عربي21:
2025-10-14@13:02:13 GMT

عربة تنسي وليامز في السينما المصرية (2)

تاريخ النشر: 5th, September 2023 GMT

عربة تنسي وليامز في السينما المصرية (2)

نستكمل في هذا المقال حديثنا عن ثلاثة أفلامٍ مصريّةٍ مستَوحاةٍ من هذا النّصّ المسرحي للكاتب الأمريكي تِنِسي وليامز (عربةٌ اسمُها الرَّغبة A Streetcar Named Desire). ويبدو أنّ لهذا النص سحرَه الخاصّ الذي تصعبُ مقاومتُه.

الموسيقى:
تلعبُ الموسيقى دورًا بالغَ الأهميةِ في بِناء النصّ المسرحيّ الأصليّ، إذ يمثّل تكرارُ موسيقى ﭬـارزوﭬـيانا "Varzouviana" مُعادِلًا موضوعيًّا لشخصيةِ بلانش المرتبِكة وتمزُّقِها بين الشعور بالذنب لتسبُّبها في انتحار آلان بدلًا من أن تساعدَه على تجاوُز ما هو فيه، والحنين إلى الماضي بما فيه من نعمةٍ ورغَدٍ في مزرعةِ أسرتِها "Belle Reve" التي تعني بالفرنسية (حُلمًا جميلا).

وسِرُّ تحديد هذه الموسيقى أنها كانت الموسيقى التي راقصَ عليها آلان امرأتَه آخرَ مرّةٍ قبل أن تخبرَه بأنها تحتقرُه. وهي موسيقى راقصةٌ ذات إيقاعٍ ثلاثيٍّ أقربَ إلى إيقاع الـﭭـالس وإن كانت تمزِج عناصرَ من المازوركا والـﭙـولكا. والمهمُّ أنّ وليامز في توجيهاته المسرحية يجعلُ الموسيقى تشتدُّ وتَخفُت ويتغيّر مِزاجُها وركوزُها بين السلَّمَين الكبير والصغير، خالقًا بذلك مشروعًا لنصٍّ موسيقيٍّ مُوازٍ، لا يقلُّ أهميةً عن الأسطُر التي تقولُها بلانش في الإيحاء بمشاعرِها. ومن اللافت كذلك اختيارُه هذه الموسيقى بالذات، باسمِها الذي يَعني بالإسـﭙـانيةِ "مِن وارسو" عاصمة ﭘـولندا، وذلك أنّ ستانلي ينحدِر من أصلٍ ﭘـولنديٍّ، واسمُه الكامل ستانلي كوﭬـالسكي، فكأنّ التعالُقات اللغوية لاسم هذه المقطوعة تجعلُها تنبُّؤًا بمقابلة بلانش زوجَ أختِها الذي سيمثِّل لها نهايةَ رحلتها من لحظة انتحار آلان إلى فُقدانِها عقلَها تماما.

وعودة إلى النسخ المصرية الثلاث، نبدأ بـ(انحراف) حيث وضع موسيقاه المرحوم حسن أبو السعود وتولّى التوزيعَ يحيى الموجي. والحَقُّ أنّ أبا السعود قد وضع موسيقى المقدمة مُغرقةً في مصريتِها، تنطِق بلوعة التجربة الإنسانية التي تعانيها البطلةُ سميحة/ بلانش/ مديحة كامل، وتتخلّلُها جسورٌ من التأمُّل المُحايد. والمُعادل الموسيقي الذي اختارَه هو الابتداء بمقام صبا زمزمة على درجة ري تعرفُه الوتريات على إيقاع رباعي، في تتابُعٍ يبدأ من صول بيمول ويهبط إلى دو، ثمّ يتصدّر الناي المشهد اللحني بأن يعزف في المنطقة بين (صول بيمول – دو) من مقام صَبا على درجة ري، ثم تتسلم الوتريات من الناي لتعزف جسرًا قصيرًا في مقام نهاوند، وسرعان ما يتسلّم منها القانون ليعزف منفردًا من مقام صبا على درجة صول في المنطقة بين (سي – فا)، ثم تتسلم الوتريات مجدَّدًا لتعزف جسرًا أطول في النهاوند ويتكرر التتابُع نفسُه بقليلٍ من التنويع. والخلاصة أنّ أستاذنا أبا السعود أبدع هو الآخَر نصًّا موسيقيًّا قصيرًا بالغَ الرهافة موفَّقًا إلى أبعد مَدى. فإذا انتقلنا إلى موسيقاه التصويرية فسنجدُ مقطوعات الأكورديون التي يُرجَّح أنه عزفَها بنفسِه جديرةً بالبقاء مستقلّةً عن السياق الدراميّ، ومنها المقطوعة المصاحبة لوصول (سميحة) إلى المنطقة التي تسكنُها أختُها، وهي في مقام الكُرد على درجة دو، وفيها زخارف (أبي السعود) المميزة التي تنطِق بالإغواء.

