في الذكرى الـ18 للاندحار عن غزة.. لماذا يعضّ الإسرائيليون أصابع الندم؟
تاريخ النشر: 12th, September 2023 GMT
القدس المحتلة - خاص صفا
يمثّل الاندحار الإسرائيلي عن قطاع غزة عام 2005 الذي يوافق اليوم ذكراه الثامنة عشر، علامة فارقة في تاريخ الصراع مع الاحتلال، ولاسيما أن "إسرائيل" لم يسبق لها أن خرجت مُرغمة من أرض استولت عليها منذ احتلالها فلسطين عام 1948.
وجاء الاندحار بعد عمليات شبه يومية وضربات كانت توجهها المقاومة الفلسطينية للمستوطنات داخل القطاع تنوعت بين عمليات اقتحام وزرع عبوات ناسفة وإطلاق صواريخ وتطورت حتى وصلت إلى حفر الأنفاق أسفل مواقع الاحتلال، ما كلف "إسرائيل" خسائر فادحة في الأرواح وأدى لانعدام الأمن لدى المستوطنين.
وفي ظل تصاعد العمليات اضطر رئيس وزراء الاحتلال آنذاك آرئيل شارون لاتخاذ ذلك القرار الذي اكتمل تنفيذه في سبتمبر/ أيلول 2005.
ورغم مرور 18 عامًا على اندحارها عن غزة، باتت "إسرائيل" تواجه واقعًا أكثر تعقيدًا، وواصلت تلقي الضربات من المقاومة في القطاع التي عملت على تنمية قدراتها العسكرية وأصبحت تمتلك صواريخًا يمكنها استهداف أي نقطة في أرض فلسطين.
خلافات كبيرة
وسادت خلافات كبيرة بين قادة الاحتلال الإسرائيلي أثناء اتخاذ قرار إخلاء المستوطنات والانسحاب عن قطاع غزة، بين من أيّد الخطوة، وبين من عارضها لتداعياتها "الخطيرة" على أمن الكيان.
وجاء في مقابلات سابقة مع عدد من قادة الاحتلال، وترجمتها وكالة "صفا"، أنّ رئيس حكومة الاحتلال آنذاك "آريئيل شارون" استفرد بقرار الانسحاب، وكان مصرًا عليه على الرغم من كونه أحد عرّابي المشروع الاستيطاني إبان الاحتلال عام 1967م.
وادّعى قائد أركان جيش الاحتلال في حينها موشي يعلون أنّه عارض الانسحاب من غزة، لكنّه لم يكن قادرًا على التعبير عن رأيه "كونه لم يكن جزءًا من متخذي القرار، الذي استفردت به الجهة التنفيذية".
وبرر يعلون معارضة بخشيته من سيطرة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على قطاع غزة والضفة الغربية، زاعمًا أنّه كان يتوقع سقوط الصواريخ على "تل أبيب" ومنطقة وسط الكيان وأنّ ذلك "كان واضحًا كالشمس".
من جانبه، قال رئيس جهاز "الشاباك" في حينه آفي ديختر إنّ تحفظه الوحيد على الانسحاب من قطاع غزة كان إخلاء محور "فيلادلفيا" (صلاح الدين) على الحدود الفاصلة بين غزة ومصر.
وقال: "هذه المنطقة بمثابة الروح لمسلحي القطاع، إلا أن ثمن البقاء هناك كبير؛ إذ كان لمشاهد الجنود، وهم يبحثون عن أشلاء رفاقهم على الحدود مع سيناء بعد تفجير ناقلة الجند ومقتل 6 من عناصرها، بالغ الأثر في قرار الانسحاب".
وفي السياق، اعترف رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في جيش الاحتلال حينها "زئيفي فركش" أنّ الانسحاب جاء في ظل صعوبة حماية ثمانية آلاف مستوطن في القطاع، وتحوّل المستوطنات إلى بؤر للموت في ظل العمليات الفلسطينية.
