لو أن "خواجة" هو من أُوكلت إليه مهمة "هندسة الانتخابات البرلمانية" في مصر، فلم يكن ليفعل أكثر من ذلك الذي أحدث غضبا في أوساط بعيدة عن دوائر المعارضة، وكانت الأنظمة المصرية المتعاقبة تعتبرها ظهيرها الذي يسندها ومصدر قوتها، والذي جعل من الانتماء لحزبها هدفا لكل من يريد التواجد في البرلمان، فقد كانت قوة تسند قوة، قوة النظام وقوة هذا المجتمع!
وتكمن أزمة نظام مبارك مثلا في أن من هندسوا الحياة السياسية في بداية الألفية الجديدة لم يكونوا يدركون طبيعة المرحلة، وجزءا منها أن أجيالا جديدة لم تستوعبها الحالة، وأن فرض المرشحين لم يعد مناسبا مع الإشراف الجزئي للقضاء على العملية الانتخابية، وأن قوة المرشحين التقليديين في انتمائهم لقوى في المجتمع تمكنهم من "تسويد الأصوات" ليس لها محل من الإعراب الآن، فلما فرضت قيادات الحزب قوائمها وجدت من يتمرد على الانتماء الحزبي ويترشح مستقلا، ووجدت جيلا من الناخبين ملّ من الهيمنة التقليدية، فكانت أول رسالة تُرسل من الأطراف إلى المركز الذي فقد الكثير من لياقته فلم يستوعبها، وكل ما شغل القائمين على أمر الحزب هو أن يظل حزب الأغلبية!
كانت هذه البداية الحقيقية لتحول المزاج العام، وكانت قيمة المرشحين في هذه الانتخابات أنهم ليسوا مرشحي الحزب الحاكم، لكنهم بالفوز عبّروا عن انتهازيتهم، فقد انضموا للحزب الوطني، ليقول صفوت الشريف: لقد حققنا الأغلبية المريحة.
وكانت هذه النتيجة هي مدخل جمال مبارك إلى السياسة، لينتقل بالحياة السياسية من سيئ إلى أسوأ، غير مستوعب بالشكل الكافي لرسالة الناس، لتعطل قرون الاستشعار لديه، فكانت انتخابات 2005 التي تكرر فيها الأمر، وانتخب الناس المتمردين على الحزب، الذي حصل على أقل من النسبة الماضية بثلاثة في المئة، لكن الحزب حصل على أغلبيته المريحة بضم هؤلاء المتمردين!
لم تكن أحزاب المعارضة جاهزة لهذا التحول في المزاج العام، وقد أنهكها تحول السياسة في البلد إلى ملف أمني، وصار بعض رجالاتها ينسقون مع قيادات الحزب الوطني للفوز بعدة مقاعد كما حدث في انتخابات 1995، وهنا كان البحث عن بديل مضمون، يوقنون بأنه لن يمارس الانتهازية معهم ولن ينضم للحزب الوطني، ففاز للإخوان المسلمين 88 مرشحا، وقال رئيس الحكومة أحمد نظيف: لولا التزوير في الجولة الثانية والثالثة لفاز لهم 44 مرشحا آخرين!
الخواجة جمال مبارك وإخوانه:
وكان هذا الباب الذي دخل منه جمال مبارك بحجة أنه قادر على رد الاعتبار للحزب الوطني، فانفرد ورجاله بالحزب، ولأنه، ولأنهم، أقرب للمرحلة الحالية وأبعد عن السياق السياسي للحزب الحاكم، فقد أنهى حكم أبيه بجدارة، وكان كخواجة لا يدرك طبيعة البلد، وكذلك الذين اصطفاهم لمرحلته من رجال الأعمال ومن الأكاديميين أساتذة السياسة، وهم خواجات مثله، تفوقوا في المقررات الدراسية، لكنهم أجانب بالنسبة للشعب المصري!