أما في فلم (الفريسة) فقد صنع المرحوم حسين الإمام مقدمةً بالغَةَ القِصَر تقطعها مشاهد من الفِلم، وهي مقدمة تبدأ في مقام الكرد على درجة (فا) ثم تنتقل إلى مقام النهاوند الكُردي على درجة (لا)، تعزفُها الوتريات والپيانو والفلوت. لكنّ قَطع المقدمة يقلل فرص إفادتِها سياقَ الفِلم وتكريس جوّه العامّ، وإن كانت جملتُها الافتتاحية الشجية تتكرر في لحظات معينة فتخطو خطوة لا بأس بها نحو ربط الأحداث وخلق مُواجَدةٍ بيننا وبين الشخصيات. أمّا الموسيقى الروائية "Diegetic Music" – أي تلك التي تسمعها الشخصيات كما نسمعها – فلعلّ أهمّ أمثلتها هي المقطوعة التي يعزفها طارق (يوسف فوزي) على الپيانو وأحلام (سهير رمزي) جالسة بجواره قبل زواجهما، إذ يعزف "حبك نار" لعبد الحليم حافظ من لحن محمد الموجي. وفي تقديري أنّ هذه الموسيقى كان يمكن الاستفادة منها ومن موسيقى المقدمة بمقابلتهما معًا في لحظات معينة على مدار الفِلم، فأغنية عبد الحليم المرتبطة في أذهاننا بالعاطفية الشديدة تمثّل موضوعًا زائفًا هنا في علاقة أحلام وطارق، فيما كان يمكن أن تعبّر المقدمة عن حالة تأملية أعمق إزاء أحداث الفِلم.

وأخيرًا، فقد صنع عمر خيرت لفِلم (الرغبة) مقدّمةً بديعةً مبنيةً في الأساس على تتابع نغمي سريع الإيقاع في مقام الكرد على درجة فا (فا-صول بيمول-سي بيمول-صول بيمول-فا) أي أنه يقفز نغمتين بين (صول بيمول) و(سي بيمول)، باعثًا شعورًا بالإنذار والارتباك، يليه تتابع يحافظ على الإيقاع نفسِه في مقام الحجازكار على درجة صول (شدّ عُربان)، وهذان التتابعان يتسلّمان من بداية هادئة في مقام النهاوند تعزفها الوتريات والهارپ، ويعودان إليها. والمهم في هذا الترتيب أنه يخلُق إيحاءً بارتباك المشاعر وتضاربها، ويمهد السبيل أمام قصة الفِلم المفعمة بمثل هذه المشاعر. ويظهر هذان المكوِّنان من المقدمة (البداية في النهاوند – والتتابعان في الكرد والحجازكار) في لحظات مختلفة من الفِلم ليربطا مفاصل القصة شعوريّا.

