عربي21:
2025-12-12@21:24:04 GMT

الإعجاب أولا ثم الفتوى: ظاهرة مشايخ التيك توك

تاريخ النشر: 25th, October 2025 GMT

يفتح المستخدم تطبيق تيك توك بحثا عن لحظة تسلية سريعة، يمرر إصبعه على الشاشة بلا وعي كامل، فإذا بمقطع لشيخ يرتدي عمامة أنيقة وجلبابا مكويا ولحية كذلك، يتحدث بنبرة حاسمة عن حكم شرعي معقد في أقل من 60 ثانية. لا سياق، لا تفصيل، لا مراجع، فقط فتوى سريعة، ومؤثرات بصرية جذابة، وموسيقى خلفية خفيفة. يضغط المستخدم على زر الإعجاب، يشارك المقطع، ثم يمرر بسرعة نحو فيديو راقص أو وصفة طعام.

هكذا، في أقل من دقيقة، يكون قد "تلقى" درسا دينيا، تفاعل معه، ونسيه تقريبا، كل ذلك دون أن يغادر أريكته.

هذا ليس مشهدا استثنائيا، بل صار جزءا من اليومي الرقمي لملايين المستخدمين. والسؤال الذي يطرح نفسه ليس فقط: كيف وصلنا إلى هنا؟ بل الأهم: ماذا يحدث للدين حين يُختزل إلى "محتوى"، وللداعية حين يتحول إلى "مؤثر"؟

من المنبر إلى المنصة.. اقتصاد الانتباه يعيد صياغة الدين

تراجعت المؤسسات الدينية التقليدية عن لعب دورها كوسيط مرجعي، وانحسر حضور الدرس المسجدي المطوّل، وتضاءل تأثير البرامج التلفزيونية الدينية أمام زحف المنصات الرقمية. في هذا الفراغ، برزت فئة جديدة من الدعاة، لا تنتظر اعترافا مؤسسيا، ولا تخضع لمسار تعليمي تقليدي، بل تستمد شرعيتها من شيء واحد: عدد المتابعين.

برزت فئة جديدة من الدعاة، لا تنتظر اعترافا مؤسسيا، ولا تخضع لمسار تعليمي تقليدي، بل تستمد شرعيتها من شيء واحد: عدد المتابعين
هنا، لم يعد الشيخ صوتا هادئا في درس مسجدي، ولا وجها مألوفا في برنامج متلفز، بل صار صورة سريعة، ونبرة محسوبة، ومقطعا لا يتجاوز الدقيقة، يندرج بين مقطع ترفيهي وآخر موسيقي. لا تُقدَّم الموعظة بتأنٍ أو منهجية، بل تُقذف كعبارة سريعة، أو فتوى مجتزأة، ضمن إيقاع منصات مثل "تيك توك"، حيث تحكم الخوارزميات مسار الرسالة، وتُقاس السلطة بعدد المشاهدات لا بعمق الإحالة أو أصالة المرجع.

ليست المسألة إذن مسألة أدوات فقط؛ بل هي مسألة اقتصاد سياسي للرؤية. المنصات الرقمية لا تكتفي بنقل الخطاب، بل تعيد إنتاج شروط إمكانه. تفرض إيقاعا، وطولا محددا، ونبرة معينة، وشكلا من التفاعل يُقاس بالثانية. وتحت هذا الضغط، تتغير آليات إنتاج الفتوى والوعظ: من السرد المطوّل إلى الجملة المركزة، من النقاش إلى الإلقاء، من الاحتجاج إلى التهييج. وهو ما يغيّر مضمون الدين نفسه، لا طريقته فقط، ويعيد تعريفه كأداة شعورية أو هوية رقمية، لا كمجال للفهم والتزكية والتراكم.

