لم تعد القوة في عالم اليوم مجرد جيوش تقف على الحدود، ولا صفقات سلاح تُوقّع في صالات مغلقة، بل أصبحت منظومة كاملة من التكنولوجيا والمعرفة ورأس المال تتشابك لتصنع قرار الدولة وقدرتها على البقاء في الإقليم المضطرب. وكل دولة لا تصنع سلاحها، أو على الأقل لا تملك عموده الفقري، تظل في لحظة الحقيقة رهينة مخازن الآخرين ومصالحهم.

من هنا تبدو اللحظة المصرية الراهنة مختلفة:

مسيرات شبحية جديدة تحمل اسم "جبار"، وراجمات صاروخية ترفع سقف الردع، وتوجه واضح نحو تطوير بنية الصناعات الدفاعية. لكنها لحظة تكشف أيضًا حدود نموذج قديم، ظل عقودًا يعوّل على الدولة وحدها دون أن يفتح الباب أمام الشراكة الحقيقية مع القطاع الخاص.

القوة تتطور.. لكن الصناعة ما زالت مقيدة

لقد قطعت مصر خطوات مهمة في بعض فروع التصنيع العسكري، لكن النسق العام ظل أقل مما يليق بدولة بحجمها وموقعها. ففي الوقت الذي قفزت فيه تركيا إلى موقع مُصدّر عالمي بفعل شركاتها الخاصة، واستطاعت إيران تحويل حصارها إلى حاضنة لإنتاج مسيرات هجومية وصواريخ متقدمة، بقيت مصر أسيرة نموذج مركزي لا يسمح بقدر كافٍ من المنافسة أو الاستثمار المدني في المجال الدفاعي.

والمفارقة أن التخوّف من دخول القطاع الخاص إلى هذا المضمار—بحجة احتمالات تسرب السلاح—لم يختبر يومًا في إطار نظام رقابي صارم. والواقع أن أي شركة خاصة ستظل أكثر حرصًا على امتثالها للقانون حفاظًا على استثماراتها، من أي جهة أخرى يمكن أن تتحرك خارج الدولة.

الدرس القديم الذي لا يُنسى

التاريخ لا يُعيد نفسه، لكنه يترك إشارات لمن أراد أن يفهم.

فحين توقفت بعض وحدات السلاح المصري في حرب أكتوبر بسبب نفاد الذخائر الثقيلة، بدا واضحًا أن الاعتماد على الخارج في التسليح ليس خيارًا يمكن الركون إليه. واليوم، في عالم تُستخدم فيه التكنولوجيا كورقة ضغط، تصبح سيادة القرار مرهونة بقدرتك على إنتاج أدواتك أو على الأقل التحكم في خطوط إنتاجها.

ولهذا، فإن تطوير نماذج مثل "جبار" أو "ردع 300" يمثل خطوة مهمة، لكنه لا يكتمل إلا بإصلاح بنية التصنيع العسكري نفسها.

القطاع الخاص.. شركاء لا منافسون

الدخول في عصر الصناعات الدفاعية المتقدمة يحتاج إلى:

شركات متعددة تتنافس في الجودة والابتكار كما حدث في تركيا.

مراكز بحث وتطوير مستقلة تعمل بجوار الجيش لا داخله.

رأس مال محلي وعربي يستطيع أن يتحمّل تكاليف التكنولوجيا العالية.

تشريع يضع خطوطًا حمراء صارمة لضبط السوق دون خنقه.

هذا النموذج قادر على تحويل مصر من دولة مستوردة لمعظم احتياجاتها الاستراتيجية إلى دولة قادرة على إنتاج، أو على الأقل تطوير، النظم الأساسية التي تحفظ أمنها القومي. وهو الطريق الوحيد لمنع تكرار لحظات الارتباك التي عاشتها دول كثيرة حين وجدت نفسها بلا ذخيرة أو بلا قطع غيار في لحظة المواجهة.

رسالة الردع الجديدة

حين تعرض مصر اليوم منظومات مسيّرة متقدمة، فهي لا تقدم مجرد تكنولوجيا، بل تقول إنها عائدة إلى موقعها الطبيعي كقوة إقليمية تمتلك إرادتها. لكن الرسالة الأكثر أهمية ليست في السلاح نفسه، بل في النموذج الذي يجب أن يُبنى حوله.

نموذج لا يحتكر الدولة فيه الصناعة، ولا يُترك السوق للصدفة، بل يتكامل فيه الطرفان لتأسيس بنية دفاعية متينة، قادرة على التطور والتصدير، وقادرة قبل ذلك على حماية قرار الدولة من أي ارتهان خارجي.

