عندما أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية فرض عقوبات على الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو، بدا القرار في ظاهره مجرد إجراء اقتصادي أو سياسي عابر، لكنه في العمق يعكس صراعًا أوسع بين السيادة الوطنية والاستقلال السياسي من جهة، وبين الهيمنة الأمريكية والصهيونية السياسية من جهة أخرى. فبيترو لم يُعاقَب لأنه فشل في مكافحة المخدرات كما زعمت واشنطن، بل لأنه اختار مسارًا مستقلاً لم تعد فيه كولومبيا مجرد تابع مطيع للبيت الأبيض أو أداة لتحقيق مصالح خارجية.

منذ وصوله إلى الحكم، سعى بيترو إلى إعادة رسم سياسة بلاده داخليًا وخارجيًا. رفض أن تتحول كولومبيا إلى قاعدة عسكرية أمريكية أو منصة لتطبيق السياسات الخارجية التي تخدم مصالح إسرائيل أولًا. كما تبنى نهجًا مختلفًا في مكافحة المخدرات، بعيدًا عن الحرب الأمنية التقليدية التي فشلت لعقود في الحد من إنتاج الكوكايين، واستهدفت فقط الفلاحين الفقراء في الريف، وجعلتهم أسرى للفساد والعنف المستمر.

الموقف الأبرز الذي أثار غضب واشنطن، كان موقف بيترو من العدوان الإسرائيلي على غزة. فقد أعلن بوضوح أن الاحتلال الصهيوني يرتكب جرائم ضد الإنسانية، ورفض صمت المجتمع الدولي حيال المجازر التي ترتكب هناك. هذا الموقف لم يكن مجرد تصريح إعلامي، بل كان إعلانًا رمزيًا بأن كولومبيا الجديدة لن تكون شريكًا في الصمت الدولي، ولن تُوظف سياساتها لخدمة مصالح قوى خارجية على حساب الحق والعدالة.

العقوبات الأمريكية، بزعم أنها مرتبطة بمكافحة المخدرات، لم تكن سوى غطاء لتبرير فعل سياسي بحت. بيترو، الذي خاض معركة حقيقية ضد شبكات التهريب، وقدم حلولًا تنموية للفلاحين بدل محاربتهم بالعنف، أصبح فجأة متهمًا بحماية المخدرات. المفارقة هنا تكشف الوجه الحقيقي للسياسات الأمريكية: العقوبات ليست ضد المخدرات بقدر ما هي ضد استقلال القرار السياسي ورفض الركوع للهيمنة الخارجية.

واشنطن، التي تغرق في استهلاك المخدرات وتغذي سوق الكوكايين الكبرى، لا تهتم بالمزارع الكولومبي الفقير أو بتطوير حلول تنموية. ما يزعجها حقًا هو أن بيترو يعيد صياغة المعادلة.. يجعل من مكافحة المخدرات مشروعًا تنمويًا، ويوقف العبث السياسي الذي طال القرى والريف لعقود. وفي الوقت نفسه، يتخذ موقفًا واضحًا بشأن فلسطين ويُدين الاحتلال الإسرائيلي، وهو موقف يهدد النفوذ الصهيوني داخل السياسة الأمريكية ويضع واشنطن في موقف حساس أمام حلفائها.

العقوبات هنا ليست مجرد أدوات مالية، بل رسالة سياسية ورمزية لكل من يفكر في الاستقلال الوطني أو ينتقد الاحتلال الصهيوني أو يدافع عن كرامة بلاده. بيترو لم يكتفِ بالدفاع عن بلاده فقط، بل أصبح رمزًا للكرامة والسيادة في أمريكا اللاتينية. صرخته الشهيرة: “لن نتراجع خطوة واحدة ولن نركع أبدًا” ليست مجرد كلمات، بل إعلان لمعركة أوسع ضد الهيمنة والإملاءات الأمريكية والصهيونية السياسية التي تتغلغل في القرار الخارجي للمنطقة.

التاريخ يوضح أن العقوبات الأمريكية ضد القادة المستقلين ليست جديدة، فقد تعرض لها كاسترو في كوبا، وتشافيز في فنزويلا، وموراليس في بوليفيا، ومادورو لاحقًا. والآن جاء الدور على بيترو، ليس لأنه شجع إنتاج المخدرات، بل لأنه تحدى النظام القديم ورفض أن تكون بلاده أداة سياسية، وهو ما يزعج واشنطن ويضعف النفوذ الصهيوني الذي يعتمد على سياسات البيت الأبيض التقليدية.

العقوبات الأمريكية ضد بيترو تمثل أيضًا امتحانًا للكرامة والسيادة. فهي تحاول إرهاب الشعوب وقادتها، لكنها غالبًا ما تصنع رموزًا جديدة للمقاومة. بيترو اليوم يمثل هذه الرمزية: رئيس اختار مواجهة الإمبراطورية بكلمة واضحة، وبسلوك مستقل، وبموقف لا يساوم على السيادة، متحولًا إلى صوت لكل شعوب العالم التي تؤمن بأن الحرية والسيادة لا تُشترى ولا تُستعار.

من هنا يظهر جليًا أن العقوبات الأمريكية ليست مرتبطة بالمخدرات كما تُسوَّق، بل هي انتقام سياسي ورمزي، لأنه اختار السيادة ووقف مع فلسطين ورفض أن تكون كولومبيا مجرد تابع. بيترو اختار طريقًا لم يعد متاحًا لكل قادة أمريكا اللاتينية: طريق الاستقلال، طريق المقاومة، وطريق الكرامة. والدرس الذي يتركه هو واضح: حين تُختبر السيادة الوطنية، تصبح الكرامة أغلى من أي تهديد أو عقوبة، وحين يقول الرئيس: “لن نركع أبدًا”، فهو يخاطب العالم كله، وليس واشنطن فقط.