يتضافر ذلك مع تحولات في البنية النفسية للتلقي، فالمستخدم اليوم لا ينتظر المعرفة، بل يبحث عن الشعور: الطمأنينة اللحظية، الإجابة السريعة، أو حتى الانبهار من قدرة المتحدث على التعبير الخاطف. إنه لا يصغي ليسائل أو يتأمل، بل ليشعر بأنه تلقّى ما يشبه الحقيقة، دون أن يكلّف نفسه اختبارها. وهنا يظهر أثر ما يسميه باحثو السلوكيات بميكانيزمات "الإشباع السريع"، حيث تتراجع الحاجة إلى البناء المعرفي لصالح الرغبة في الإحساس الفوري بالوضوح، وهو وضوح خادع، يُصنع بأسلوب تقديم لا بمضمون راسخ.

تحت هذه الشروط، يصبح الكلام الديني خاضعا لمنطق لا يعترف بالعمق إلا إذا كان قابلا للتحويل إلى "لحظة"، ولا يعترف بالحجة إلا إذا كانت قابلة للاستهلاك العاطفي الفوري. وهكذا تُستبدل "المشروعية" بـ"الشعبية"، ويغدو التفاعل بديلا عن الثقة. يتحول الداعية من ناقل لموروث إلى مؤثر رقمي، يصوغ صورته وخطابه بما يناسب طبيعة المنصة، لا بالضرورة بما يناسب مقاصد العلم أو شروط الفهم.

الدعاة الجدد.. شراكة واعية مع التفاهة

والأخطر من ذلك، أن جزءا لا يُستهان به من الدعاة أنفسهم لم يعودوا ضحايا سلبيين لهذا المنطق، بل أضحوا شركاء واعين فيه. لقد حصلت مصالحة ضمنية بين بعضهم وبين التفاهة، تُبرَّر باسم "الوصول إلى الجمهور" أو "مواكبة العصر"، لكنها في جوهرها استسلام لإغراء الشهرة السريعة.

يكتشف هؤلاء الدعاة أن السطحية "تشتغل"، أنها تحقق الأرقام، وتصنع الحضور، وتوفر رأس المال الرمزي الذي تمنحه المنصة. لا ينتجون محتوى سطحيا لأنهم لا يعرفون أفضل منه، بل لأنهم أدركوا قواعد اللعبة: الفتوى المثيرة للجدل تنتشر أسرع من الموعظة المتأنية، العنوان الصادم يجلب مشاهدات أكثر من التحليل المتزن، والمقطع القصير المشحون عاطفيا يحقق تفاعلا أكبر من الشرح المنهجي.

وبذلك، ينقلب الداعية من منتِج للمعنى إلى صانع محتوى، ومن حامل رسالة إلى مدير علامة تجارية شخصية. وفي هذا الانقلاب، لا تُختزَل الرسالة فحسب، بل تُفرَغ من ثقلها، وتُعاد صياغتها بما يتوافق مع منطق الترند والتفاعل الفوري.

يصبح المشهد الديني الرقمي سوقا مفتوحا للخطابات الفردية، كلٌّ منها يقدّم نفسه بوصفه "الحقيقي"، ويجد في المنصات الرقمية ساحة لتكثيف حضوره. وهو ما يجعل هذا المشهد مشبعا بالخطابات المتنافسة، المتناقضة أحيانا، والتي لا يحتكم حضورها إلى معيار علمي أو معرفي، بل إلى مدى قابليتها للانتشار. المرجعية نفسها أصبحت منتجا متغيرا، تحدده رغبة الجمهور لا سوية المحتوى.

في هذا السياق، تبدو السلطة الدينية وكأنها تفقد مركزيتها التاريخية، إذ لم يعد الاعتراف بها يمر عبر مؤسسات أو مسارات تعليمية، بل يُمنح افتراضيا وفق منطق المتابعة والإعجاب والمشاركة. وهو ما ينسجم مع تحولات أوسع في بنية السلطة المعاصرة، حيث يتراجع الشكل الهرمي لمصلحة أشكال مسطحة من التأثير، تنتجها أدوات الوصول، لا عمق المضمون.

