وكيل المعاهد الأزهرية: تنوع المذاهب الفقهية مصدر ثراءٍ وليس سبيلا للفرقة
تاريخ النشر: 6th, November 2025 GMT
قال أ.د أحمد الشرقاوي، وكيل قطاع المعاهد الأزهرية، إن تنوع المذاهب الفقهية والمدارس الفكرية والعلمية إنما هو مصدر ثراءٍ ونماء، ولم يكن أبدا سبيلا للفرقة أو سببا في التباعد، وهذا مرجعه إلى إدراك الأمة الحكيمة أن الاختلاف تخفيف ورحمة، وأن التنوع البناء نماء وسعة.
وأضاف فضيلته خلال كلمته بالندوة الدولية المشتركة بين الأزهر ووزارة الشؤون الإسلامية بالسعودية بعنوان «تجارب رائدة وآفاق مستقبلية في تعزيز قيم الاعتدال الوسطية» أن وقائع العصر الحالية وأحداثه الجارية قد تتسبب أحيانا في تحويل هذا الثراء الفكري والنتاج العلمي إلى خصومة مذهبية، وتناقضات فكرية وفلسفية، تحاول أن تنال من مبادئ الوسطية الحقة وقواعد الاعتدال المعتبرة في دنيا الشريعة الغراء، لتخلق من دائرة الاختلاف في الفروع سببًا للتنازع في الأصول، فغابت بذلك بعض مظاهر التسامح، وتوارت أهداف للمقصد الأعظم من الشريعة، وبرزت على الساحات المجتمعية والدينية نزعات ضيقة، جعلت كل فريق يدّعي أنه يمتلك الحقيقة المطلقة.
وأوضح أنه اشتعلت على إثر ذلك معارك فكرية أنهكت الأمة بعض الشيئ، وصرفت طاقتها عن رسالتها الحضارية الكبرى، وقد عدل بعض الناس عن العدل، وهنا يكمن الخطر الجسيم والتحدي العظيم، الذي يواجه الوسطية الإسلامية، ويناقض قواعدها الرئيسة، ويعارض مقاصدها العليا، إذ أصبح صوت الدعوة إلى التعاون والتآلف صوتًا خافتًا في زحام الأصوات العالية المتناحرة.
وأكد وكيل قطاع المعاهد الأزهرية، أن الدفاع عن الوسطية دفاعًا عن وحدة الأمة ذاتها، ومع ذلك فإن المستقبل يبشّر بوعيٍ جديدٍ بدأ ينمو بين شباب الأمة، ويدرك أن السلم والسلام لا يتحقق بالخصومة، بل بالتعارف والتآلف والتعاون والحوار، وأن التنوع ليس نقيض الوحدة، بل هو نضج أمة وإثراء شهادة، إعمالا لقوله تعالي " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا".
وتابع " الشرقاوي" أن الأزهر الشريف ووزارة الشئون الإسلامية بالمملكة العربية السعودية يقفان صفًا واحدًا لتعزيز قيم الاعتدال والوسطيه وتوحيد الكلمة من أجل صون العقول عن الخلل وحماية الأفكار من الزلل، فإننا نرى أمامنا آفاقًا واعدة لنهضة فكرية تُعيد للدين الحنيف وجهه المشرق، وبهاءه الصافي، ومعينه العذب، استبقاء لنقائه واستدامة لعطائه، وبسطا لوسطيته الجامعة، وإعلاء لكلمة الحق، ونشرا لقيم العدل والرحمة.
وأوضح فضيلته أن اختلاف وجهات النظر أو تباين آليات العمل لا يفسد لقضية الوسطية الجامعة ودا ولا يقطع للأخوة الإنسانية رحما، بل إن التعاون في سبيل إعلاء قيم الحق والعدل وإرساء مفاهيم الوسطية الحقة، هو الذي يناسب شريعة التخفيف والرحمة.
وبيّن أن أمتنا شهدت عبر عصورها فئات ظنت أن حفظ الدين لا يكون إلا بالتضييق على الناس، وأن الغيرة عليه تعني إغلاق أبواب الاجتهاد والرحمة، فغاب عنهم أن شريعة الإسلام إنما جاءت من أجل رعاية مصالح العباد وإعمار البلاد، فهي عدل كلها ورحمة كلها ومبناها على الحكم والمصالح، ومقصدها الأعظم هو التيسير لا التعسير.
