سالي عاطف تكتب: لماذا يُصوِّر الإعلام أفريقيا بصورة سلبية؟
تاريخ النشر: 14th, December 2025 GMT
رغم أن أفريقيا تُعد واحدة من أغنى قارات العالم من حيث الموارد الطبيعية، وأسرعها نموًا ديموغرافيًا، وأكثرها امتلاكًا لفرص مستقبلية واعدة، لا يزال حضورها في الإعلام الدولي، بل وحتى الإقليمي أحيانًا، محصورًا في صور نمطية قاتمة: حروب، مجاعات، أوبئة، انقلابات، وفشل مزمن. هذا التناقض الصارخ بين الواقع المتعدد الأوجه للقارة والصورة الإعلامية السائدة يطرح سؤالًا جوهريًا: لماذا يُصر الإعلام على تقديم أفريقيا باعتبارها “قارة الأزمات” وليس “قارة الفرص”؟
السبب الأول يرتبط بطبيعة الإعلام العالمي نفسه، الذي تحكمه معايير الإثارة والصدمة.
لكن اختزال المشكلة في منطق السوق الإعلامي وحده يُعد تبسيطًا مخلًا. فالصورة السلبية لأفريقيا ليست وليدة الصدفة، بل هي امتداد تاريخي لإرث استعماري طويل، رسّخ تصورًا ذهنيًا عن القارة باعتبارها “الآخر المتخلف” الذي يحتاج دائمًا إلى الوصاية أو الإنقاذ. هذا الإرث لم يختفِ بانتهاء الاستعمار العسكري، بل أعيد إنتاجه بصيغ ناعمة عبر الإعلام، والأبحاث، وحتى بعض الخطابات الإنسانية، التي تُبرز أفريقيا كمكان للأزمات الدائمة، لا كفاعل مستقل قادر على صياغة مستقبله.
وراء هذا الخطاب الإعلامي أجندات سياسية واقتصادية واضحة. فتصوير أفريقيا كقارة فاشلة يسهّل تبرير التدخلات الخارجية، سواء كانت عسكرية، أو اقتصادية، أو حتى “إنسانية”. عندما تُقدَّم الدول الأفريقية باعتبارها غير قادرة على إدارة مواردها أو حماية شعوبها، يصبح التدخل الخارجي مقبولًا، بل و”ضروريًا” في نظر الرأي العام العالمي. كما يساهم هذا الخطاب في تبرير شروط اقتصادية غير عادلة، وعقود استثمارية مختلّة، تُمنح فيها الأفضلية للشركات متعددة الجنسيات على حساب التنمية المحلية.
إضافة إلى ذلك، يخدم الخطاب السلبي مصالح قوى دولية تسعى إلى إعادة تشكيل النفوذ في أفريقيا. فالتنافس على المعادن الاستراتيجية، والطاقة، والموانئ، والسواحل، يحتاج إلى بيئة خطابية تُقلّل من قيمة الفاعل الأفريقي وتُضخّم من هشاشته. الإعلام هنا لا يعمل كناقل محايد للواقع، بل كأداة ناعمة لإدارة الصراع على الموارد والنفوذ، عبر ترسيخ صورة ذهنية تجعل أفريقيا تبدو دائمًا بحاجة إلى “من يديرها”.
ولا يمكن تجاهل دور بعض النخب الأفريقية نفسها في تكريس هذه الصورة، سواء من خلال الاعتماد المفرط على التمويل الخارجي للمؤسسات الإعلامية، أو من خلال خطاب داخلي يُعيد إنتاج لغة الضحية بدل لغة الفاعل. في كثير من الأحيان، تُروى القصة الأفريقية بعيون غير أفريقية، وبمصطلحات لا تعكس تعقيد المجتمعات المحلية ولا طموحاتها، مما يؤدي إلى تغذية الصورة النمطية بدل تفكيكها.
المفارقة أن هذا الخطاب يتجاهل حقائق جوهرية: أفريقيا تضم أكبر احتياطي عالمي من المعادن النادرة، وتمتلك أكثر من 60% من الأراضي الزراعية غير المستغلة عالميًا، وتضم جيلًا شابًا يمثل قوة عمل مستقبلية هائلة. كما تشهد القارة تحولات لافتة في مجالات التكنولوجيا المالية، والطاقة المتجددة، وريادة الأعمال، وهي تحولات نادرًا ما تحظى بنفس الزخم الإعلامي الذي تحظى به أخبار النزاعات.
إن استمرار تقديم أفريقيا باعتبارها “قارة بلا أمل” لا يضر فقط بصورتها الخارجية، بل يؤثر أيضًا على وعي شعوبها بنفسها، وعلى ثقة المستثمرين، وعلى طبيعة الشراكات الدولية. لذلك، فإن معركة أفريقيا اليوم ليست فقط معركة تنمية أو استقرار، بل هي أيضًا معركة سردية، تتعلق بمن يملك الحق في رواية القصة، وبأي لغة تُروى، ولأي غاية.