التدين المجزأ.. حين يصبح الدين قائمة تشغيل عشوائي

على مستوى التلقي، ينتج هذا السياق ما يمكن وصفه بـ"التدين المجزأ". يقتبس الفرد فتوى من هنا، وحكمة من هناك، ويجمعها في تصور خاص به، لا يستند إلى مرجعية متماسكة، بل إلى خليط من المقاطع والعبارات والشخصيات المتعددة، التي لا يجمعها إطار منهجي مشترك.

المفارقة أن هذا الشكل الجديد من التديّن لا يقتصر على جمهور جديد أو جمهور غير متعلم، بل يمتد حتى إلى شرائح لها خلفية دينية أو معرفية، لكنها غدت تعيش داخل مناخ رقمي لا يسمح بالتأني، ويُغري بالسهولة. وهذا ما يفسر انتشار أنماط من الفهم الديني الملتبس، الذي يجمع بين الجرأة في الإفتاء، والضبابية في المفاهيم.

فأمام الكم الهائل من المقاطع والمقولات، تتآكل القدرة على التمييز، وتضعف الحاجة إلى التحليل، ليحلّ محلها نوع من التلقي العاطفي، الذي يكتفي بالانطباع، وينصرف بسرعة نحو المقطع التالي. وهو ما يتوافق مع ما تشير إليه دراسات الهوية المعاصرة، من أن الأفراد في السياقات الرقمية يعيدون تشكيل هوياتهم استهلاكيا، لا بنائيا؛ أي أنهم يختارون ما يناسب حاجاتهم اللحظية، لا ما ينسجم بالضرورة مع نسق معرفي أو أخلاقي متكامل.

ما لم ندرك أن الخطاب الديني الرقمي ليس مجرد "نسخة أخرى" من الخطاب التقليدي، بل هو شيء آخر تماما، يُنتَج بشروط مختلفة، ويُستهلَك بطرق مختلفة، ويُعيد تشكيل المعنى الديني نفسه بطريقة مختلفة، فإننا سنظل عاجزين عن التعامل مع هذا الواقع، لا بالنقد الفعّال، ولا بالبديل المقنع
لكن الإشكال لا يكمن في سطحية المحتوى وحدها، بل في أثره التراكمي على التصورات الدينية ذاتها. فعبر التكرار، تبدأ بعض الأفكار المختزلة في الترسّخ، وتغدو بديهيات لا تُساءل. تتشكل بذلك صور نمطية عن الحلال والحرام، عن "الداعية المثالي"، عن شكل الخطاب المقبول، دون أن تمر هذه التصورات بمرحلة مراجعة أو نقاش. وهكذا، يُعاد تشكيل الخيال الديني للأفراد بطريقة بصرية، سريعة، عاطفية، لا تخلو من التناقضات، لكنها تبدو مقنعة داخل منطق المنصة.

إن ظاهرة مشايخ التيك توك ليست مجرد تعبير عن انتقال الدعوة إلى أدوات جديدة، بل هي أعراض لتبدل في شروط القول الديني نفسه: في من ينتجه، ولمَن يُنتج، وكيف يُستهلك. إنها انعكاس لعصر لم يعد يهتم كثيرا بالمرجعية، بقدر ما ينشغل بإيقاع الظهور، وإدارة الانتباه، وترتيب الأولويات الشعورية.

فهذا التحول لا يعيد تشكيل الشيخ فحسب، بل يعيد تشكيل التدين نفسه. ولا يكفي أن نرثي ما كان، أو أن ندين ما أصبح. المطلوب هو فهم آليات هذا التحول، وشروط مقاومته، أو على الأقل: شروط إنتاج بديل لا يذوب في منطق المنصة، ولا ينعزل عنها تماما.

