القائد صلاح الدين الأيوبي، ذلك الاسم الذي يلمع في صفحات التاريخ كرمز للعدل والشجاعة والوطنية، كان أكثر من مجرد قائد عسكري؛ كان فكرا وروحا امتزجت فيها الحكمة بالعزم، والإيمان بالقدرة على صناعة التاريخ. 

ولد صلاح الدين في تكريت شمالي العراق عام 1138م، لأب كردي نبيل، وكان لمولد صلاح الدين أثر كبير في تشكيل شخصيته، فقد نشأ في بلاط نور الدين محمود، حيث ترسخت فيه قيم الشجاعة والإخلاص والوفاء، وتعلم فنون الحرب والسياسة، لكنه لم يغفل عن العلوم والمعرفة، فقد أحب التعلم منذ صغره، وأبدع في العلوم الدينية والفقهية، ودرس الرياضيات والهندسة، وحفظ الشعر، وعرف كيف يوازن بين القوة والعلم، بين البأس والرحمة.

لقد تأثر صلاح الدين بعمه أسد الدين شيركوه، الرجل الذي كان مثالا للشجاعة والإقدام، ورافقه في حملاته ضد الفاطميين في مصر، وهناك بدأت رحلة ابن تكريت في تشكيل نفسه قائدا حكيما ومحنكا. 

لم تكن مصر مجرد مكان للتوسع أو السلطة بالنسبة لصلاح الدين، بل كانت أرضا يحتاج أن يحميها ويعزز وحدتها ويؤسس فيها عدلا حقيقيا. 

ومع وفاة عمه، تولى صلاح الدين الوزارة في سن الحادية والثلاثين، وواجه تحديات جسام، منها هجوم الصليبيين على دمياط، فتصدى لهم وهزمهم، وعزز بذلك مكانته في مصر وقلوب الناس فيها.

ثم جاء دوره التاريخي الأكبر، القضاء على الدولة الفاطمية، لكنه فعل ذلك بأسلوب رحيم وحكيم، إذ لم يكن هدفه الانتقام، بل تأسيس دولة مستقرة قائمة على العدل والشريعة. 

أسس الدولة الأيوبية، وأرسى قواعدها في مصر، وحافظ على الوحدة الوطنية، وعمل على تعليم الناس المذهب السني من خلال المدارس الكبيرة التي أنشأها، ولم ينس المصريين شعورهم بالانتماء، فحرص على أن يكون حكامه وأعوانه من أقاربه وأهل الثقة، ليضمن أن تكون الدولة قوية ومستقرة.

جهاد صلاح الدين لم يقتصر على الداخل، بل امتد ليشمل الدفاع عن الأمة ضد الصليبيين، بعد وفاة نور الدين، أخذ صلاح الدين على عاتقه توحيد البلاد العربية، ومواجهة الأخطار من أي جهة كانت، فعمل بين 1174 و1187م على جمع البلدان تحت رايته، وبدأ يبني القوة العسكرية والسياسية، ويشيد القلاع مثل قلعة المقطم، ويمتد نفوذه إلى اليمن وفلسطين ودمشق وحلب، مظهرا قدراته في التخطيط والحرب والقيادة.

أما معركته الشهيرة مع الصليبيين فكانت علامة فارقة في التاريخ، فقد هزمهم في موقعة حطين عام 1187م، وحرر بيت المقدس، وفرض احترامه على أوروبا كلها. 

لم يكن النصر مجرد انتصار عسكري، بل كان انتصارا لقيم العدل والوطنية والكرامة، وأظهر أن القوة الحقيقية ليست في السلاح وحده، بل في العقل والسياسة والإيمان بالحق. 

وبعد صلح الرملة مع ريتشارد قلب الأسد، أعاد التوازن إلى المنطقة، وحول الهجوم الصليبي إلى دفاع، محدثا بداية النهاية للغزوات الصليبية في الشرق.

وفاته في عام 1193م تركت فراغا كبيرا، لكن إرثه بقي حيا في قلوب الناس، وفي تاريخ الأمة كلها، لقد علمنا صلاح الدين أن القائد الحقيقي هو من يجمع بين الشجاعة والرحمة، بين القوة والعدل، وأن الوطنية ليست مجرد كلمات، بل أفعال يومية تتطلب التضحية والعمل من أجل الوطن والأمة. 

القائد صلاح الدين الأيوبي لم يكن مجرد ملك أو قائدا، بل كان رمزا للكرامة، وقدوة لكل من يؤمن بأن الأمة يمكن أن تتقدم وتزدهر عندما يقودها من يتمتع بالعقل، بالحكمة، وبحب الناس والعدل بينهم.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: صلاح الدين مصر الصليبيون الجهاد صلاح الدین

إقرأ أيضاً:

مثلث اتخاذ القرار

 

 

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

بين الرغبة والقدرة والطريقة، يُولَد القرار الذي يصنع الفرق.

في قاعة الاجتماعات يسود الصمت لثوانٍ طويلة، والأنظار تتجه نحو المدير الجالس في طرف الطاولة. أمامه أوراقٌ كثيرة وأرقامٌ متشابكة، والجميع ينتظر الكلمة الحاسمة. لحظة واحدة تفصل بين قيادةٍ تصنع التغيير وأخرى تكتفي بالمراقبة. فالفرق بينهما لا يكمن في وفرة المعلومات، بل في هندسة المثلث الذي يقوم عليه القرار: الرغبة، والقدرة، والطريقة؛ إذ من دون توازن هذه الأركان، يتحول القرار من أداة قيادة إلى عبءٍ إداري يستهلك الوقت ويُربك المؤسسة.