ومن زاويةٍ شخصيةٍ، فإنني رغم تفضيلي مقدّمة (انحراف) التي أبدعها أبو السعود، إلا أنني أرى مقدمة (الرغبة) هي الأنجح في أداء دورها في سياق العمل، لاسيما أنّ الجوّ الحلُميّ الذي يسِم موسيقى عمر خيرت كان متناسبًا أيَّما تناسُبٍ مع تغييرات القصة التي أجراها رفيق الصبّان (خاصةً انتقالَه بها إلى عالَم المدينة الساحلية غير المعرَّفة، حيث البحر خلفيةٌ لكثيرٍ من المَشاهد) وانحيازات علي بدرخان الإخراجية التي واكبَت هذه التغييرات. أمّا الموسيقى الروائية فلعلّ أهمّ ما فيها أغنية "الحياة بمنظار وردي La Vie en Rose" إحدى أشهر أغاني إديث پياف، والتي اختارها بدرخان لتكون الأغنية التي يراقص (شادي) عليها (نعمت). فالأغنية الفرنسية المرتبطة بالحبّ الأرستقراطيّ الحلُميّ مثَّلَت معادلًا موسيقيًّا للماضي الضائع الذي ظلّت نعمت/ بلانش تحلُم به.


عن سحر النصّ المتجدد:
في تقديري أنّ مسرحيةَ وليامز وفِلم إليا كازان يمثّلان وجهًا آخَر لرثاء الجنوب الأمريكي الضائع، في مقابل الوجه الذي يمثّله فِلم "ذهب مع الريح Gone with the Wind"، ولعلّها ليست صدفةً أن يشترك الفِلمان في البطلة ﭬـيـﭭـيان لي، تلك الفنانة الإنـﮕـليزية التي يقطِّر حضورُها قِيَمَ الجَمال كما عرَفتها الأرستقراطيّة الإنـﮕـليزية وكما ورثَها الجنوب الأمريكيُّ حتى تبددَت مهابتُه مع الحرب الأهلية الأمريكية. وما أعنيه أنّ فِلم "ذهب مع الريح" الذي تعايش أحداثُه سقوطَ الجَنوب الثريّ القائم على المزارع العملاقة التي تستغلّ العَبيدَ السُّود يركِّز على حياة "سكارلِت أوهارا"، وهي نموذجٌ لما يسمَّى في أدبيات النقد السينمائي الأمريكي "الجميلة الجنوبية Southern Belle"، فيما يتعاملُ نصُّ وليامز وفِلم كازان مع العالَم المضطرب الذي تجد الجميلةُ الجنوبيةُ نفسَها مضطرّةً للانخراط فيه رغم أنفها بعد سقوط هذا الجنوب بزمنٍ طويل. وفي الحالَين لا يمكننا أن نخطئ جوَّ الحنين إلى الماضي الجنوبيّ الجميل بما كان يسِمُه من استقرارٍ ورغَد. لقد كان باختصارٍ عالَمًا زراعيًّا بالأساس، تحكمُه قِيَمُ المجتمعات الزراعية، وليس فيه إلا سادةٌ أنـﮕـلوسكسونيون وعَبيدٌ أفارقة، ولا مكان فيه لاضطراب الأعراق المختلِطة وتشوُّشِها وصخب حياة المصنع، السِّمَتَين اللتَين طَبَعَتا فيما بعدُ المجتمعَ الأمريكي، وهما سِمتان نراهما بوضوحٍ في بيت ستانلي كوﭬـالسكي المهاجِر الپولندي عامل المصنع في "عربة اسمها الرغبة".

وفي الوقت ذاتِه لدينا ما يُغرينا بأن نظُنّ أنّ شخصيةَ آلان الذي لا يظهرُ إلا في ذكريات بلانش قد تكون رمزًا في ذهن مُبدع المسرحية لذلك الجنوب الساقط كلِّه، فقد كان راقيًا رقيًّا لا سبيلَ لبلانش إلى أن تجدَ معادلًا له في عالَم كوﭬـالسكي، وربما لو كان قد حظي ببعض المساندةِ لتغلَّبَ على نزوعِه المثليِّ وأكمل حياتَه رجُلًا كما يحلو لبلانش. ربما يكون هذا قد خطرَ لوليامز، وربما لا بالطبع!