فالمعركة ليست بين "الأصالة" و"المعاصرة"، بل بين أشكال مختلفة من الحضور: بعضها يحفظ للمعنى كثافته، وبعضها يحوّله إلى ضجيج، وما لم ندرك أن الخطاب الديني الرقمي ليس مجرد "نسخة أخرى" من الخطاب التقليدي، بل هو شيء آخر تماما، يُنتَج بشروط مختلفة، ويُستهلَك بطرق مختلفة، ويُعيد تشكيل المعنى الديني نفسه بطريقة مختلفة، فإننا سنظل عاجزين عن التعامل مع هذا الواقع، لا بالنقد الفعّال، ولا بالبديل المقنع.

ربما المطلوب اليوم ليس استعادة ما كان، بل اختراع ما ينبغي أن يكون: خطاب يستثمر الأدوات دون أن يستسلم لمنطقها، ويصل إلى الجمهور دون أن يذوب في ذائقته، ويحفظ للمعنى وزنه دون أن يحوّله إلى وعظ ثقيل لا يُطاق. والسؤال الذي يبقى معلقا: هل ما زال ذلك ممكنا؟

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء تيك توك الدين أصالة المعاصرة الدعوة الدين الدعوة أصالة معاصرة تيك توك قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء سياسة سياسة مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة دون أن وهو ما

إقرأ أيضاً:

البذاءة بوصفها إستراتيجية جمالية للمقاومة وتفكيك السلطة

د. ناهد محمد الحسن

تشير تجارب التاريخ الثقافي إلى أن الفضاء الفني غالبًا ما يستعيد القدرة على قول ما تعجز السياسة عن الإفصاح عنه. تتقدّم الفنون لتصدح باللغة التي لا تستطيع السلطة سماعها او تحمّلها. فاللغة المصفّاة بنت السلطة، أما اللغة المنفلتة فهي بنت الحرية، ولا يجتمع الاثنان في حنجرة واحدة. من هنا، يصبح تتبّع البذاءة في الفنون أشبه بتتبّع التصدعات الدقيقة التي تظهر في جدار السلطة. فكلما اتسعت التصدعات، ارتفع صدى الضحكات، سقطت الهيبة، تراجع الخوف وتطوّرت المقاومة.

فعندما تهيمن السلطة على القنوات الرسمية للخطاب، يصبح الفن بما يتضمنه من سخرية، انحراف لغوي، فجور رمزي، وتوظيف مقصود للابتذال وسيطًا معرفيًا يسمح بإعادة إنتاج الحقيقة خارج الأطر التي تفرضها البنى السلطوية. ولهذا، فإن دراسة البذاءة في الفن ليست بحثًا في الذوق، بل في إمكانات المقاومة داخل الخطاب الجمالي. فكل انحراف لغوي عن المعايير المفروضة هو — في لحظات التحولات السياسية — فعل مقاومة يكشف حدود السلطة ويعيد توزيع القوة الرمزية داخل المجتمع.

من المسرح الإغريقي إلى التنظير الحداثي: جذور البذاءة بوصفها نقدًا للسلطة

يبيّن تحليل مسرح أريستوفان _ الذي نشأ في القرن الخامس الميلادي_أن استخدام الألفاظ الجنسية الفجة لم يكن ناتجًا عن رغبة في الإضحاك وحده، بل عن سعي لفضح النفاق الأخلاقي والسياسي عبر تفكيك “هالة الخطاب الرسمي”. فالمحظور اللغوي، حين يُستدعى إلى المسرح، يعمل كـ أداة لكسر احتكار الطبقات الحاكمة لمعنى الأخلاق. بعد ذلك بقرون، وضع ميخائيل باختين إطارًا تنظيريًا لهذا الدور في مقولته حول الكرنفالية، حيث يتعرض النظام الرمزي السائد لانقلاب مؤقت يسمح للخطاب الشعبي بالهيمنة على الفضاء العام. موضحا للجمهور معنى اللحظة التي بمقدورهم فيها ان يسقطوا الملك، بحدّ الضحكة وليس بحد السيف.

ففي الكرنفال:

– يضحك الشعب على السلطان،

– تتلاشى الفواصل بين “المهذب” و”الوقح”،

– وتتحول البذاءة إلى آلية لنزع هالة السلطة.

في هذه اللحظة، يصبح الضحك أكثر ثورية من أي وثيقة سياسية، لأنه يطيح بالخوف — والسخرية تنزع الشرعية من السلطة أكثر مما تفعل المعارضة الرسمية. ويُظهر هذا التحليل أن البذاءة في سياق الكرنفال ليست انحرافًا أخلاقيًا، بل آلية لتفكيك الهرمية السياسية والاجتماعية عبر تعليق الحدود بين “الرفيع” و”الوضيع”. تدعم الدراسات اللاحقة في السخرية السياسية العربية هذا الطرح، مؤكدة أن الهزل — وخصوصًا حين يتضمن انحرافًا لغويًا — يخلق “عالمًا موازيًا” يتخفف من الرقابة ويتيح إمكانات جديدة للتعبير عن الرفض (Badarneh, 2011؛ Elsayed, 2021).

 الأدب والفجور اللغوي: إعادة تشكيل الذائقة وتقويض البنية الأخلاقية الرسمية

يمثل الأدب أحد أهم الحقول التي استخدمت البذاءة لتحدي السلطة الرمزية. رواية د. هـ. لورانس Lady Chatterley’s Lover (1928)   لم تُحاكم لأنها جنسية فقط، بل لأنها فضحت نفاق الأخلاق الطبقية في إنجلترا ما بعد الحرب العالمية الأولى. فالعلاقة بين امرأة من النخبة وخادم من الطبقة العاملة كانت جريمة رمزية تهدم المعمار الاجتماعي. القضاء اعتبر الرواية “بذيئة”، لكن التاريخ اعتبرها — لاحقًا — نقطة تحول في تحرير الجسد من رقابة الدولة. البذاءة هنا كانت تكشف ما تحجبه اللياقة: العطب الحقيقي في المجتمع.  وفي السياق ذاته، تُظهر دراسة أعمال هيلدا هيلست أن المزج بين السامي والوضيع ليس مجرد خيار جمالي، بل تقنية لزعزعة النسق الأخلاقي وإعادة توزيع السلطة داخل اللغة. وقد فسّرت قراءات باختين ومافيسولي هذا التداخل بوصفه آلية تكشف البنية القمعية التي تتخفى خلف اللغة المنقّاة.

في كتابه الوصايا المغدورة، يذهب ميلان كونديرا أبعد من الدفاع عن البذاءة — فهو يراها جزءًا من “حكمة الرواية”، التي تكشف السخافات الكبرى للسلطة من خلال ما يبدو تافهًا أو مبتذلًا. يلمس كونديرا جوهرًا مهمًا حين يؤكد أن  البذاءة ليست خروجًا عن اللغة، بل عودة اللغة إلى حقيقتها الأولى: أن تقول ما يخشاه الجميع.

يتضح من ذلك أن البذاءة في الأدب تؤدي وظيفة مزدوجة: نقد البنية الأخلاقية الرسمية، وفتح المجال لوعي مغاير يتجاوز الحدود التي ترسمها المؤسسات الثقافية والسياسية.

الموسيقى والراب: البذاءة كأرشيف للغضب الاجتماعي ( (NTM  نموذجًا

أشار محمد عباس — مشكورًا — إلى أهمية فرقة الراب الفرنسية Suprême NTM كنموذج لتسيس البذاءة. فالاسم ذاته (Nique Ta Mère) يشكل تصريحًا احتجاجيًا يتجاوز الخطاب الأدبي أو الصحفي، ليعبر عن الغضب البنيوي المتولد من تهميش الضواحي الفرنسية. تُظهر الأدبيات المعنية بثقافة الهيب–هوب أن البذاءة هنا ليست إساءة شخصية، بل لغة احتجاجية تشكّل هوية مشتركة ضد عنف الشرطة، العنصرية المؤسسية، الفقر، واستبعاد الفئات المهمشة من المشاركة السياسية.