إن جمال مبارك لم يُصلح الحزب الوطني، لكنه أسس حزبا جديدا قام بالسطو على مقدرات الحزب الوطني، ووصفنا مجموعته في حينه بأنهم مجموعة من المستشرقين لا أكثر. وقد أغرته القدرات غير المحدودة لجهاز الأمن في البطش والتنكيل، وقد جعلها وزير الداخلية حبيب العادلي رهن إشارته، فظن أن لن يقدر عليه أحد، وأنه يمكن أن يغلق المجال، ويزور الانتخابات بلا عقل، ويغلب نواميس الكون، فكانت ثورة يناير، وقد ظل الشعب المصري يرسل الإشارات لأهل الحكم على مدى عشر سنوات، لكن هل يسمع الصم الدعاء؟!
لا يمكن القول إن المرحلة الحالية هي نسخة مشوهة من نظام مبارك، فلا بد أن نميز في حكمه بين مرحلتين؛ مرحلة حكم فيها هو بمعاونة رجال الدولة وقد ترهل نظامه مع بداية الألفية الحالية، ومرحلة حكم فيها جمال مبارك، فصنع دولة غير الدولة، ونظاما غير النظام، وحياة سياسية بديلة، أو للدقة متخيلة في عقول الثلاثي المرح (هو، وأحمد عز، وحبيب العادلي)، فانهار النظام!
الوضع الحالي هو امتداد لمرحلة جمال مبارك، وفي خياراته وإدارته للشأن السياسي هو نسخة منها، ومهما يكن مستواه، فلن يكون أبدا نسخة محسنة!
المال السياسي:
وبعيدا عن المعارضة والأحزاب والنخبة، فالخواجة الذي هندس لانتخابات هذا العام تحلل من كل القواعد وتقاليد الدولة المصرية، ولم تكن عينه سوى على المال السياسي، وبحسب حسام بدراوي القريب من النظام فقد وصل ثمن الكرسي في البرلمان إلى سبعين مليون جنيه. ولأن الخواجة يضمن أنه لا منافس لقوائم السلطة فقد تحلل من كل قيد، ولست متأكدا من أنه ملم بتقاليد الحياة السياسية في مصر، أم أنه شأن كل وافد حديثا على مجتمع غريب عنه!
إنهم يصنعون مجتمعا سياسيا من خارج رحم السياسة، ويفتعلون طبقة خارج كل تصور أو عقل، ووصل الحال إلى أن قوائم الصعيد ترشح عليها أشخاص من محافظات الوجه البحري حُملوا جوا إلى قوائم المرحلة، وفي مجتمعات قبلية لا تزال تنظر للوافد على أنه "غريب"، يعيش وينجب، ومع الأجيال المتعاقبة لهذا "الغريب" لا تتغير الصفة، فهم أغراب ليسوا من البلد!
وقد كانت محافظات الحضر كالقاهرة والإسكندرية مفتوحة للمقيمين فيها، لكن هذا ليس واردا في محافظات الصعيد وفي دوائر الريف عموما، فما القول وهؤلاء ليسوا من سكان هذه الدوائر وليس في نيتهم أن يمثلوها؟ ويبدو أن هذا هو المطلوب، فلا يشعر صاحب القسمة والنصيب بولاء لأحد إلا لمولانا وليّ النعم، مهندس العملية الذي فرضه نائبا بالبرلمان على أسنّة الرماح، وهو استفزاز للناس لا مبرر له!
وإذا سلمنا بصحة ما قاله بدراوي، فأي تجارة هذه التي تدر فائضا على صاحبها يجعله يشتري كرسي البرلمان بهذا الثمن المبالغ فيه؟ وما العائد عليه إذا صار نائبا وحصل على الحصانة البرلمانية؟!
إن الوضع الجديد وغير المسبوق في تاريخ الحياة النيابية سيجعلنا أمام نائب لا تشغله دائرة أو ناخبون، ولكن ما يعنيه هو نفسه، وقد حُمل جوا إلى بلد غير بلده، وإلى ناخبين لم يسبق له التعرف عليهم من قبل، فماذا يربطه بهم ويربطهم به؟!