في النهاية، ليست المشكلة في أن أفريقيا بلا أزمات، بل في أن الإعلام اختار أن يجعل من الأزمة هويتها الوحيدة. وبينما يستمر العالم في النظر إلى القارة عبر عدسة الخلل، تظل أفريقيا، بإمكاناتها الهائلة ومستقبلها البِكر، أكبر من أي سردية مختزلة، وأقوى من أي صورة نمطية مفروضة.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: أفريقيا قارات العالم الموارد الطبيعية
إقرأ أيضاً:
سياسات اللغة العربية وآفاقها
ترتبط اللغة بالإبداع الثقافي والعلمي، من حيث قدرتها على تجليها وتقديمها باعتبارها نتاجًا إنسانيًا؛ ولهذا فإن اللغة العربية واحدة من تلك اللغات الإنسانية التي قدمت للعام عبر تطوراتها المختلفة أهم الآداب والعلوم، التي سعى العالم إلى التعرُّف إليها عبر وسائل مختلفة سواء عن طريق الترجمات، أو المراجعات، أو التحليل، أو غير ذلك؛ الأمر الذي جعلها دائما في صدارة اللغات المرتبطة بالإبداعات الحضارية.
فاللغة العربية قدَّمت خلالها تاريخها محتوى مرتبطًا بالابتكار والاستكشاف. ولعل ما تكشفه مصادر الكتب المتخصصة في العلوم الطبية والعلمية المختلفة إضافة إلى الفلسفة والآداب والفنون وغيرها، تقدِّم أدلة واضحة عن قدرة هذه اللغة وإمكاناتها الإبداعية واللغوية التي مكَّنتها من أن تكون جسرا حضاريًا معرفيًا يربط بين العالم العربي والعوالم الحضارية الأخرى، وأن تقدِّم هذا العالم كما يستحق وأن تضعه في مكانته بين الحضارات الإنسانية.
ولأن التحولات التقنية المتسارعة وأنماط الحياة المعاصرة تفرض على اللغات الإنسانية عموما واللغة العربية بشكل خاص، اتخاذ سبل مغايرة بُغية تحقيق التوازن بين أصالة الدور الحضاري الذي تؤديه، والمتغيرات التقنية الحديثة التي انحازت إلى لغات دون أخرى، الأمر الذي يدفع الدول إلى اتخاذ إجراءات تُعزِّز من دور لغتها الرسمية في أداء دورها الإنساني ليس فقط لأنها تمثل تاريخها الحضاري بل لأنها سُلطة تمثل سيادة الدول وهُويتها الوطنية المستقلة.
ولهذا جاء الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية للعام 2025، الذي يصادف الثامن عشر من ديسمبر من كل عام تحت عنوان (آفاق مبتكرة للغة العربية. سياسات وممارسات ترسم مستقبلا لغويا أكثر شمولا)؛ بهدف استكشاف (قدرة الابتكار والشمول على رسم ملامح مستقبل اللغة العربية)، وفق مقتضيات التحولات المتسارعة، التي من شأنها تعزيز مكانة اللغة اعتمادًا على إمكانات الإبداعات والابتكارات التي تقدمها للعالم؛ فالابتكار يُسهم إسهاما مباشرا في تمكين اللغة وتأسيس أنماط تطوراتها.
إن التحولات التقنية المعاصرة، وما يواكبها من ثورة معرفية في مجالات الابتكار تمثِّل فضاءً واسعا للغات عموما وللغة العربية خاصة، من خلال ما تفرضه من إمكانات ومعطيات، ولهذا فإنها تحتاج إلى ممكنات تساعدها على مواكبة تلك التحولات والاستفادة منها؛ فاللغة العربية تحتاج اليوم إلى مراجعة السياسات والممارسات التي تجعلها أكثر قدرة على مواكبة تلك التحولات، من حيث المهارات التعليمية وأساليب تدريسها من ناحية، وترسيخ دور الإعلام الحديث في النظر إليها باعتبارها ممكنِّا حضاريا لمهارات الإبداع والابتكار من ناحية أخرى.
إضافة إلى ذلك فإن سياسات التقنيات الحديثة تقدِّم اللغة باعتبارها قوة للتحولات الاجتماعية، تقود العديد من الممارسات وتوجِّهها نحو الأفكار الجديدة وفق مقتضيات ذات أبعاد عالمية، لا تؤثر على المفاهيم المجتمعية والحضارية وحسب، بل تغيِّر تلك المفاهيم نحو أخرى تحت مسميات تبدو أكثر جاذبية، غير أنها تسعى إلى تنميط المجتمعات وفق أنماط عامة لا تراعي الخصوصيات بل حتى الهُويات المجتمعية المتمايزة.