وعلى أية حالٍ، فما قُلناه عن نصّ وليامز الثريّ ليس إلا مقدمةً بسيطةً للعالَمِ المسرحي الفريد الذي خلقَه، والذي نسجَ على منوالِه إليا كازان، ثمّ مُخرجونا الثلاثة الذين سحرَهم هذا العالَم، ويبقى النصُّ الأصليُّ وتجسداتُه السينمائية منفتحةً على الدراسة والتأمل.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير المسرحي المصرية مصر مسرح سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة على درجة فی مقام الف لم التی ی

إقرأ أيضاً:

إقبال كبير على تذاكر صابر الرباعي وسوما بختام مهرجان الموسيقى

يحيي النجم صابر الرباعي و النجمة سوما حفل ختام الدورة ال 33 من مهرجان و مؤتمر الموسيقى العربية يوم 26 أكتوبر ، المقرر انطلاقة يوم 16 أكتوبر الجاري علي مسرح النافورة بدار الأوبرا المصرية ، وسط مشاركة نخبة من نجوم الطرب و الموسيقى في العالم العربي ، لقد كشفت الصفحة الرسمية لدار الأوبرا عن وشك نفاذ تذاكر الحفل

واختارت دار الأوبرا المصرية برئاسة الدكتور علاء عبد السلام 83 فنانا للمشاركة في الدورة 33 من مهرجان و مؤتمر الموسيقى العربية التي اختارت أم كلثوم شخصية لها بمناسبة مرور  50 عاماً علب رحيلها ، من هؤلاء النجوم الذين يشاركون ضمن فعاليات مهرجان الموسيقى العربية علي مسرح سيد درويش بالإسكندرية هو الفنان المغربي الكبير فؤاد زبادي ، يوم الخميس الموافق 16 أكتوبر و ذلك بقيادة المايسترو هشام نبوي


و خلال حفل الافتتاح الذي يحتصنه مسرح النافورة يكرم الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة و الدكتور علاء عبد السلام رئيس دار الأوبرا 11 شخصية ساهمت في إثراء الحياة الفنية في مصر و العالم العربي هو الدكتور هشام شرف (الأردن) ، اسم الفنانة نعيمة سميح ( المغرب ) ، اسم الشاعر الهادي آدم (السودان) عازف الجيتار جلال فوده (مصر ) اسم المايسترو حسن فكري (مصر ) ، الشاعر وائل هلال (مصر ) ، الملحن خالد عز (مصر ) و المطرب محمد الحلو (مصر ) ، المطرية آمال ماهر ( مصر )

طباعة شارك صابر الرباعي اخبار الفن نجوم الفن سوما

مقالات مشابهة

  • قبل انطلاقه.. التفاصيل الكاملة لفعاليات مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية الـ 33
  • إقبال كبير على تذاكر صابر الرباعي وسوما بختام مهرجان الموسيقى
  • ترامب: أشكر الرئيس السيسي على المقاتلات الحربية التي اصطحبتنا فور دخول الأجواء المصرية
  • الحبس شهرين وغرامة 40 ألف جنيه عقوبة تكرار تشغيل عربة طعام متنقلة بدون ترخيص
  • الموسيقى الكاميرونية.. أنغام متجذّرة وهوية نابضة
  • جدل بالمنصات الجزائرية بعد حفل هيفي ميتال قرب مقام الشهيد
  • تفاصيل وموعد حفل سوما في مهرجان الموسيقى العربية
  • صابر الرباعي يلتقي بجمهوره في مهرجان الموسيقى العربية هذا الموعد
  • موعد حفل مي فاروق في مهرجان الموسيقى العربية
  • محمد ثروت يشارك في مهرجان الموسيقى العربية بدورته الـ33