في أغنية (شرطة Police)، حوّلت هذه الفرقة الشتيمة إلى وثيقة احتجاج سمعي. وعندما حوكمت المجموعة بسبب كلماتها، تحوّلت المحاكمة إلى اعتراف رسمي بأن اللغة يمكن أن تهدد النظام أكثر مما يهدده العنف المادي. لماذا تهمنا تجربة NTM؟

لأنها تجسّد ما يقوله باختين ومارك ليفين و(سارة عوض)، أن الفن يولد سلطة رمزية موازية، وأن اللغة البذيئة قد تكون الشكل الأوضح لانتزاع الاعتراف بوجود الهامش. وهذا يتقاطع مع دراسات الفن الاحتجاجي في المنطقة العربية (LeVine, 2015؛ Awad et al., 2017)، التي تُظهر أن ثقافة الهامش تنزع إلى استخدام أشكال لغوية “غير مصقولة” بوصفها وسيلة لمخاطبة السلطة مباشرة دون وساطة.

البذاءة في الفنون البصرية والشارعية: تفكيك الهيمنة الرمزية

تكشف البحوث الحديثة في الفن السياسي في شمال إفريقيا وغرب آسيا (2023–2024) أن الفضاءات الفنية غير الرسمية — الشوارع، الجدران، الفضاء الرقمي — أصبحت منصات مركزية لإعادة إنتاج خطاب مقاوم. في فلسطين مثلًا، يوضح Alım (2020)  أن الجداريات تشكل بنية رمزية مضادة تحافظ على الذاكرة وتؤسس لخطاب سياسي موازٍ. وفي مصر، رهنت Elsayed (2021) على أن السخرية الرقمية تمثل “كرنفالًا جديدًا” يتيح لغات هجينة تمزج بين الفحش والتهكم والصورة الرقمية لإنتاج مقاومة يومية. وتشير الكتب الحديثة عن الفن المقاوم (Art Against Authoritarianism in SWANA, 2024؛ الى أن الأنظمة السلطوية تميل إلى معاقبة النكتة أكثر من معاقبة المقال السياسي، لأنها: تنتشر خارج هياكل السيطرة، تُسقط الخوف، وتحوّل الجمهور إلى منتج للمعنى. وبذلك يتحول الفعل الفني البذيء إلى تحدٍّ مباشر للهالة السلطوية.

السياق السوداني: السخرية الشعبية كآلية لإسقاط الهالة السياسية

تُعد تجربة صحيفة حلمنتيش (أواخر ثمانينيات القرن العشرين) واحدة من أبرز الأمثلة السودانية على استخدام السخرية اللاذعة — وأحيانًا البذيئة — بوصفها آلية تفكيك رمزي للسلطة في سياق ديمقراطي هش. وينسب اليها نقل الصحافة السودانية المنضبطة الى البذاءة، في مفارقة مثيرة للتنظيم االإسلاموي الذي كان يتضرع للشعب السوداني بالطهرانية، مزاحما لأحزاب طائفيّة راسخة في القداسة، مشهرا الفن والكاريكاتير كأدوات لنزع القداسة عن منافسيه. وصول حلمنتيش إلى المجال العام لم يكن مجرد دخول صحيفة ساخرة، بل كان تفكيكًا مباغتًا لمنظومة الوقار السياسي التي حكمت المجال العام لعقود. وهو ما ينسجم مع ما تقترحه الأدبيات المتعلقة بالكرنفال الباختيني: أن السخرية — بما فيها من تهكّم وانحراف لغوي — تعمل على تعليق التسلسل الهرمي مؤقتًا، بما يسمح بإعادة توزيع السلطة الرمزية بين “المرموق” و”العادي”. اعتمدت حلمنتيش على هجاء سياسي مباشر، وعلى تفكيك الصورة المثالية للقيادات التقليدية عبر لغة شعبية غير منقّاة.