انتقال الرعب لـ"تل أبيب"
أمّا المحلل العسكري الشهير ألون بن دافيد فقال إنّه على الرغم من أن الانسحاب جاء للتخلص من المعضلة الأمنية والعسكرية التي شكلها القطاع على الجيش والمستوطنين إلا أن الواقع بدا أكثر تعقيدًا فقد باتت الصواريخ تهدد "تل أبيب" بدلاً من الغلاف وحتى أبعد من ذلك.
وأشار بن دافيد إلى أنّ سلسلة عمليات دموية سرّعت في عملية الانسحاب من قطاع غزة؛ إذ قُتل 13 جنديًا إسرائيليًا في تدمير ناقلتي جند في رفح وغزة قبل عام من الاندحار.
وعقّب قائد الأركان السابق لجيش الاحتلال دان حلوتس على عملية الانسحاب من غزة بالقول إنّ "الأمر كان صعبًا للغاية وتمثل بتدمير المشروع الاستيطاني في القطاع".
وأشار حالوتس إلى أنّ "السنوات التي أعقبت الانسحاب لم تكن وردية فقد نفّذ الجيش عدة عمليات كبيرة في القطاع، وباتت صواريخ حماس تهدد تل أبيب وما بعدها".
من جانبه، وصف الصحفي الإسرائيلي "أرئيل كهانا" خطوة إخلاء المستوطنات في قطاع غزة والانسحاب منها قبل 18 عامًا، بـ"الخطوة الغبية وعديمة الجدوى".
وقال "كهانا" في مقالة سابقة مع صحيفة "إسرائيل اليوم" إنّ الخطوة تبدو من أكثر العمليات الإسرائيلية غباءً على الإطلاق، مضيفًا أنها لم تحقق أياً من أهدافها، وأنه بدلاً من الحصول على "هونغ كونغ الشرق الأوسط"، حصلت "إسرائيل" على "دولة إرهاب" تهدد الحدود الجنوبية للكيان، وفق تعبيره.
ولفت الى أنّ رئيس وزراء الاحتلال الأسبق "آرئيل شارون" الذي قرر الذهاب نحو خطة الانفصال، كان بإمكانه الصمود أكثر أمام "إرهاب غزة"، لكنه بدلاً من ذلك قرر التراجع والهرب، مضيفًا "ثمن النوم في العسل يدفعه الجميع حاليًا".
وذكر أنّه بعد شهر فقط من خروج آخر جندي من القطاع تمّ استئناف إطلاق الصواريخ باتجاه مستوطنات "غلاف غزة"، لافتًا إلى أنّ "مستوطني الغلاف" يدفعون الثمن منذ ذلك الحين.
وتحدّث الكاتب عن أن تجاهل "إسرائيل" لغزة مكّن حماس من تحويلها إلى مختبر متفجرات كبير، وإقامة جيش شبه عسكري يشمل أذرعًا برية وبحرية وجوية، ومدينة أنفاق، إضافة الى نظام صاروخي يدار عن بعد دون أن تمسه يد بشر.
واختتم حديثه بالقول إنّ الجميع يعرفون أنّ "غزة ستنفجر فوق رؤوس الإسرائيليين يومًا، وأنّه ومن أجل التخلص من مشكلة صغيرة وقعت إسرائيل في فخ كبير"، مؤكّدًا أنّ أيًّا من أهداف خطة الانسحاب لم تتحقق.
واحتلت "إسرائيل" قطاع غزة عام 1967، وظلت مسؤولة عن إدارته حتى مجيء السلطة الفلسطينية عام 1994، فأسندته للأخيرة، فيما أبقت على قواتها في نقاط عسكرية ومجمّعات ومستوطنات مركزية داخل القطاع، كان يستوطنها أكثر من 8 آلاف إسرائيلي.