وأوضح أنه إذ يتجدد الوعي بأن الوسطية ليست خروجًا عن الدين، بل عودة إلى نقاء روحه وصفاء مصدره، فإن المستقبل يحمل الأمل في استعادة هذا الفهم الرشيد، وعليه فإن المؤسسات العلمية، وفي مقدمتها الأزهر الشريف والشئون الإسلامية بالمملكة العربية السعودية، تقود مشروعًا متوازنًا يعيد للعقل اعتداله وتوازنه، وللنصوص مرونتها، في تفاعلٍ راشد بين الثابت والمتغير.
وشدد أن الوسطية والاعتدال أصلان لكل تقدم ورُقي، ومصدران لكل سعادة وهناء، وأن التشدد والتطرف أصلان لكل غمّ وهم وجهل وفقر وعناء، ومصدران لكل نقمة وظلم وشقاء، موضحا أن الوسطية في هذا السياق ليست تساهلًا ولا تمييعًا، بل هي فقه دقيق يدرك أن الجمود خيانة لروح الشريعة، وأن مراعاة المقاصد ليست ترفًا فكريًا، بل هي جوهر الدين ، يقول الإمام القرافي : " إن الجمود على المنقولات أبدا نوع من الضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين ".
وأكد وكيل قطاع المعاهد الأزهرية أن المستقبل المشرق مرهون بقدرتنا على تخريج جيل من العلماء يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين عمق التراث وفقه الواقع، وبجيلٍ يُعيد للإسلام صفاءه الأول بوصفه رسالة عدل ورحمة وحكمة تهدي الإنسان إلى التوازن بين العقل والوجدان، والنص وروحه.
وأوضح أن الحرية في جوهرها نعمةً ربانية تُعلي كرامة الإنسان وتمنحه القدرة على الاختيار، تحولت في بعض الثقافات الحديثة إلى شعارٍ يُستخدم لتبرير التمرد على كل مرجعية دينية، حتى على الخالق، فلم يعد الإلحاد المعاصر مجرد إنكارٍ فلسفي لوجود الإله كما كان في عصور الماديين، بل أصبح ظاهرةً ثقافيةً وإعلاميةً تتخفّى وراء شعارات براقة كـ "تحرير الإنسان" و"إطلاق العقل"، فيُقدَّم الدين وكأنه قيدٌ على الإبداع، ويُصوَّر الإيمان على أنه خصمٌ للتقدم.
وأردف أنه وسط هذا التيار الجارف، تتعرض الوسطية الإسلامية لهجومٍ مزدوج من المتشددين الذين يُضيّقون على العقل باسم الدين، ومن اللادينيين الذين اسبتعدوا الدين باسم الحرية، وكلا الطرفين يُفرغ الدين من جوهره ومعناه، ويقضي على التوازن الذي جاء به الإسلام الحق.
وأكد أن الوسطية هي التي تحفظ للعقل مكانته دون إلغاء لدور الوحي، وتجمع بين نور البرهان وصفاء الإيمان، وبين إعمال الفكر وتسليم القلب، فهي تؤمن بأن الحرية ليست انفلاتًا من كل قيد، بل تحررًا من عبودية الهوى والشهوة والمصلحة، وأن العقل إذا تجرد عن الهداية الإلهية ضلّ، كما أن الإيمان إذا انقطع عن نور العقل تجمد.
وتابع " الشرقاوي" أننا اليوم ونحن نرى الشباب المسلم في صراعٍ بين المادية الجافة والروحانية الغائبة، تبرز مسؤولية المؤسسات الدينية والفكرية في بناء خطابٍ جديدٍ يجمع بين لغة العلم ولغة الروح، وبين منطق الفلسفة ودفء التجربة الإيمانية.
وأكد أن مستقبل الوسطية في مواجهة هذه التحديات مرهون بقدرتها على تقديم أنموذجٍ متكاملٍ للحرية المؤمنة، والعقل الهادئ، والإيمان الواعي، الذي يثبت أن الإسلام لا يعادي العلم ولا يقمع الفكر، بل يزكي ذلك في سياقه المعتبر له شرعا وواقعا، ليكون طريقًا لمعرفة الله تعالي، وإعمار أرضه، بسطًا لعدله في كونه، وإيصالًا لخيره إلى خلقه.
اوشدد أنَّ التَّمسك بما يقوم عليه الأزهر الشريف في شأن بيان العلم والدِين والأخلاق إنما هو نوعٌ من التدابير الشرعية والعملية الرئيسة، التى تسهم قطعًا في حماية النِّظام الإنساني العام، فما أحوجنا في هذه الظروف الراهنة إلى تجلية التراث الإسلامي، ودراسته، وتصويب الأفهام نحو سعَة الشريعة الغراء، واتساع قواعدها الكلية، وشمول أحكامها للنوازل المستجدة.
