(1)
أعترف بأن أول رسالة حب لي في حياتي كانت إلى كلب!
لم أكن قد بلغت الخامسة من عمري بعد، وكانت العائلة حينها تسكن بورسعيد، وهذا الكلب، لا يرقد طوال اليوم إلا أمام ورشة لإصلاح السيارات أسفل بيتنا، وهي الحكاية التي كان أولادي لا يملون من تكرار طلب سماعها من أختي الكبرى -يرحمها الله- كلما زارتنا أو زرناها.
لكن -والله- استقمت بعد ذلك، وكنت زبونا دائما لدي برنامج إذاعي في بلدي خصص فقرة لهواة المراسلة، وكانت تأتيني رسائل أسبوعية عديدة من أنحاء متفرقة من العالم العربي، حتى إن ساعي البريد ظن أن لي نفوذا خارج مصر، فطلب مني أن أتوسط له، للحصول على عقد عمل خارج البلاد، رغم أنني كنت وقتها ما زلت طالبا في المرحلة الثانوية.
لكن ألطف الرسائل -إن كان يصح أن أسميها كذلك- تلك التي كنت أكتبها لعائلتي وأنا في السجن، على ورق المناديل، بخط صغير ليتسنى أن تتحمل الرسالة ما لذ وطاب من الكلام، ثم أتفنن في تهريبها، وكذلك كانت تفعل أسرتي، تهرب لي الرسائل في أصابع المحشي، أيام زمن السجن الجميل، قبل أن يلاقي الناس الأهوال كما هو جارٍ الآن.
(2)
استدعيت الماضي، فاستدعى بدوره ألف سؤال.
بالأساس لماذا نكتب الرسائل العاطفية، هل نلجأ للكلمات المكتوبة لنبوح بما لا نستطيع أن نعبّر عنه بكلام منطوق، أم أن الحياء يمنعنا أن نخرج ما في داخلنا فنستتر وراء الكتابة؟ ثم هل التعبير عن الحب في رسالة يحتاج إلى بلاغة؟ وهل تتسع الرسائل العاطفية للأفكار، أم أنها محض عواطف هوجاء حارة تتدفق كالبركان؟ فالحب لا يعرف العقل، أحقا هو كذلك؟
(3)
ربما نكتب الرسائل العاطفية، لأننا نخاف أن تضيع منا الكلمات عند المواجهة، فتمنحنا تلك الرسائل وقتا لنفكر فيما يجب أن نقول، فنختار الكلمة المناسبة لنضعها في الجملة المناسبة، لتصبح الرسالة مكانا مريحا لاعتراف القلب.
إعلانفي المراسلات الشهيرة بين جبران خليل جبران ومي زيادة، اللذين لم يلتقيا وجها لوجه، وبقيت علاقتهما قائمة على المكاتبات سنوات طويلة، نقرأ شوقا صريحا، لكننا نقرأ معه أسئلة عن الفن واللغة والروح، وكيف ينعكس كل ذلك على العمل والكتابة.
الأمر نفسه مع غسّان كنفاني وغادة السمان، فقد خرجت رسائلهما إلى العلن بعد اغتيال كنفاني بسنوات، وأثارت نقاشا أخلاقيا حول الخصوصية، لكنها كشفت أيضا جانبا إنسانيا وفكريا مهما، فالرسائل تخلط بين الاعتراف العاطفي والتأمل السياسي والسؤال الأدبي.
أما هِلواز وأبيلار، فكانا يتبادلان رسائل حبّ ملتهبة، لكنك تجد فيها نقاشا لاهوتيا وأخلاقيا حول الطاعة والزواج والرهبنة ومعنى الاختيار، وبالمناسبة فإن بيير أبيلار هو فيلسوف ولاهوتي فرنسي يعد من أبرز مفكري العصور الوسطى، أما هلواز دو أرجنتوي فكانت تلميذته، ثم زوجته السرية، ثم باتت راهبة.