ومن هنا تأتي الرغبة في اتخاذ القرار بوصفها الشرارة الأولى التي تُشعل مسار التغيير داخل أي مؤسسة؛ فهي لا تعني التسرّع أو الاندفاع؛ بل تعبّر عن استعداد القائد لتحمّل مسؤولية ما سيترتب على قراره. وكثيرون يعرفون ما يجب فعله، لكن قلّة فقط يمتلكون الشجاعة لمواجهة النتائج. إنّ الخوف من الخطأ، وغموض المساءلة، والاعتياد على بيئةٍ تُكافئ الصمت أكثر من المبادرة، كلها عوامل تُضعف هذه الرغبة وتحوّل القائد إلى متفرّج.

لكن عندما تتوافر الإرادة الحقيقية، تُصبح القرارات الشجاعة ممكنة، وتتحوّل التحديات إلى فرص. فالقائد الذي يريد أن يقرّر، هو في الحقيقة من يريد أن يُغيّر، لأن القرار في جوهره إعلانٌ عن نية الإصلاح، لا مجرّد توقيعٍ على ورقة.

القائد الحقيقي لا ينتظر الظروف لتمنحه الضوء الأخضر؛ بل يصنع الضوء بنفسه.

غير أنّ الرغبة وحدها لا تكفي ما لم تُسندها القدرة على اتخاذ القرار؛ فهي الامتداد العملي للإرادة، والعنصر الذي يحوّل النية إلى فعل. ولا تُقاس القدرة بالموقع الوظيفي أو حجم السلطة، بل بامتلاك القائد للأدوات التي تمكّنه من اتخاذ قرارٍ واعٍ ومسؤول. فالرغبة بلا قدرة تُنتج حماسًا بلا اتجاه، بينما القدرة بلا رغبة تُولّد جمودًا إداريًا يقتل روح المبادرة.

وتتجلى هذه القدرة في المعرفة الدقيقة بالملف، وتوفّر البيانات الموثوقة، وفهم السياقين الزمني والنفسي للقرار. كما تتطلّب بيئةً مؤسسيةً تُسهّل تبادل المعلومات وتُقلّل البيروقراطية، لأن القرار لا يُصنع في فراغ، بل في منظومةٍ متكاملةٍ تُمكّن القائد من الرؤية الشاملة قبل أن يختار المسار الأمثل.

فالمعرفة ليست ترفًا إداريًا، بل هي وقود القرار المسؤول.

وعندما تكتمل الرغبة وتتوافر القدرة، يبقى الركن الثالث الذي يحدّد مصير القرار: الطريقة. فهي الجزء الأكثر حساسية في هذا المثلث، لأنها تحدد ما إذا كان القرار سيولد قبولًا أم مقاومة، نجاحًا أم ارتباكًا. فالقائد لا يُقاس فقط بما يقرّره، بل بكيف يقرّره ويُنفّذه. فالطريقة هي فنّ التوقيت واللغة والتدرّج؛ أن تعرف متى تعلن القرار، وكيف تشرحه، ولمن تُشركه في تنفيذه. وكم من قرارٍ صائب فشل بسبب سوء عرضه أو ضعف التواصل حوله!

إنَّ الحكمة لا تكمن في صياغة القرار بقدر ما تكمن في حُسن تطبيقه، بحيث يشعر العاملون أنهم جزءٌ من الحل لا ضحايا له. وعندما يُمارس القائد قراراته بشفافيةٍ واحترامٍ للعقول، تتحول المقاومة إلى دعم، والواجب إلى التزامٍ طوعيّ يرفع من منسوب الثقة داخل المؤسسة.

والأسلوب أحيانًا أهم من القرار ذاته، لأنه يرسم الطريق بين القناعة والتنفيذ.

وفي النهاية، تتضح الصورة الكاملة لهذا المثلث الذي لا يكتمل ضلعٌ منه دون الآخر. فكل قرار هو مرآةٌ للرغبة التي صنعته، والقدرة التي دعمته، والطريقة التي أخرجته إلى الواقع. وحين تتكامل هذه الأضلاع، يتحول القرار من مخاطرةٍ إلى رؤية، ومن إجراءٍ إداريّ إلى خطوةٍ ناضجةٍ في طريق التغيير. أما حين يختل أحدها، يفقد القرار توازنه ويغدو كمن يسير على ضلعٍ مكسور.

المؤسسات التي تُنضج مثلث القرار في قياداتها لا تخشى المستقبل، لأنها تدرك أن القرار السليم ليس نتاج لحظةٍ من الشجاعة؛ بل ثمرة ثقافةٍ مؤسسيةٍ واعية تؤمن بأن القيادة الحقيقية تبدأ من الداخل: من وعيٍ يُريد، وقدرةٍ تُنفّذ، وطريقةٍ تُقنع.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • حميد بن عمار: وطن عظيم صنع المجد
  • أحمد علي باشا.. الوزير الذي صنع بصمة مصرية خالدة
  • معنى سمة "ذبح العلماء" الذي عرف على مر العصور.. علي جمعة يوضح
  • مثلث اتخاذ القرار
  • تقرير: رحلات "هجرة صامتة" تغري الغزيين بالنجاة و"مجد أوروبا"
  • راشد بن عمار: قلوب مخلصة للإمارات
  • مريم الرميثي: الشهداء نبراسٌ ينير دروب العطاء
  • إلهام أبو الفتح تكتب: ما هو سر المتحوّر الجديد الذي يصيب الناس؟
  • هل ما زال في المجتمع ما يكفي من القوة ليحمل الوطن؟