مواجهة القبلية:
سمعت دفاعا بأن ما يحدث هو مخطط لمواجهة القبلية، فأدهشني الدفع، والقبلية موجودة حتى في المجتمعات الغربية، والأصل ترشيد سلبياتها، لأنه ليس في مقدور أحد أن يلغيها، لا سيما أن هذا الإجراء الانتخابي يدخل في باب استفزاز العصبيات ويحييها ولا يحد من وجودها!
وكيف يمكن فهم هذا في أجواء افتعال حالة قبلية موالية للسلطة؛ تمثلت فيما سمي باتحاد القبائل العربية الذي أنتج حزبا وما سمي بحزب الجبهة الوطنية (الذراع السياسي لاتحاد القبائل)!
إنه خواجة يجرب كل الوسائل على طريقته، فيخلق اتحادا للقبائل لا يعبر عنها جميعها، وعلى عاتق من هم خارج إطار القبائل العربية، ثم يسعى للقضاء على القبائل بترشيح وافدين في الدوائر، فهل هذه سياسة متناقضة؟!
في تقديري إنها سياسة واحدة، فاتحاد القبائل هو حمل خارج الرحم، ولكن لأنه لا يعبر عن القبائل فلا بد من القضاء على هذا النسق الذي لا يعمل لدى السلطة وقد يهز مركزها بهذا "الانتحال"!
والقيمة الحقيقية لهذا التوجه في أن تحتشد القبائل وتنتخب المرشحين الذين اختارتهم السلطة بنفس راضية، وليس تحت تهديد السلاح، فما يجري أشعل النار في الصدور، على نحو لا يقدم عليه سوى نظام سلم المهمة لخواجة، فيمارس سياسة استفزاز للناس. والمجتمعات التقليدية هي قوة مضافة للأنظمة وليست خصما منها، وفي ثورة يناير كانت أقسام الشرطة في حماية العائلات التي تقع هذه الأقسام في زمامها!
إن دائرة الغضب وصلت إلى الدوائر البعيدة من المعارضة وإعلام الخارج، لذا فلم تصلها أصداؤها، والتي يمكن للمرء أن يتوصل إليها من منتديات مغمورة بحكم موضوعاتها، وإلى تعليقات هنا وهناك.
إن انتخابات 2010 أفقدت النخبة السياسية الأمل في التغيير ولو في حده الأدنى بواسطة الانتخابات، والانتخابات الحالية استفزت الظهير التقليدي للسلطة. ومنطلق الخواجة، وكل خواجة، هو نفس منطلق خواجات العهد البائد: جمال، وحبيب، وعز، فماذا في إمكان الناس أن يفعلوا؟ وإزاء هذا الجبروت سخر الرئيس مبارك من الغاضبين وقال مقولته الشهيرة: "خليهم يتسلوا"!
لا بأس، خليهم يتسلوا!
x.com/selimazouz1
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه الانتخابات مصر مبارك التغيير مصر السيسي مبارك انتخابات تغيير مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحزب الوطنی جمال مبارک
إقرأ أيضاً:
شاهدته تلفزيونيًا.. علاء مبارك يعلق على افتتاح المتحف المصري الكبير
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)-- وصف علاء مبارك نجل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، حفل افتتاح المتحف المصري الكبير بـ"الرائع"، فيما رد على تقارير تلقيه وشقيقه جمال دعوة رسمية للحضور.
وكتب علاء مبارك، في حسابه عبر منصة إكس، السبت: "ألف مبروك افتتاح أكبر متحف أثري في التاريخ الإنساني، تحية من القلب لكل من شارك في تنظيم هذا الحفل الرائع الذي يليق بمكانة مصر وتاريخها".
وقال علاء: "سعدنا بمشاهدة الحفل مع الأسرة تلفزيونيًا"، في ما يبدو أنه رد منه على تقارير حول تلقيه وشقيقه جمال مبارك دعوة رسمية لحضور حفل افتتاح المتحف.
افتتحت مصر المتحف الكبير المٌطل على أهرامات الجيزة، وسط مراسم رسمية مهيبة، مساء السبت، بحضور ملوك ورؤساء وممثلي عدد من الدول.
ويضم المتحف نحو 100 ألف قطعة أثرية لحضارة مصر القديمة، بداية من العصور الفرعونية واليونانية والرومانية.