المصدر: وكالة الصحافة الفلسطينية
كلمات دلالية: الانسحاب الإسرائيلي من غزة غزة إسرائيل الانسحاب من غزة المقاومة الفلسطينية الانسحاب من فی القطاع قطاع غزة تل أبیب
إقرأ أيضاً:
لماذا أصبح استشراف الغد ضرورة حيوية لكل قائد؟
د. علي بن حمدان بن محمد البلوشي **
في عالم تتسارع فيه التغيرات وتتزايد فيه التحديات، أصبح استشراف المستقبل ضرورة ملحّة لكل قائد يسعى لاتخاذ قرارات رشيدة تحمي منظمته وتضمن لها البقاء في بيئة مليئة بالتحولات؛ فالممارسات التقليدية وردود الأفعال الآنية لم تعد قادرة على مواجهة واقع تتحرك فيه التقنية، والاقتصاد، والمجتمع، والسياسة بوتيرة تفوق قدرة المؤسسات غير المستعدة على التكيف.
ولا شك أن وجود رؤية مستقبلية واضحة يمكّن متخذ القرار من فهم الاتجاهات القادمة، واستيعاب الفرص الكامنة، والاستعداد للمخاطر المحتملة، بما يضمن استمرارية النمو والتطور على مدى السنوات المقبلة.
ويُعد استشراف المستقبل عملية علمية لا تسعى لمعرفة الغيب؛ بل تعتمد على تحليل الاتجاهات ودراسة الأنماط وبناء سيناريوهات متعددة تساعد في توجيه القرارات. ومن دون هذا الوعي تصبح القرارات قصيرة المدى ومبنية على ردود فعل سريعة قد تُعرّض المؤسسات أو الدول لمفاجآت غير محسوبة. أما حين تمتلك المنظمة تصورًا مستقبليًا، فإنها تصبح أكثر قدرة على توقع التحديات وبناء استعداد مبكر للتعامل معها، بل وتحويل ما قد يبدو خطرًا إلى فرصة استراتيجية.
وعند النظر إلى القطاعات الحيوية في سلطنة عُمان، نجد أن الحاجة إلى الاستشراف تختلف باختلاف طبيعة كل قطاع، إلّا أن بعض القطاعات تبرز بوضوح بوصفها الأكثر حاجة إلى رؤية مستقبلية معمقة. اقتصاديًا، يبدو قطاع الطاقة محوريًا، إذ يشهد العالم تحولًا متسارعًا نحو الطاقة المتجددة والحياد الكربوني؛ مما يجعل من الضروري بالنسبة للسلطنة التخطيط لتنويع مصادر الدخل والاستثمار في اقتصاد أخضر يتسق مع مستهدفات رؤية "عُمان 2040". اجتماعيًا، يتصدر قطاع التعليم قائمة القطاعات التي لا تحتمل غياب الاستشراف، نظرًا لدوره في تشكيل مهارات الأجيال القادمة، وفي ظل التحولات السريعة في سوق العمل وظهور مهن جديدة تعتمد على الذكاء الاصطناعي والابتكار والريادة، يصبح تطوير المناهج وبناء قدرات الطلاب أمرًا مصيريًا.
ومن زاوية أخرى، يُمثِّل الأمن الغذائي والمائي أحد أبرز التحديات في ظل التغيرات المناخية والاعتماد الكبير على واردات الغذاء من الخارج، ما يجعل امتلاك رؤية مستقبلية ضرورة لضمان استدامة الموارد الحيوية وتعزيز القدرة الوطنية على مواجهة الأزمات. تقنيًا، يأتي التحول الرقمي في مقدمة القطاعات التي تتطلب استشرافًا عميقًا؛ فالتطور المتسارع في تقنيات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني يفرض على المؤسسات التخطيط المسبق لتطوير بنيتها الرقمية وبناء كفاءات وطنية قادرة على التعامل مع هذا التغيير المستمر. وتنمو أهمية قطاع اللوجستيات والتنقل أيضًا، بوصفه محورًا تنمويًا تسعى السلطنة من خلاله إلى تحقيق مكانة متقدمة كمركز لوجستي عالمي، وهو قطاع يتأثر بشكل مباشر بالتقنيات الحديثة مثل الطائرات الذاتية والموانئ الذكية والمركبات الكهربائية، مما يجعل الاستشراف ركيزة لتعزيز تنافسيته الدولية.