ما بعد الإعلان

ما يجري اليوم هو بداية وليست نهاية.

فإذا أرادت مصر أن تتحول من دولة تملك سلاحًا إلى دولة تملك صناعة السلاح، فعليها أن تنقل الملف من خانة التحديث الجزئي إلى خانة المشروع الوطني الكبير الذي يدمج المعرفة ورأس المال والابتكار في مسار واحد.

تلك هي لحظة التحول التي تنتظرها القوة المصرية منذ عقود.

والسؤال ليس عمّا إذا كنا قادرين على دخول هذا العصر، بل عمّا إذا كنا مستعدين لفتح أبوابه كاملة.. .!!

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: التصنيع العسكري في مصر مسيرات جبار

إقرأ أيضاً:

وكيل تشريعية الشيوخ: مصر تكتب فصلًا جديدًا بتاريخ الصناعة العسكرية عبر «إيديكس 2025»

أشاد النائب أحمد حلمى الشريف، وكيل لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بمجلس الشيوخ، بالافتتاح العالمي الذى شهده الرئيس عبد الفتاح السيسى لمعرض «إيديكس 2025»، مؤكدًا أن مصر دخلت رسميًا إلى مسرح الدول المؤثرة في الإنتاج العسكري عالميًا، بعد سنوات من التطوير المستمر والاستثمار في العقول والخبرات. 

وقال "الشريف"، فى بيان له أصدره اليوم، الأربعاء، إن مصر أصبحت تمتلك قاعدة صناعية عسكرية حديثة مدعومة بكفاءات بشرية هندسية تضاهي كبرى الدول المصنعة للسلاح، موضحا أن هذا المعرض أكد مجموعة من الحقائق، في مقدمتها عودة مصر إلى خريطة صناعة السلاح العالمية، وهو حدث تاريخي يعكس رؤية القيادة السياسية، وأن الصناعات الدفاعية تقوم على البحث العلمي المحلي وليس فقط التعاون الدولي، ومصر أصبحت مركزًا للتعاون العسكري بين الشرق والغرب عبر شراكات ضخمة.

برلماني: إيديكس 2025 جعل مصر مركز كبير للصناعات الدفاعية بالشرق الأوسطبرلماني: مصر تُرسل من إيديكس 2025 رسالة قوة وتفوق فى الصناعات العسكريةدفاع النواب : إيديكس 2025 أكد امتلاك مصر أقوى مصانع السلاح بالشرق الأوسط

وأكد وكيل لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بمجلس الشيوخ أن “إيديكس” يعزز ثقة المستثمرين العالميين في الصناعة الدفاعية المصرية، وأن التكامل بين القوات المسلحة والصناعة الوطنية قاد طفرة نوعية غير مسبوقة. 

وأضاف النائب أحمد حلمى الشريف أن مصر أصبحت تمتلك القدرة على إنتاج سلاح حديث يليق بمكانتها ويحقق الاكتفاء الذاتي والتصدير معًا.

ووجه التحية والتقدير لكل من ساهموا فى تنظيم هذا المعرض الذى أكد للعالم كله قدرة مصر الفائقة فى الدخول فى مثل هذه الصناعات الاستراتيجية العالمية والمهمة والحديثة.

طباعة شارك الرئيس عبد الفتاح السيسى معرض «إيديكس 2025» الإنتاج العسكري خريطة صناعة السلاح العالمية الصناعة الدفاعية المصرية

مقالات مشابهة

  • وكيل تشريعية الشيوخ: مصر تكتب فصلًا جديدًا بتاريخ الصناعة العسكرية عبر «إيديكس 2025»
  • صلاح الدين الأيوبي .. القائد الذي صنع المجد وكتب التاريخ
  • الصيادلة: تعزيز صادرات الأدوية والمكملات الغذائية طريق الدول نحو القوة الصناعية والاقتصادية
  • صمتٌ مريب… وازدواجية فاضحة: ما الذي يجري في أربيل؟
  • أحمد موسى: مصر تعمل على توطيد الصناعية العسكرية
  • ندوة تثقيفية بعنوان "التدخين وخطورته على الفرد والمجتمع" بمدرسة الفنية الصناعية العسكرية بشبراخيت
  • ما الذي كان يقلق الشرع وإدارة العمليات العسكرية قبل بدء عملية ردع العدوان؟
  • وزير الدفاع: "إيديكس 2025" يعكس صورة القوة الحديثة لمصر وقدراتها العسكرية المتطورة
  • كيف يقود الأمير الحسين الأردن إلى الثورة الصناعية الرابعة والخامسة؟