 

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

بيانات ملاحية تكشف تحركات عسكرية.. ما الذي يجري قبالة الساحل الفنزويلي؟

كثف الجيش الأميركي طلعات جوية قرب الساحل الفنزويلي بمشاركة مقاتلات وقاذفات وطائرات مسيّرة، بحسب بيانات ملاحية، وسط تصاعد التوتر بين واشنطن وكراكاس.

سُجِّل نشاط جوي مكثف للجيش الأميركي قبالة الساحل الفنزويلي خلال الأسابيع الأخيرة، شمل مقاتلات وقاذفات وطائرات مسيّرة للاستطلاع، بحسب تحليل أجرته وكالة فرانس برس استنادا إلى بيانات موقع "فلايت رادار 24" لتتبع حركة الطيران، في ظل تصاعد التوتر بين واشنطن وكراكاس.

وأظهرت بيانات الموقع أن طائرتين من طراز "إف/إيه 18" تابعتين لسلاح البحرية الأميركي حلّقتا فوق خليج فنزويلا لأكثر من أربعين دقيقة، واقتربتا لمسافة تقل قليلا عن خمسة وثلاثين كيلومترا من الساحل، بينما كانت طائرة عسكرية أخرى تنفذ مهمة في الأجواء الشمالية للمنطقة نفسها.

وفي اليوم ذاته، رُصد تحليق طائرة استطلاع مسيّرة بعيدة المدى لساعات فوق امتداد واسع من البحر الكاريبي، في سابقة لم تُسجّل منذ ما لا يقل عن شهر، تلا ذلك تحليق مسيّرة أخرى على ارتفاعات عالية صباح الجمعة.

كما سُجّلت خمس طلعات جوية لقاذفات من طراز بي-1 وبي-52، إضافة إلى طلعتين لمقاتلات "إف/إيه 18"، على مسافة تقارب أربعين كيلومترا من الساحل الفنزويلي بين أواخر تشرين الأول/أكتوبر وأواخر تشرين الثاني/نوفمبر. وأظهرت صور نشرها الجيش الأميركي مشاركة طائرات شبح من طراز "إف-35" في مهام جوية لم تظهر ضمن بيانات تتبع الطيران.

Related فنزويلا: احتجاز واشنطن للسفينة قرصنة دولية وترامب يشبه جاك سبارو مع فارق أن الأخير "كان بطلًا"واشنطن تصعّد ضد فنزويلا: احتجاز ناقلة نفط وتلويح بخيارات أكثر حدّةالمقاتلات الأميركية تقترب من فنزويلا.. ومادورو يشتكي مازحًا من "اتصالات الشمال" خلفية توتر متصاعد

يأتي هذا النشاط الجوي في وقت عززت فيه الولايات المتحدة حضورها العسكري في منطقة الكاريبي، عبر حشد أسطول من السفن الحربية ضمن ما تصفه بجهود مكافحة تهريب المخدرات. وشنت واشنطن منذ أيلول ضربات استهدفت سفنا يُشتبه بتورطها في التهريب، ما أسفر عن مقتل نحو تسعين شخصا.

واتهم الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو الولايات المتحدة باستخدام ملف المخدرات كذريعة لتصعيد الضغوط والسعي إلى تغيير النظام في كراكاس.

تصعيد بحري وعقوبات اقتصادية

وبالتوازي مع التحركات الجوية، برز توتر إضافي بعد احتجاز القوات الأميركية ناقلة نفط قبالة السواحل الفنزويلية، في خطوة قالت واشنطن إنها تمهد لمصادرة شحنتها، بالتزامن مع فرض عقوبات جديدة طالت أشخاصا وشركات مرتبطة بقطاع النفط الفنزويلي.

وأدت هذه التطورات إلى إرباك حركة الشحن، مع مخاوف لدى مالكي السفن من تعرض ناقلات أخرى لإجراءات مماثلة، في وقت تظهر فيه بيانات ملاحية وجود عشرات الناقلات المحملة أو المنتظرة قرب السواحل الفنزويلية، بينها عدد كبير خاضع للعقوبات.

ويعكس تزامن التحليق الجوي والتصعيد البحري والعقوبات الاقتصادية مرحلة ضغط متكاملة تمارسها واشنطن على كراكاس في واحدة من أكثر المراحل حساسية في العلاقة بين البلدين.

انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة

مقالات مشابهة

  • عاجل| ترامب: الضربات البرية التي تستهدف تهريب المخدرات ستبدأ قريبا
  • بيانات ملاحية تكشف تحركات عسكرية.. ما الذي يجري قبالة الساحل الفنزويلي؟
  • واشنطن تفرض عقوبات على 3 من أقارب مادورو
  • إشاعات العقوبات مكشوفة: توازنات الحكومة الإقليمية تثمر عن رسائل أمريكية إيجابية
  • الخزانة الأمريكية: سنواصل إجراءاتنا لوقف التهرب من العقوبات المفروضة على النفط الفنزويلي
  • أبناء شقيق مادورو.. الخزانة الأمريكية تفرض عقوبات ضد فنزويلا
  • أحمد زيور باشا.. الحاكم الذي جمع القوة والعقل والإنسانية
  • قاذفة أمريكية تُحلق قرب فنزويلا
  • الجامعة الأمريكية تكرم مي حجي لحصولها على دبلومة الإعلام الرقمي
  • بعد إلغاء قانون قيصر وكشف شروط الكونجرس.. هل نصبت واشنطن فخا لسوريا ؟