرهان الخطير، يبدو البرهان كمن يضع يده في يد الإسلاميين ظنًا أن فيهم نجاة.. لكنه يتجاهل درسًا بسيطًا من التاريخ القريب: “لو كان الإسلاميون سندًا حقيقيًا لما خذلوا عمر البشير في ذروة سطوته”.. فهل يعقل أن يكونوا عونًا له اليوم، وهو في خضم حرب تقسم البلاد وتنهك مؤسساتها؟ إنهم ليسوا سندًا، يا برهان بل نار كامنة، وإن أول من تشتعل فيه هو من ظن أنها تمنحه الدفء.
4.وفي المقابل، لا يخفي المجتمع الدولي شروطه: “وقف الحرب، بناء دولة مدنية، وإبعاد فلول النظام البائد من المشهد السياسي”.
ورغم ذلك، لا يزال البرهان يراهن على إمكانية الاحتفاظ بالإسلاميين كورقة داخلية، بينما يوقّع مع الخارج على تفاهمات لن تقبل بهم شركاء في المستقبل.. وهنا يكمن التناقض: لا يمكن أن تُقنع الخارج بأنك شريك موثوق وأنت تُبقي على ذات العقلية التي كانت سببًا في خراب السودان لعقود.
5.ما لا يريد البرهان الاعتراف به هو أن السياسة لا تحتمل الخداع طويل الأمد. نعم.. لا يمكن ارتداء وجهين إلى الأبد.. فكل محاولة للتقرب من الإسلاميين تُفقده شرعيته أمام الخارج، وكل انفتاح نحو المجتمع الدولي يُشعرهم بالخيانة.. ومع الوقت، تتآكل مصداقيته من كل الجهات، وتضيق المساحة التي يمكنه المناورة فيها.. النهايات معروفة: “من لا يملك وضوح الرؤية، لن يحظى بسلامة الطريق”.
6.البرهان الآن في قلب كماشة، فإن أرضى الإسلاميين، خسر المجتمع الدولي.. وإن استجاب لشروط الخارج، ثار عليه حلفاؤه في الداخل.. لكنه يرفض أن يحسم موقفه، فيبقى معلقًا، بين جبهتين متناقضتين، يحاول أن يشتري الوقت، وأن يصنع توازنًا مستحيلًا.
ومع كل يوم يمضي، تشتد الخيوط حول عنقه، وتقترب النار التي أشعلها من أطراف عباءته.
7.وهكذا، إن استمر البرهان على هذا المسار، فلن يخسر فقط ثقة الشعب السوداني، بل سيفوّت فرصة تاريخية لإخراج البلاد من نفق الحرب. وسيكتبه التاريخ لا كقائد أنقذ وطنًا، بل كمن سرق ثورة، وخذل الحالمين بها، وأعاد إنتاج العصبة التي ضحّى الشعب بأغلى ما يملك لإسقاطها.
8.وهكذا، إذا استمر البرهان على هذا الدرب، فلن يسقط وحده، بل سيسقط معه حلم وطنٍ كامل.. وحينها لن يخلده التاريخ كمن قاد مرحلة انتقال، بل كمن خان الثورة، واستعاد بقايا الاستبداد، ظنًا أن في ذلك نجاة.. لكنه سينتهي كما انتهى كل من سبقوه: “في هوامش التاريخ، كمجرد طاغية ظن أنه قادر على خداع الجميع، فخدعه الجميع، واحترق بالنار التي أشعلها بيديه”. إنا لله ياخ.. الله غالب.
الوسومأحمد عثمان جبريل الإسلاميين البرهان السودان الفترة الانتقالية المجتمع الدولي ثورة ديسمبر عبد الرحمن الكواكبي عمر البشيرالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الإسلاميين البرهان السودان الفترة الانتقالية المجتمع الدولي ثورة ديسمبر عبد الرحمن الكواكبي عمر البشير المجتمع الدولی
إقرأ أيضاً:
سقوط من الداخل
أحمد الفقيه العجيلي
حين تنهار دولة أو تندثر حضارة، يتسابق كثيرون في توجيه أصابع الاتهام نحو الخارج: غزو، استعمار، حصار اقتصادي، مؤامرات دولية... ولكن التاريخ، حين يُقرأ بعين ناقدة لا عاطفية، يروي قصة مختلفة: الحضارات لا تُقتل من الخارج، بل تموت من الداخل.
قد تبدو الأسباب الظاهرة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، لكن السبب الجذري غالبًا ما يكون أعمق: فساد متجذر، ظلم مقنّن، دين مهمّش، ورسالة ضائعة. وهذه ليست استنتاجات فلسفية، بل حقائق أكدها القرآن الكريم نفسه، حين تحدث عن مصير الأمم السابقة. لم يربط هلاكها بعجزها عن التسلح، ولا بضعف مواردها، بل بإعراضها عن رسالات السماء، وانغماسها في الفساد والطغيان.
في لحظات السقوط، لا تكون الهزيمة أمام العدو؛ بل أمام الذات. الخلل يبدأ حين تفقد الأمة بوصلتها، وتختار أن تعيش بلا مبادئ، أو تستبدل دينها بمعايير دنيوية لا تصمد في وجه التحديات.
انظر مثلًا إلى الدولة العباسية في أواخر عهدها، كانت تمتلك من الثروات والمعارف ما يفوق أعداءها، لكن الترف والفساد والصراعات الداخلية جعلت بغداد لقمة سائغة في يد المغول. لم يُسقطها هولاكو بقدر ما أسقطها ضعفها الداخلي.
وقبلها، الأندلس، التي كانت منارة علم وثقافة، انقسمت على نفسها إلى دويلات متناحرة، حتى ضاعت بين مطامع الخارج وخيانات الداخل. لم تسقط لأنها كانت ضعيفة عسكريًا، بل لأنها فقدت وحدتها وقيمها وأصبحت مهيأة للسقوط.
الحضارات الحقيقية لا تبنى فقط على الجيوش والسلاح، بل على القيم والعدل والإيمان.
وما لم تتمسك المجتمعات بأسسها الأخلاقية والدينية، فإن كل ما تبنيه من عمران وقدرة سيبقى هشًا، ينتظر صدمة واحدة لينقضّ.
لذا، فإن السؤال الأهم ليس: من أسقطنا؟ بل: لماذا كنا قابلين للسقوط؟ وهل ما زلنا نملك فرصة للنجاة من الداخل قبل أن نُهزم من الخارج؟