وتتنوع مقاربات الاستشراف تبعًا لطبيعة الموضوع والسياق؛ فهناك المقاربة الاستكشافية التي تنطلق من الحاضر نحو المستقبل اعتمادًا على الاتجاهات الحالية، والمقاربة المعيارية التي تبدأ من مستقبل مرغوب وتبني خارطة الطريق المؤدية إليه؛ والمقاربة التحويلية التي تسعى لإحداث تغيير جذري يعيد تشكيل المستقبل بأكمله. إلّا أن المقاربة الأكثر ملاءمة لزمننا الراهن، بكل ما يحمله من تسارع وتقلب، هي المقاربة التكيفية التي تركز على المرونة وقدرة المؤسسات على تعديل مسارها وفق المستجدات، وهو ما يمثل ضرورة في عالم رقمي سريع التحول.
ومن الأدوات الأكثر انتشارًا وفعالية في هذا المجال منهجية بناء السيناريوهات المستقبلية، التي تهدف إلى رسم صور متعددة لمستقبلات ممكنة، وتساعد القادة على اتخاذ قرارات أكثر وعيًا. تبدأ هذه المنهجية بتحليل القوى المؤثرة، ثم تحديد العوامل غير المؤكدة التي يمكن أن تغير مستقبل القطاع، يلي ذلك بناء سيناريوهات مختلفة وتحليل آثار كل منها. وإذا طُلب تصور مستقبل التعليم خلال السنوات العشر القادمة، فإن العامل الأكثر تأثيرًا بلا شك سيكون التطور التقني، لما له من دور في إعادة تشكيل طرق التعلم ودور المعلم والمهارات المطلوبة لسوق العمل.
ولا يكتمل الاستشراف دون إشراك الخبراء وأصحاب المصلحة؛ فطُرق مثل دلفي، والمقابلات المتعمقة، وورش المستقبل تسهم في الوصول إلى رؤى أكثر دقة، بينما تعزز المنهجيات التشاركية مشاركة الموظفين والمجتمع في صياغة الرؤية، مما يزيد من مستوى الالتزام ويسهم في خلق شعور بالمسؤولية تجاه المستقبل المراد تحقيقه. فالموظف الذي يشارك في تصميم مستقبل منظمته يكون أكثر قدرة على فهم القرارات وأكثر حرصًا على تنفيذها.
ولأن الاستشراف لم يعد نشاطًا بحثيًا معزولًا؛ بل أصبح سياسة وطنية، فقد بات ضروريًا أن تبني الدول رؤى طويلة المدى توجه خطط التنمية لعقود. فالرؤية الوطنية توفر إطارًا مستقرًا لاتخاذ القرارات، وتساعد على توقع التحديات، وضمان استدامة التنمية، وجذب الاستثمارات، وتنسيق الجهود بين القطاعات. وهي أيضًا وسيلة لحفظ التوازن بين احتياجات الحاضر ومتطلبات المستقبل، بما يضمن نموًا متواصلًا لا يتأثر بتغير الظروف.
إنَّ استشراف المستقبل مهارة قيادية محورية، والمستقبل لا يُنتظر؛ بل يُصنع عبر الوعي والتحليل والاستعداد المبكر، كما إن امتلاك القدرة على التفكير المستقبلي لم يعد رفاهية أكاديمية، وإنما ضرورة مهنية لبناء قرارات بعيدة المدى ورؤية تتجاوز حدود اللحظة؛ فالمستقبل مساحة للخيال العلمي المنهجي، ومسؤولية تقع على عاتق كل قائد يسعى لصناعة واقع أفضل يبدأ اليوم قبل أن يصل الغد.
** مستشار أكاديمي