هذه المراسلات الكلاسيكية بينهما تُقرأ اليوم على أنها نصوص حبّ وفكر معا، أي أن الرسالة تسع حرارة القلب وحجّة العقل في آن واحد.
إذن، هناك مكان ما للعقل في الحب!
أم هو في الرسائل تحديدا، حيث يعمل القلب كمحرّك، ويأتي العقل ليُنقّي اللغة، ويصوغ الفكرة، ويضع للحب معنى يعيش بعد لحظة الانفعال، فالرسائل العاطفية ليست اعترافات وجدانية فحسب، بل تتحوّل أيضا إلى مكان لإنتاج أفكار أخلاقية وفلسفية وجمالية تحت حرارة العاطفة، ولكن هل يعني ذلك أن العقل لا يغيب في الحب، كما روجوا لذلك، وكأنهم يحذروننا من مغبة فقدان العقل إن وقعنا في الحب.
(4)
حين احترت قلت فلأرى ماذا يعتقد الحكماء السابقون، فوجدت أن أفلاطون قال إن الحب الناتج عن الخطاب العقليّ واستكشاف الأفكار يُعدّ أعلى منزلة من الشهوة الجسديّة، يقصد ربما أن العقل يلعب دورا في توجيه الحب نحو "ما هو أعلى" وليس فقط ما هو مادّيّ أو شهوانيّ.
أما إيريك فروم، فيرى أنّ الحب "فن" وليس فقط شعورا أو انفعالا، ويحتاج إلى وعي وعقل وممارسة لكي يُنجَز، في حين فريدريك نيتشه يعترف بأن الحب يحوي جنونا، لكنّه جنون فيه شيء من العقل أيضا.
وإذا تركنا هؤلاء الخواجات فإنّ أبا الطيب المتنبي يقول:
فإنّ قليل الحُب بالعقل صالحٌ.. وإِن كثير الحبّ بالجهلِ فاسِدُ
أي أن الحب الذي يُوجّهه العقل يكون صالحا، بينما الحب المرتبط بالجهل، أي دون وعي أو تأمّل، يكون فاسدا.
أي أن العقل في الحب ليس عدوا، بل ضابطا.
الحب والعقل ليسا في صدام دائم أو مطلق، بل العلاقة بينهما مركّبة، الحب قد ينطلق من انفعال أو حدس، لكن العقل يُمكّنه من التوجيه، والفهم، والاستدامة.
الحب يا سادة لا يُذهب العقل، بل يعيد توجيهه نحو هدف جديد.
يتعب العقل أحيانا بعد أن ترهقه الحياة، يحتاج إلى وقود ليستعيد عافيته، فيأتي الحب ليس ليطيح به وإنما ليعيد إليه الحياة.
العقل العاشق ليس عقلا معطلا، بل عقلا يعمل بطريقة مختلفة، وهو بالمناسبة ليس عقلا محايدا، بل عقلا مُحفَّزا بالعاطفة ومُوجَّها بها، بل إن العقل والحب شريكان، وليسا خصمين، والعاشق لا يفقد عقله، بل يستخدمه بكل طاقته لخدمة قلبه، وتحت تأثير الحب، يبحث العقل عن أجمل الكلمات، أدق التعبيرات، أعمق المعاني.
إعلانالحب يا سادة لا يَفقد العقل، بل يستدعيه، وربما كل ما يفعله الحب بالعقل أنه يغير سرعته وطريقة حضور.
(5)
أفكّر أحيانا أن كل رسالة حبّ كُتبت في هذا العالم، من أول سطر على ورقة صفراء إلى آخر رسالة في بريد إلكتروني، إنما كانت محاولة لإنقاذ العقل من الغرق في العاطفة، لا للفرار منها، فنحن نكتب حين لا تسعنا الكلمة المنطوقة، نكتب لأننا نريد أن نمنح المشاعر شكلا يمكن أن يُلمس، وصوتا يمكن أن يُسمَع بعد أن يهدأ القلب.
الرسالة ليست ورقة تُرسل، بل نافذة يطلّ منها القلب وفي يده مصباح العقل، يحاول أن يرى نفسه وسط العتمة الجميلة التي يصنعها الحبّ.
الحبّ لا يُفقدنا عقولنا، كما يُقال، بل يوقظ فيها لغة جديدة، منطقا أرقّ، وذكاء يُشبه الحلم، ولذلك فإن العاشق لا يفقد وعيه، بل يتعلم نوعا آخر من الوعي، يرى به العالم أكثر نقاء، ويرى نفسه أقلّ يقينا وأكثر إنسانية، ولهذا كانت رسائل الحبّ في كل زمان بمثابة حوار بين جناحين: جناح يحترق بالعاطفة، وجناح يحاول أن يُبقي على توازنه في الهواء، وبين الحريق والتوازن، يولد أجمل ما في الإنسان، وهو قدرته على أن يُفكّر بقلبه، ويُحبّ بعقله.
العاشق الحقيقي لا يفقد ذكاءه، بل يوظفه كله في خدمة عاطفته، يحفظ ما تحب وما تكره، يلتقط إشارات لا يراها غيره، يقرأ ما بين السطور، يخطط للمفاجآت، يختار الكلمات بدقة متناهية، يحسب خطواته، بل وحتى يبتكر طرقا لتهريب الرسائل في أصابع المحشي!
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات فی الحب
إقرأ أيضاً:
الرئيس السيسي: بافتتاح المتحف المصري الكبير نكتب فصلاً جديداً من تاريخ الحاضر والمستقبل
شهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، والسيدة انتصار السيسي، قرينة رئيس الجمهورية، مساء اليوم، احتفالية افتتاح المتحف المصري الكبير، بمشاركة ما يقارب 80 وفداً ومُمثلاً لمختلف دول العالم، بالإضافة لحضور واسع لمُمثلي عدد من المنظمات الإقليمية والدولية، وكبرى الشركات العالمية.
وصرح المُتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية بأن الرئيس حرص على استقبال رؤساء الوفود من أصحاب الجلالة والفخامة والسمو والسعادة المشاركين في الاحتفالية، التي بدأت بعرضٍ فني بعنوان «العالم يعزف لحناً واحداً»، أعقبه عرض «الليزر والدرونز»، والذي شرح نظرية «حزام أوريون»، وعلاقة بناء المتحف المصري الكبير بالأهرامات، ليأتي من بعده عرض فني بعنوان «رحلة سلام في أرض السلام»، تخلله مشهد فني عن إبداع المصريين في البناء بداية من بناء هرم زوسر حتى البناء في العصر الحديث، ليستمع الحضور لأغنية قبطية، وإنشاد صوفي، ثم عرض آخر بالدرونز يظهر عبارة «الحضارات تزدهر وقت السلام».
وأضاف السفير محمد الشناوي، المُتحدث الرسمي، أن الرئيس ألقى كلمة بمناسبة افتتاح المتحف المصري الكبير، ونصها كالتالي،
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
السيدات والسادة
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو والمعالى..
ضيوف مصر الكرام..
الشعب المصري العظيم..
﴿السلام عليكم ورحمة الله وبركاته﴾
أستهل كلمتي، بالترحيب بحضراتكم على أرض مصر.. أقدم دولة عرفها التاريخ.. هنا، حيث خطت الحضارة أول حروفها.. وشهدت الدنيا، ميلاد الفن و الفكر والكتابة والعقيدة.
لقد ألهمت مصر القديمة، شعوب الأرض قاطبة.. ومن ضفاف النيل، انطلقت أنوار الحكمة.. لتضىء طريق الحضارة والتقدم الإنسانى.. معلنة أن صروح الحضارة، تبنى في أوقات السلام.. وتنتشر بروح التعاون بين الشعوب.
واليوم، ونحن نحتفل معا، بافتتاح المتحف المصري الكبير.. نكتب فصلاً جديداً، من تاريخ الحاضر والمستقبل، في قصة هذا الوطن العريق.. فهذا أكبر متحف في العالم، مخصص لحضارة واحدة.. حضارة مصر التي لا ينقضى بهاؤها.
هذا الصرح العظيم، ليس مجرد مكان لحفظ الآثار النفيسة.. بل هو شهادة حية، على عبقرية الإنسان المصري.. الذى شيد الأهرام، ونقش على الجدران سيرة الخلود.. شهادة، تروى للأجيال قصة وطن.. ضربت جذوره فى عمق التاريخ الإنسانى.. ولا تزال فروعه تظلل حاضره.. ليستمر عطاؤه فى خدمة الإنسانية.
الحضور الكريم،
إن هذا الإنجاز، الذى نشرف جميعا بافتتاحه اليوم.. جاء نتيجة تعاون دولى واسع.. مع عدد من الشركات والمؤسسات العالمية.. ولا ننسى الدعم الكبير.. الذى قدمته دولة اليابان الصديقة.. لصالح هذا المشروع الحضارى العملاق.
كما أعرب عن تقديرى للجهد المخلص.. الذى بذله أبناؤنا - على مدار الأعوام السابقة - من مسئولين ومهندسين وباحثين وأثريين وفنيين وعمال.. من أجل تحقيق هذه المهمة التاريخية العظيمة.
السيدات والسادة،
إن المتحف المصرى الكبير.. صورة مجسمة.. تنم عن مسيرة شعب.. سكن أرض النيل منذ فجر التاريخ.. فكان ولايزال الإنسان المصرى، دءوباً، صبوراً، كريماً.. بناء للحضارات، صانعا للمجد، معتزا بوطنه.. حاملا راية المعرفة، ورسولا دائما للسلام.. وظلت مصر على امتداد الزمان.. واحة للاستقرار، وبوتقة للثقافات المتنوعة، وراعية للتراث الإنسانى.
وفى ختام كلمتى،
أجدد الترحيب بكم فى بلدكم الثانى، مصر.. بلد الحضارة والتاريخ.. بلد السلام والمحبة.. وأدعوكم إلى الاستمتاع بهذه الاحتفالية.. وأن تجعلوا من هذا المتحف منبرا للحوار، ومقصدا للمعرفة، وملتقى للإنسانية.. ومنارة لكل من يحب الحياة، ويؤمن بقيمة الإنسان.
تحيا مصر.. وتحيا الإنسانية،
شكرا لكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأوضح المتحدث الرسمي أن توجه بعد انتهاء كلمته إلى مكان تواجد مجسم المتحف المصري الكبير، حيث تفضل سيادته بوضع القطعة الأخيرة باسم مصر لاكتمال المجسم إيذاناً بافتتاح المتحف المصري الكبير، بالتزامن مع الإعلان على أن كل ملوك ورؤساء وأمراء الدول الشقيقة والصديقة قد تلقوا نموذجاً مصغراً للمتحف وقطعة تحمل اسم كل دولة، ليعقب ذلك سرداً لحكاية المتحف المصري الكبير، ثم فقرة استعراضية غنائية بعنوان «الملك رمسيس الثاني»، وعرض غنائي عن الآثار الغارقة بالإسكندرية، ثم عرض الدرج العظيم، واستعراض مقتنيات المتحف المصري الكبير، وعرض النيل، الذي أظهر مدى الترابط العميق بين النيل والشعب.
واختتمت الاحتفالية بعروض مركب خوفو «مراكب الشمس»، والملك «توت عنخ آمون»، والذي أبرز دور الفتى الصغير حسين عبد الرسول في اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، ثم عرض ختامي باستخدام الإضاءة والألعاب النارية وعروض الليزر، وجولة تفقدية للدرج العظيم وقاعة توت عنخ آمون.
دويتشه فيله: المتحف المصري الكبير علامة فارقة في النهضة الثقافية المصرية
عاجل.. وصول الرئيس السيسي إلى حفل افتتاح المتحف المصري الكبير
متى يتم افتتاح المتحف المصري الكبير أمام الجمهور؟