وبيّن أننا بحاجة إلى وسطيةٍ تمتد من الحرمين إلى رحاب الأزهر الشريف، وسطيةٍ تبني العقول على المنهج لا على الموقف، وتربي القلوب على الرحمة لا على الغلظة، وتعلّم الناس أن التعدد لا يفسد الوحدة، وأن الخلاف في الرأي لا يلغي الأخوّة الإيمانية.
واختتم وكيل قطاع المعاهد الأزهرية كلمته بأن المستقبل الذي ننتظره ليس نظريًا، بل مشروعًا عمليًا تشترك فيه المؤسسات العلمية والفكرية والإعلامية والتربوية، لتعيد بناء الإنسان المسلم القادر على الفهم والنقد والتمييز بين الغث والثمين، وهذا لا يتأتي إلا إذا جعلنا من الوسطية منهج حياة، ومن الاعتدال رؤية للعالم، ومن القيم الإسلامية الكبرى منطلقًا للتجديد والإصلاح.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: وكيل قطاع المعاهد الأزهرية المعاهد الأزهرية الأزهر الدكتور الشرقاوي الوسطية التشدد وکیل قطاع المعاهد الأزهریة الأزهر الشریف
إقرأ أيضاً:
الشيخ محمد العريفي: لا بد من بناء استراتيجية شاملة لتعزيز الوسطية
قال فضيلة الشيخ محمد بن عبد الواحد العريفي، مستشار وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، إن هناك حاجة ماسة إلى رؤية مستقبلية متكاملة تعيد صياغة مشروع الوسطية والاعتدال، لتكون منارة تهدي الجميع في أنحاء العالم الإسلامي، مؤكدا أن قيم الوسطية والاعتدال تواجه في الوقت الراهن الكثير من التحديات الهائلة التي توجب التعاون فيما بيننا لمجابهتها والتغلب عليها.
وأوضح فضيلته، خلال كلمته بالندوة الدولية المشتركة بين الأزهر ووزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، بعنوان: «تجارب رائدة وآفاق مستقبلية في تعزيز قيم الاعتدال والوسطية»، أن أول هذه التحديات هو فوضى الخطاب الديني في العصر الرقمي الذي نعيشه، وهي التي ظهرت نتيجة لضعف الأصوات الوسطية الفاعلة على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، وهو ما أدى إلى انتشار الفتاوى العشوائية والمجتزأة، مضيفا أن من التحديات الرئيسية كذلك ضعف الوعي النقدي والفكري في مجتمعاتنا، ما جعل الشباب في حاجة إلى تعليم يغذي لديهم هذا الوعي ويرسخه في عقولهم.
وأضاف مستشار وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، أن تراجع القدوة كذلك يعد واحدا من التحديات الرئيسية التي تجابه مجتمعاتنا اليوم، بجانب ضعف التنسيق بين المؤسسات الدينية الراسخة في عالمنا الإسلامي، هو ما نأمل أن تكون هذه الندوة اللجنة المنبثقة عنها انطلاقة لوضع حل ناجع له، وتحقيق انطلاقة في التعاون والتكامل البناء بين الأزهر الشريف ووزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، لتحقيق أهداف الوسطية والاعتدال.
تطوير الخطاب الدعويوبين فضيلته أنه لا بد من تطوير الخطاب الدعوي ليكون مناسبا للعصر مع إقامة شراكات مؤسسية لتوحيد الرؤية الشرعية، وضبط الفتوى، مع ضرورة وضع آلية فاعلة لإنتاج محتوى رقمي يعزز الوسطية ويجابه التطرف، وتمكين الأسرة من غرس قيم الوسطية والاعتدال في نفوس أبنائها، مع تشجيع الحوار الحضاري مع الثقافات الأخرى لتحسين الصورة النمطية للإسلام.
واختتم فضيلته بالتوصية بضرورة دراسة فكرة إعداد استراتيجية متكاملة شاملة لإنشاء مراكز مؤسسية لدراسة الوسطية والاعتدال، بهدف تطوير مفهوم الخطاب الدعوي، مؤكدا أن المؤسسات الدينية تحمل مسؤوليات كبرى في تعزيز الوسطية ومجابهة الغلو والتطرف وصياغة خطاب عام لجميع المسلمين.