هذا النوع من الخطاب وفقا للباحثين، لا يقصد الإساءة الشخصية، بل يعمل — وفق تحليل زعزعة الرسميّة المفرطة للخطاب السياسي، كشف التوتر بين “القيمة الأخلاقية” المعلنة والسلوك السياسي العملي، وإعادة سلطة التقييم إلى الجمهور بدلاً من النخب. وفي إحدى اللحظات البالغة الدلالة — التي كثيرًا ما تُذكر في الذاكرة السياسية السودانية — هي قبول الإمام الصادق المهدي كتابة مقدّمة لكتاب احتوى الرسوم الساخرة التي استهدفته. تجسيد لفكرة أساسية في الثقافة الديمقراطية: أن السخرية جزء من المجال العام، وأن الهالة الرمزية للزعيم ليست ملكًا خاصًا، بل خاضعة للفحص الشعبي. هذا السلوك من جانب القيادات يشكّل مواجهة مختلفة تمامًا عن ردود الفعل السلطوية التي غالبًا ما تلاحق السخرية بالعقاب. وفي المفهوم الباختيني، هذه اللحظة تمثل قبول الحاكم بأن يدخل — طوعيًا — في فضاء الكرنفال، أي فضاء التساوي المؤقت بين السلطة والجمهور.

المفارقة التاريخية: عودة السلاح إلى أصحابه

تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر أن الخطاب الساخر البذيء عاد مجددًا، لكن هذه المرة موجَّهًا إلى الحركة الإسلامية نفسها — التي كانت قد استخدمت حلمنتيش في الثمانينيات لتفكيك خصومها. وهذا يعزز فرضية مركزية في هذا البحث:

البذاءة ليست ملكًا لجماعة سياسية، بل ظاهرة لغوية–اجتماعية تتغير وظيفتها بحسب موقعها داخل الحقل السلطوي. فحين تنتقل الجماعة من الهامش إلى السلطة، تتحول البذاءة التي كانت فاعلة في مقاومتها إلى أداة موجَّهة ضدها، لأن الشروط التاريخية التي شَرعنت استخدامها آنذاك تنقلب عليها. وهكذا تُظهر حلمنتيش ما يسميه باختين بـ”قانون انقلاب الخطاب“: فباختين يرى أن الكلمات لا تنتمي لمن نطقها أول مرة، بل هي كيانات حيّة تتغير دلالتها حسب من يقولها، ولمن يقولها، وفي أي ظرف، وبأي نبرة. هذه الحركة المستمرة تجعل الخطاب غير ثابت وقابلًا دائمًا للانقلاب على سياقه الأصلي. الكلمة التي وُلدت خاضعة قد تتحول إلى كلمة متمرّدة، والكلمة التي صُنعت لتمجيد السلطة قد تنقلب فجأة إلى أداة للسخرية منها.

المفارقة التاريخية: السلاح يعود إلى أصحابه

بعد عقود، وفي ثورة ديسمبر، وُجِّه الخطاب البذيء إلى الإسلاميين أنفسهم — الذين سبق أن استخدموا حلمنتيش ضد خصومهم. هذا يؤكّد قانونًا لغويًا–سياسيًا مهمًا: البذاءة لا تظل سلاحًا بيد طرف واحد. حين تتغير موازين السلطة، يتغير اتجاه الشتيمة. فالبذاءة و إن وضعت في بنى تحت قشرة الدماغ في التشريح، ودفعت الى هامش المدينة، ووصمت بالانحطاط والقذارة فستبقى الخصم الناصع في مواجهة السلطة.

تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر، كما وثّقها الخطاب الشعبي، أن البذاءة لم تكن مجرد رد فعل انفعالي، بل استراتيجية رمزية لإزالة الخوف والتحرر. وقد سبق وقدمت في حلقة لي في يوتيوب أيام الثورة تحليلا عن احتفاء الجماهير بعبارة غير لائقة القتها سيّدة ثائرة على الهواء مباشرة في قناة الجزيرة، لم تصدم المذيع وحده والمشاهدين، ولكنها الرصاصة التي خرّبت اللعبة. (يمكنك مشاهدة الحلقة هنا: https://youtu.be/y0CC8jksQxQ?si=P06xNUSxdab_7moz)

فتحت الثورة الباب الخلفي كما قال غوفمان واسقطت الستارة عن مسرحية الأدب المدّعاة. احتشد الاف المتابعين لصفحة ماما و لأنّها دون أن تحصل على شهادة في العلوم السياسية اين يمكن ان تنصع بذاءتها، فلم تصفق للسلطة، ولكنها دون ان تقرأ ماركس انحازت لمظالم طبقتها. وهكذا دمجت ثورة ديسمبر مظالم الشعب وحولت اللغة الصادمة إلى أداة لإعادة تعريف المسموح والممنوع في الخطاب العام، عبر تفكيك الهالة التي بنتها الأنظمة المتعاقبة حول رموزها. هذا يتسق مع ما تقترحه النظريات الحديثة في تحليل الحركات الاجتماعية حول دور اللغة المنحرفة في بناء التضامن وكسر الاحتكار الأخلاقي للخطاب الرسمي.

ختاما:

تكشف المراجعات التاريخية والنظرية والعملية أن البذاءة — حين تُستخدم في سياق جمالي مقصود — تعمل كآلية مقاومة تُعيد توزيع السلطة داخل الفضاء العام. فهي: تكسر احتكار السلطة للخطاب، تفتح المجال لأصوات الهامش، تعيد صياغة الحدود الأخلاقية بطريقة تُنتج معرفة بديلة، وتضمن خلق فضاء نقدي خارج سيطرة الدولة. وهكذا، تتحول البذاءة في الفن من “انحراف لغوي” إلى استراتيجية معرفية وجمالية وسياسية تستعيد بها الجماهير حقها في الكلام. أن البذاءة ليست انحرافًا عن الأخلاق، بل انحرافًا عن السلطة. وأن الفن — حين يقترب من حافة الممنوع — يحرر اللغة من السقف الذي تفرضه الدولة، المجتمع، والدين. الفن ليس مجرد مرآة، بل مطرقة لغوية تعيد تشكيل ما نجرؤ على قوله… وما نخشى قوله.

نواصل..

الوسومد. ناهد محمد الحسن

مقالات مشابهة

  • ضبط أعداد من المتسولين بفئات وأعمار سنية مختلفة وتحويلهم إلى النيابة المختصة
  • جامعة المنصورة تختتم فعاليات الموسم الثالث للتعاون مع الأزهر الشريف وتكرّم مشايخ منطقة الوعظ بالدقهلية
  • الحريري يحيي ذكرى اغتيال جبران تويني واللواء فرنسوا الحاج: الدولة أولاً
  • من 6 أشهر إلى سنتين.. لماذا عدلت المحكمة حبس التيك توكر أم سجدة
  • البذاءة بوصفها إستراتيجية جمالية للمقاومة وتفكيك السلطة
  • الكفاءة والشفافية أولاً.. تشكيل لجنة موسعة لاختيار مدير إدارة تعليمية بالقليوبية
  • بعد غد.. «الإنشاد الديني» تقدم باقة من الأناشيد والابتهالات في حفل على مسرح الجمهورية
  • فيديوهات وأرباح قادتهم للسجن.. أم سجدة تلحق بهدير عبدالرزاق وسوزي بسبب التيك توك
  • بالصور.. الجيش يوقف 45 شخصًا من جنسيات مختلفة
  • ذكرى رحيل كروان الإذاعة المصرية والإنشاد الديني الشيخ طه الفشني