إن أهمية تحديث السياسات والممارسات الخاصة باللغة العربية ومراجعتها وفق المقتضيات المعاصرة، له أهمية كبرى في إدارة التحولات الاجتماعية، وتحقيق الأهداف الوطنية الساعية إلى حفظ اللغة العربية وتنميتها وتطوير أنماطها؛ الأمر الذي يعزِّز حضورها المتجدِّد في الأنظمة التعليمية بما يتوافق مع التطورات الحديثة، مما يجعلها قادرة على تلبية احتياجات فئات الناشئة والشباب بشكل خاص، إضافة إلى أهمية حضورها في المنصات الرقمية والبرامج الإلكترونية، بما يدعم اتخاذها أداة أساسية للإبداع والابتكار.
ولهذا فإن تخصيص الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية لمناقشة هذه السياسات والممارسة يمثِّل أهمية كبرى، في ظل تلك التطورات التي جعلتها أقل حضورا بالمقارنة مع لغات أخرى اتخذتها البرامج والمنصات التقنية أساسا لها.
إن مراجعة السياسات بما يتواكب مع مستقبل اللغة العربية وما تنشده الدول لتعزيز حضورها يرسِّخ مبدأ المساواة بين اللغات، وهو أمر مهم انطلاقا من أهمية اللغة للمجتمعات وتمثيلها لهُويتها الوطنية وسيادتها المستقلة.
من هذا المنطلق فإن السياسات والممارسات الممكِّنة للغة العربية، تُسهم في تمكين المجتمعات وضمان الحفاظ على هُويتها المتميِّزة وقدرتها على مواكبة التطلعات والتكيُّف معها من ناحية، والحفاظ على ثقافتها وتراثها الحضاري من ناحية أخرى. فالمكانة الحضارية التي تمثلها اللغة العربية في مجتمعنا، تحتاج إلى ترسيخ للأجيال حاضرا ومستقبلا، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه سوى عن طريق مواكبتها لاحتياجاتهم التقنية والإبداعية، وتوفيرها باعتبارها معطى أساسيا للابتكار.
إننا نحتاج لمراجعة وتأسيس سياسات وممارسات لغوية تساعد وتعين التطورات التقنية، للكشف عن مكنونات هذه اللغة، وقدرتها اللغوية والثقافية على إيجاد مساحات واسعة للإبداع؛ فما تقدمه المعجمات اللغوية التقنية وبرامج التطبيقات اللسانية وحدها لا يكفي لقيادة تلك التحولات المتسارعة، إذ تحتاج إلى دعم تقني ومحتوى معرفي يتواكب مع تطلعات الإبداع والابتكار، وتعزيز وجود اللغة العربية باعتبارها خيار متاح وأساسي في برامج الابتكار في كافة المجالات التطبيقية.
إن اللغة العربية اليوم ليست لغة مجتمعية محلية خاصة، بل لغة عالمية تمثِّل إمكانات ذات قدرات هائلة يتوجَّب إبرازها في التخطيط الاستراتيجي وإدارة الموارد التقنية، بما يُحقِّق التوازن بين التأصيل اللغوي الذي يمثَّل الهُوية والتنوُّع اللغوي على مستوى العالم، والتقدم العلمي والتقني الذي يعكس التطورات الحضارية المتسارعة، ولهذا فإن استكشاف التأثير المتبادل وإيجاد مناطق التوازن بينهما ضرورة تنموية، خاصة في ظل تطورات برامج الذكاء الاصطناعي، التي عزَّزت مفاهيم عدم المساواة بين اللغات، الأمر الذي دفع الكثير من دول العالم إلى مراجعة سياساتها اللغوية وتعزيز لغاتها المحلية في تلك البرامج.
فبرامج الذكاء الاصطناعي الخاصة بالمحتوى الثقافي والحضاري على سبيل المثال تواجه إشكالات عدة في ظل هيمنة بعض الدول والشركات المبرمجة من حيث توجيهها وإدارة سياستها، مما جعلها أداة لإدارة التحولات الاجتماعية في العالم، من خلال السيطرة اللغوية عبر لغات بعينها تحمل ثقافة ذات أيديولوجية موجَّهة، إلاَّ أن عدم توفُّر لغة أخرى بذات الإمكانات التقنية، دفع الدارسين والمبدعين إلى اتخاذها لغة للتعاملات التقنية والإبداع والابتكار، وهكذا الحال في البرامج التقنية المتخصصة بالترجمات والمحتويات المعرفية، فحجم المادة التي توفرها منصات ومواقع البحث باللغة الإنجليزية مثلا لا يمكن الحصول عليها باللغة العربية.
إن إثراء المحتوى الثقافي الرقمي باللغة العربية، وتوفيرها في البرامج والمنصات والمواقع باعتبارها خيارًا للإبداع والابتكار، إضافة إلى دعم ممكناتها اللسانية والاجتماعية وغير ذلك، لا يمكن أن يتحقَّق سوى بإيجاد سياسات وممكنات وممارسات قائمة على تعزيز دور اللغة العربية الحضاري، الذي يتواكب مع التطورات التقنية والرقمية من ناحية، والتحولات الاجتماعية من ناحية أخرى، بما يبرز إمكاناتها ويقدمها باعتبارها لغة قادرة على مواكبة تلك التطورات والمتغيرات.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة