لجريدة عمان:
2025-10-13@05:23:12 GMT

كيف فقد العالم ثقته في العلماء؟

تاريخ النشر: 1st, October 2023 GMT

ترجمة: بدر بن خميس الظّفري -

في العام الماضي، مع تضاؤل عدد الإيطاليين الذين حصلوا على جرعة معززة رابعة من لقاح كوفيد، وكوني من العلماء، طلبت مني وزارة الصحة في البلاد، الظهور في إعلان تلفزيوني مدته 50 ثانية، لأشرح لماذا يجب أن يحصل الأشخاص الأكثر عرضة للمرض على جرعة أخرى. بُثّ الإعلان مئات المرات على شاشة التلفزيون، وبعدها تلقيت العديد من رسائل البريد الإلكتروني تشن هجوما عليّ، واتّهِمْتُ على منصتي إكس وفيسبوك بأنني شخص يعمل لصالح شركات الأدوية الكبرى.

في ذروة الوباء في أكتوبر 2020، مررت بتجربة مماثلة، فقد كنت آنذاك رئيسًا لأكاديمية (دي لينسي)، الأكاديمية العلمية الأكثر أهمية في إيطاليا، وكانت موجة كوفيد الثانية القاتلة من كوفيد قد بدأت تجتاح البلد، فكتبت مقالا طويلا، سلّطت فيه الضوء على الوضع الوبائي بالتفصيل، وأكدت أنه إما أن نتخذ تدابير جذرية على الفور، أو نتوقع وفاة 500 حالة يوميا بحلول منتصف نوفمبر، ولسوء الحظ كان تنبؤي دقيقا. مباشرة بعد نشر المقال، تلقيت رسائل بريد إلكتروني تخبرني بأشد العبارات أنه من الأفضل ألا أتدخل في شؤون الآخرين.

جعلتني هذه الأحداث ألاحظ ظاهرة أصبحت مألوفة لدي بشكل متكرر، وهي اهتزاز الثقة في العلم. ويبدو الأمر متناقضًا إلى حد ما، فمع اعتماد مجتمعاتنا بشكل متزايد على التكنولوجيا المتقدمة القائمة على الاكتشافات العلمية، أصبح الناس أكثر تشكيكًا في العلماء.

كيف يمكننا أن نفهم هذا؟ هناك عوامل كثيرة قد تخطر على البال، فقد دأبت على التفكير في تضاؤل أهمية الكلمة المطبوعة على مدى العقود الماضية لصالح الوسائط المرئية القصيرة، بداية من التلفزيون، وليس انتهاء بتطبيق التيك توك. إنّ المناظرات المتلفزة تتطلب رد فعل سريعا، في حين أن العلماء معتادون على دراسة القضايا بشكل مطول ولا يحكمون فيها إلا بعد تفكير عميق. بالإضافة إلى ذلك، لا يقتصر المحتوى المرئي الناجح على كونه صحيحًا فحسب، بل يتعلق أيضًا بإثارة تعاطف المشاهد عن طريق الأشخاص الذيم يقدمون هذا المحتوى، وهذا لا يتأتى بسهولة للعلماء.

قد يكون للصعوبات الحالية جذور أعمق، فنحن ندخل فترة من التشاؤم بشأن المستقبل ترجع أسبابها إلى الأزمات بمختلف أنواعها: الاقتصادية، والمناخية، واستنزاف الموارد، إِذْ تشهدُ العديدُ من البلدان تزايدا في حالات انعدام العدالة، وانحسارا في معدل الأمان الوظيفي، وزيادة البطالة، ونشوب الحروب المباشرة.

وفي حين كان يعتقد ذات يوم أن المستقبل سيكون بالضرورة أفضل من الحاضر، فإن الإيمان بالتقدم والتطور قد تلاشى بالرغم من وجود ثروات طائلة ومتنوعة يتمتع بها البشر، ولذلك يخشى كثيرون، ولسبب وجيه، أن يكون حال الأجيال المقبلة أسوأ من الأجيال الحالية. إن العلم الذي اعتاد أن يعزى إليه الفضل في التقدم الحضاري، يتلقى اليوم اللوم عن التقهقر الحاصل، وسواء كان هذا التقهقر حقيقيا أو مجرد تصور، فهذا لا يهم. أحيانا، ينظر إلى العلم أنه مُعَلِّمٌ سيئ أرشدنا إلى الاتجاه الخاطئ، وتغيير هذا المنظور ليس بالأمر السهل.

باختصار، ينظر إلى العلماء أنهم جزء من طبقة النخبة، وبالتالي هم ليسوا جديرين بالثقة، ذلك أن الاهتمام المتزايد من جانب مجموعة صغيرة من العلماء بتسجيل براءات الاختراع وتحقيق مكاسب مالية فردية من خلال اكتشافاتهم يعزز من فكرة التماهي مع طبقة النخبة، ومع هذا، فإن الروابط الممتدة بين العلم والصناعة أو حالات من الاحتيال العلمي لا تغير حقيقة أساسية مفادها أن العلم يقدم تنبؤات صحيحة تصبح ذات مصداقية، بعد التدرج في تكوين الإجماع العلمي. إن تكوين الإجماع هو العملية التي تُحدث فرقا حقيقيا، لأنها تشمل المجتمع العلمي بأكمله وهذه عملية لا يمكن التلاعب بها.

وللأسف، فإنَّ انعدام الثقة هذا قد يخلف تأثيرات كارثية، فإذا لم يثق المواطنون في العلم، فلن نتمكن من مكافحة الاحتباس الحراري العالمي، والأمراض المعدية، والفقر والجوع، واستنزاف الموارد الطبيعية لكوكب الأرض.

ولكن كيف يمكن استعادة الثقة وتعزيزها؟ إن الأمر يتطلب تنسيقا كبيرا للجهود، وذلك لن يكون ممكنا إلا إذا كان هناك فهم كامل للطبيعة الكارثية للمشكلة، ومن هنا يجب استخدام جزء من الموارد البشرية والمالية المخصصة لتطوير العلوم لإجراء حوار مع المواطنين حول حقيقة العلم من خلال برامج التعليم ووسائل الإعلام وحملات التوعية، وإقناعهم بأنه الأداة الأكثر موثوقية ومصداقية لفهم العالم والتنبؤ بالمستقبل.

ومن المهم أيضًا ألا نتحدث، نحن العلماء، عن نجاحاتنا فحسب، بل عن أخطائنا وشكوكنا وهواجسنا، ففي معظم الخطابات العلمية العامة، لا يوجد أي ذكر للمشقة وحالات التردد والمشاعر التي تصاحب عمليّة البحث العلمي.

إذا كانت نظرة الناس إلى العلماء أنهم ليسوا إلا جزءا من طبقة النخبة العليا، فإن الخطوة الأولى لاستعادة الثقة قد تكون جرعة من التواضع، لإظهار أننا بشر لا نختلف عن أولئك الذين لا يثقون بنا.

جورجيو باريسي عالم فيزياء نظرية ومؤلف كتاب (رحلة طائر الزرزور: أعجوبة الأنظمة المعقدة). وفاز مع كلاوس هاسيلمان وسيوكورو مانابي بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 2021.

عن الجارديان البريطانية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی العلم

إقرأ أيضاً:

يوسف البناي: العلم ليس عزاءً بل وعيٌ بموقع الإنسان في التاريخ الكوني

حوار ـ فيصل بن سعيد العلوي 

في هذا الحوار.. يفتح الدكتور يوسف البناي (الباحث والكاتب الكويتي المعروف في مجال الفيزياء وتبسيط العلوم)، نوافذ واسعة على مشروعه الفكري الممتد بين التأليف والترجمة والتبسيط العلمي، متتبعًا أثر النظريات الكبرى من ميكانيكا الكم إلى النسبية، ومتأملا في المعنى الكوني للحياة... ويعرف يوسف البنّاي وهو فيزيائي نظريّ متخصص في علم الكونيات من جامعة لايبزيج في ألمانيا، بقدرته على تبسيط نظريات الفيزياء المعقدة، وله عدة مؤلفات تحتوي على شرح مبسّط لنظريات الفيزياء، مثل النظرية النسبية لأينشتاين، ونظرية ميكانيكا الكم والانفجار الكبير، وقد شارك مؤخرا في جلسة حوارية بالنادي الثقافي بعنوان «هل حقًّا بدأ الكون بالانفجار العظيم؟» .. ومن خلال إجاباته يكشف «البناي» كيف انتقل من قارئ ومترجم إلى صاحب أطروحة، وكيف يرى أن العلم ليس مجرد معادلات صارمة بل مدخل للدهشة والتواضع المعرفي... وبينما يشرح بدقة علمية صلبة وحدة القوانين بين السماء والأرض، يضع أيضا خريطة طريق تجعل العلم مكونا ثقافيا حيا في عالمنا العربي.

***********************************************************************************************

بدأ شغفك بالعلم من بوابة الترجمة ثم تبلور في التأليف والتبسيط العلمي، ما اللحظة المفصلية التي حسمت انتقالك من الناقل الأمين إلى الكاتب صاحب الأطروحة؟ وكيف غيّرت هذه النقلة علاقتك بالعلم والجمهور؟

في الحقيقة لم أبدأ بالترجمة كما قد يظن البعض، بل بدأت بالتأليف، وأول كتاب أصدرته كان بعنوان «ميكانيكا الكم بين الفلسفة والعلم» وذلك في سنة 2009 عندما كنت طالبا في سنتي الأخيرة في الجامعة، كان كتابا مؤلفا بالكامل لا مترجما، والدافع وراءه أنني شعرت بوجود فجوة كبيرة في المكتبة العربية، فمنذ صغري وأنا متأثر بالنسبية وبالكم وبالديناميكا الحرارية، لكنني لم أكن أجد كتابات عربية مبسطة في هذه المجالات، وإن وجدت فهي قليلة جدا وغالبها ترجمات، أما التأليف المبسط الموجه للقارئ العام فكان شبه معدوم، وإذا وجد فكان عادة موجها للمختصين وهم قلة قليلة من الناس، لذلك فكرت أن أكتب كتابا مبسطا لكنه مفهوم، وهكذا بدأت مع «ميكانيكا الكم بين الفلسفة والعلم»، ثم ألفت بعده كتابا عن «النظرية النسبية الخاصة»، وبعدها عن «النظرية النسبية العامة»، ثم انتقلت إلى الترجمة فعملت على كتاب لستيفن هوكينج، وبعده ترجمت كتابا لريتشارد فاينمان، ثم عدت مجددا إلى هوكينج، ومع كثرة الكتابة والقراءة والترجمة تبدأ بطبيعة الحال بالتشكل لديك آراء شخصية، وهذه طبيعة المعرفة عند أي إنسان، فالمرء يقرأ أولا ومع مرور الوقت يتأثر عقله بما يقرأ ثم يطرح أطروحاته الخاصة، وهذا ما حدث معي، فبعد أن شعرت أنني أصبحت محيطا بالأسس والمبادئ صرت قادرا على صياغة رؤيتي الخاصة وطرح آرائي العلمية.

***********************************************************************************************

في كتابك الأحدث «في الأرض كما في السماء» تطرح وحدة القوانين بين السماء والأرض كمعجزة الوجود، فما الإطار الفلسفي الذي تستند إليه هذه الأطروحة؟

كتاب «في الأرض كما في السماء» لا يقوم على أداة براجماتية ولا على رأي شخصي، بل يستند إلى قوانين فيزيائية صارمة لا علاقة لها بأي نزعة فردية، تاريخ الكون محدد بدقة بواسطة علم الفيزياء من خلال نظرية الانفجار العظيم وغيرها من الأدلة التي تبين أن الكون وُلد في لحظة معينة، وأن له عمرا يمكن قياسه والتعامل معه، كذلك عمر الأرض هو أيضا محدد فيزيائيا عبر دراسة الصخور باستخدام طرق التأريخ بالذرات المشعة، مثل التأريخ باليورانيوم أو بالكربون.

هذه الطرق تشبه ما يمكن أن نسميه ساعات رملية طبيعية بدأت بالعمل منذ لحظة تكوّن الأرض، فعندما نقول إن عمر الأرض 4.5 مليار سنة فإننا لا نقول ذلك جزافا، بل لأن ذرات مثل اليورانيوم تعمل كساعات دقيقة، هناك في الفيزياء النووية مفهوم يسمى عمر النصف، فإذا كان لدينا وعاء يحتوي على مائة ذرة من اليورانيوم، فإنها بعد فترة زمنية محددة، قد تكون آلاف أو ملايين السنين، تفقد نصفها وتبقى خمسون ذرة فقط، وهكذا تتكرر العملية، نفس المبدأ ينطبق على الكربون وعلى عناصر أخرى مثل البلوتونيوم، وكل عنصر له فترة نصف عمر مختلفة، بعضها يمتد إلى ملايين أو مليارات السنين، ومن خلال هذه القياسات الدقيقة عرفنا عمر الأرض.

أما الكائنات الحية فيتم تحديد أعمارها أيضا من خلال الصخور التي دُفنت فيها باستخدام نفس أساليب التأريخ الإشعاعي، وهناك طبعا طرق أخرى يستخدمها علماء الجيولوجيا والبيولوجيا لدراسة تاريخ الحياة على الأرض، كذلك طبقات الأرض حُدد عمرها عبر علم الجيولوجيا بوسائل دقيقة، فإذا جمعنا هذه المعطيات سواء عن الكون أو عن الأرض أو عن الكائنات الحية، نجد أن كلها أدلة موثقة علميا من الفيزياء والجيولوجيا والبيولوجيا والكيمياء، ولا يوجد أي تعارض فيما بينها، فلا نجد شيئا في الكيمياء يناقض الفيزياء، ولا في الجيولوجيا ما يخالف علم الأحياء، وهذا الانسجام الكبير يدل على أن هناك وحدة متأصلة في الكون، في عمره، في عمر الأرض، وفي تاريخ الكائنات الحية.

***********************************************************************************************

في سياق الكتاب نفسه ينتقل الخطاب من الطرح العلمي الصارم إلى البعد التأملي، فكيف تتصور علاقة الدهشة العلمية بالتواضع المعرفي؟ وهل ترى للدهشة وظيفة تولد أسئلة أفضل أم أخلاقية تربي حس المسؤولية تجاه الحياة والكوكب؟  

أنا دائما أقول إن العلم لديه ما يقوله حول الواقع، هناك من يرى أن العلم لا يعطي معنى للحياة وأنه جاف ولا يقدم العزاء للوجود البشري، لكنني أخالف هذه النقطة تماما، فمن يفهم الكون ويفهم الأزمنة التي تحدثنا عنها قبل قليل مثل الزمن الجيولوجي والبيولوجي سيتغير حتما، هناك فرق كبير بين أن تعرف المعلومة وبين أن تدركها إدراكا عميقا، وهذا الإدراك يجعلك مباشرة متواضعا أمام هذه العظمة الكونية، وشعور التواضع هذا شعور جميل جدا، يجعلك ترى نفسك جزءا من تاريخ هائل، تاريخ كوني وتاريخ جيولوجي وتاريخ بيولوجي، فأنا دائما أقول إن في داخل كل واحد منا صخورا عمرها مليارات السنين، وكل الكائنات الحية لها سلف مشترك، وبالتالي فأنت مرتبط بكل كائن حي تراه من حولك بطريقة أو بأخرى، بل إنك مندمج أيضا مع الانفجار العظيم ومع الكون بأكمله، وهذا ما تعبر عنه المقولة الشهيرة أنت الكون يتأمل نفسه، فالكون تحول إلى وعي، وهذا الوعي هو أنت أيضا، وكل إنسان محظوظ طالما أنه موجود، لأن الإنسان في النهاية مجرد ترتيب محدد لشريط الدي إن إيه، وأي تغير في أي حرف منه كان سيخلق شخصا آخر، ومن خلال ما رأيناه في الأسئلة السابقة ندرك أن الانقراض هو القاعدة والبقاء استثناء، وأنت الآن ضمن هذا الاستثناء، تتنفس وتشاهد النجوم وتأكل وتشاهد الناس، وهذا في حد ذاته امتياز كبير، لكن من الصعب جدا أن يدرك الإنسان هذه الحقيقة ما لم يدرس هذه العلوم ويتأملها بعمق، ولهذا السبب أحاول دائما أن أنقل جمال هذا الشعور للآخرين.

***********************************************************************************************

تتحدث عن ثلاثة مقاييس زمنية مزلزلة (الكوني، والجيولوجي، والبيولوجي) ... كيف تعيد صياغة الزمن الإنساني في ضوء هذا التفاوت، وما الذي ينهار معرفيا حين ننقل أسئلة المعنى من مقاسنا اليومي إلى مقاس المجرات؟

الزمن الكوني والزمن الجيولوجي والزمن البيولوجي مهول جدا، وهذا في رأيي السبب الذي يجعل كثيرا من الناس، وربما بشكل أكبر في ثقافتنا العربية، يرفضون فكرة أن للأرض هذا العمر الهائل أو أن الحياة بدأت قبل 3.7 مليار سنة، هذه الأرقام تسبق وجود الإنسان بفترة طويلة جدا، فالإنسان بحسب نظرية التطور لم يظهر إلا قبل ما بين 200 إلى 250 ألف سنة، هذا الإنسان الذي ينتمي إلى نوعنا الحالي المسمى «الهومو سابيانس» أي الإنسان العاقل، لكن كانت هناك أنواع بشرية أخرى غيرنا انقرضت مثل النياندرتال، والإنسان العامل، والإنسان الماهر، وإنسان رودلف، والعديد من هذه الأسماء التي تنتمي إلى عائلة «الهومو»، كلهم انقرضوا وبقينا نحن الجنس الوحيد الذي لم ينقرض بعد، لكننا أيضا آخر من ظهر على الأرض، وعندما نتأمل هذه الأرقام ندرك الفجوة الهائلة، فالأرض عمرها 4.5 مليار سنة، وهناك كائنات مثل الديناصورات انقرضت منذ 65 مليون سنة، وهذه أرقام مخيفة وصادمة بالنسبة للعقل البشري، يصعب علينا تحملها أو استيعابها، فالإنسان بطبيعته لم يتطور لكي يفهم الكون بهذه الأزمنة المهولة، بل تطور لكي يعيش، ليحمي نفسه، ليأكل ويشرب ويتكاثر، وليس لكي يستوعب هذه المقاييس الزمنية المرعبة، فالعلم لم يبدأ بطرح هذه الأزمان الضخمة إلا خلال الأربعمائة سنة الأخيرة مع الثورة العلمية، حين بدأ الإنسان ينزع العاطفة من نظرته للطبيعة ويحتكم إلى العقل بشكل صارم، في الغالب الإنسان ينظر إلى الكون وكأنه مصمم لأجله، فيربط الظواهر بعاطفته، وهذا يقوده إلى أجوبة خاطئة، بينما عندما نجرد أنفسنا من العاطفة وننظر إلى العالم كما هو، نصل إلى الفهم العلمي الصحيح، كما قال الفيلسوف المصري فؤاد زكريا إن العلم يبدأ عندما ينظر الإنسان إلى العالم كما هو لا كما يتمنى أن يكون، وهنا تكمن الصعوبة التي نواجهها اليوم، فالناس يجدون صعوبة في تصديق هذه الأزمان، فعندما تقول مليون أو مليار، قد يهز الشخص رأسه موافقا، لكنه في الحقيقة لا يدرك حجم الرقم أو معناه، ولهذا السبب أحرص دائما على تقديم شروحات ومقالات مستمرة، على أمل أن يتمكن الشباب والباحثون من إدراك عمق هذه الهوة الزمنية، وأن يدركوا أن عمر الأرض والكون ليس مجرد رقم يُحفظ، بل تاريخ قديم جدا جدا، ينبغي أن نستوعب معناه ونتأمله بعمق.

***********************************************************************************************

بين الرياضيات الصارمة والحكاية الجاذبة مساحة دقيقة، ما منهجك في صياغة الاستعارة العلمية بحيث تضيء المفهوم ولا تشوهه؟ وهل لديك مقياس تشويه داخلي يحدد متى تتراجع عن تبسيط مخل؟

أنا دائما أقول: إن تبسيط العلوم ليس أمرا سهلا، بل قد يكون في بعض الأحيان أصعب من البحث العلمي نفسه، لأنك تخاطب الجمهور العام، وهذا الجمهور بطبيعته لا يعرف الرياضيات ولا يفكر بالمنهجية العلمية، لذلك فإن تبسيط العلوم يتطلب أولا أن يكون المبسط شخصا متخصصا في مجاله، يعرفه ويدرك تفاصيله، فمثلا عالم الأحياء هو الأقدر على تبسيط الأحياء، وعالم الجيولوجيا يبسط الجيولوجيا، وعالم الكيمياء يبسط الكيمياء، وكذلك عالم الفيزياء يبسط الفيزياء، لكن التبسيط ليس مجرد معرفة بالمجال، بل يحتاج أيضا إلى موهبة خاصة، هي مزيج من الأدب والعلم وفهم الآخر.

أنا شخصيا أضع نفسي دائما مكان الناس، كأنني لا أعرف شيئا، وأسأل نفسي كيف سأفهم قضية مثل الانفجار العظيم أو تمدد الكون إذا لم أكن أملك خلفية علمية، عندها ألجأ إلى الأسلوب القصصي أو إلى الاستعارة التي تقرب الفكرة، هذا الأسلوب يجذب الناس إلى العلوم، لكنه في الوقت نفسه يحتاج إلى وعي كبير، فلا بد من الحفاظ على الخط الفاصل حتى لا يتحول التبسيط إلى إخلال بالمعنى، فهناك من يبسط لدرجة مفرطة تجعل الموضوع تافها وفاقدا لجوهره، وهذا لم يعد علما، و أستحضر هنا مقولة شهيرة لآينشتاين: اجعلها بسيطة ولكن لا تجعلها أبسط مما يجب، فالمطلوب أن يكون النص مفهوما، لكن دون أن نفرط في جوهر الفكرة العلمية، وهذه معادلة صعبة وتحد مستمر، بين أن تفهم وتتعمق ثم تقدم للناس الفكرة في صورة مبسطة لكنها لا تزال صحيحة، كثير من العلماء الأكاديميين لا يملكون الصبر أو الرغبة في نقل هذه المفاهيم للجمهور، لأن الفجوة بين البحث العلمي والجمهور العادي واسعة، لكن هناك قلة من الناس لديهم هذا الصبر، فيستطيعون أن يقدموا هذه الأمور بلغة مبسطة، وأنا أرى أن هذا يمنح شعورا جميلا، لأنك عندما تنقل للآخرين جمال الشعور الكوني وتترجمه إلى نص مبسط، فإنك تعطيهم فرصة للاقتراب من الدهشة والمعرفة العلمية.

***********************************************************************************************

اشتغالك على ميكانيكا الكم والنسبية وضعك في قلب أسئلة فلسفة العلم: الاحتمال والحتمية، السببية والمحلية، الواقعية والتكميم.. أين تتموضع اليوم إزاء هذه الثنائيات؟ وأي سؤال فلسفي تراه الأكثر إلحاحا على الفيزياء المعاصرة؟

ميكانيكا الكم منذ أن وضعت في عشرينيات القرن العشرين وحتى اليوم أي بعد مرور أكثر من مئة سنة ما زالت تثير جدلا من وقت لآخر، المشكلة الجوهرية فيها ليست في المعادلات فالنظرية لديها معادلات واضحة جدا وتطبيقات عملية هائلة، كل الإلكترونيات والأجهزة الكهربائية والإلكترونية وموجات التكنولوجيا الحديثة وصولا إلى الحواسيب كلها قائمة على ميكانيكا الكم ولولاها لعشنا في عالم متأخر بقرن كامل، لكن الإشكال الكبير يكمن في التفسير، فميكانيكا الكم تقول مثلا: إن الإلكترون يمكن أن يوجد في مكانين مختلفين في الوقت نفسه، وتقول أيضا إن الإلكترون ليس شيئا حقيقيا قبل أن نقوم بعملية قياس له، وتخبرنا بوجود ظواهر مثل التشابك الكمي حيث يمكن لجسمين أن يتشابكا رغم أن كل واحد منهما يوجد في زاوية مختلفة من الكون.

هذه الأسئلة تقع في المنطقة الفاصلة بين العلم والفلسفة وتنتمي إلى ما يسمى فلسفة العلم، والسؤال هو هل ميكانيكا الكم وجهت ضربة لمفاهيم مثل المنطقية البشرية أو السببية أو الحتمية التي آمن بها الفلاسفة والقدماء، البعض يجادل بأن هذا صحيح وربما تكون السببية والحتمية كما فهمها القدماء غير دقيقة وهناك من يعيد طرح هذه النقاط باستمرار، لكن في المقابل هناك فئة أخرى تتبع قاعدة فاينمان الشهيرة اصمت واحسب، بمعنى لا تنشغل بالتفسير كثيرا فالمهم أن المعادلات تعمل وأن النظرية تعطي نتائج دقيقة يمكن الاعتماد عليها، هذا المنهج البراغماتي يرى أن التفسير ليس مهما طالما أن التطبيقات العملية للنظرية موجودة وتعمل بكفاءة، أما أنا فأعتقد أن الأسئلة المتعلقة بميكانيكا الكم أسئلة جميلة وإعادة النظر فيها أيضا أمر جميل لكنها في الوقت الحالي ليست بتلك الأهمية العلمية المباشرة، ربما تكون أهميتها فلسفية لأنها تدفعنا إلى التفكير في طبيعة المعرفة البشرية وحدودها وفي نظرية المعرفة بشكل عام لكنها لا تضيف الكثير على مستوى التطورات العلمية التطبيقية، ولذلك أضعها في خانة النقاشات الفلسفية التي تثري الفكر أكثر مما تضيف إلى المختبرات.

***********************************************************************************************

ما معايير الانتقاء التي تجعل نصا بعينه جديرا بأن يطعّم الذائقة العربية؟ مثالا (مشروعك الترجمي والاختياري لنصوص آينشتاين وهوكينج وغيرهما)، وكيف تتعامل مع مأزق المصطلح؟

معايير الانتقاء بالنسبة لي تبدأ من النص نفسه، أسأل أولا هل هذا النص يستحق أن يترجم إلى العربية؟ وهل يقدم إضافة للقارئ العام أو يساهم في تبسيط العلوم؟ ثم يأتي اسم المؤلف كعامل مهم، فمثلا ستيفن هوكينج نجم عالمي ومعروف جدا، مجرد أن يرى القارئ اسمه على الغلاف أو يسمع صوته يجذبه ذلك إلى الكتاب، وهذا معيار أساسي لأننا في النهاية نريد أن نوصل العلوم إلى الناس بأوسع نطاق ممكن.

وهناك أيضا شخصيات أعتبرها ضرورية مثل ألبرت آينشتاين، ليس فقط لأنه عالم فيزياء بل لأنه كتب أيضا مقالات مهمة في الفلسفة والسياسة والدين، آينشتاين لم يكن مجرد عالم بل كان فيلسوفا أيضا، لذلك اعتبرت أن من الضروري أن تكون نصوصه متاحة باللغة العربية، لكن هنا نواجه مأزق الترجمة، فمقالات آينشتاين مثلا لم تجمع في كتاب واحد من تأليفه، بل جُمعت لاحقا وترجمت من الألمانية إلى الإنجليزية، ثم عندما وصلت إليها لأترجمها إلى العربية صارت نقلة ثالثة، وكل نقلة من لغة إلى لغة تفقد النص بعضا من معناه، وهنا يأتي دور المترجم في إعادة البناء، فعندما أجد جملة بالإنجليزية إذا ترجمتها كما هي إلى العربية ستصبح جافة أو بلا معنى، ألغيها وأعيد صياغتها بجملة أخرى تجعل المعنى أوضح مع الحفاظ على روح النص الأصلي، لست أؤلف من عندي لكنني أحاول أن أنقل للقارئ العربي ما كان المؤلف يريد قوله فعلا، وهذه النقطة في غاية الأهمية لأن الهدف أن يفهم القارئ العربي الفكرة كما قصدها صاحبها حتى لو اضطررت لتعديل الأسلوب، أحاول قدر الإمكان أن أقلل من الإخلال لكن بعض التدخل ضروري، وهذا ما جعل بعض ترجماتي تصل للناس بشكل أوسع، مثال ذلك ترجمتي لكتاب «نظرية كل شيء: أصل ومصير الكون» لستيفن هوكينج، هذه الترجمة لاقت استحسانا واسعا جدا في العالم العربي وكانت من أكثر الكتب العلمية مبيعا وبفضلها حصلت على جائزة الكويت التشجيعية في مجال الترجمة العلمية.  

***********************************************************************************************

من خلال تجربتك ورؤيتك للواقع العربي ...ما الخطوات العملية التي تراها ضرورية لتحويل العلم إلى مكون ثقافي حي كما تدعو دائما؟ وهل البداية تكون من إصلاح المناهج الدراسية أم من تفعيل الإعلام العلمي؟

عندما نتحدث عن إصلاح التعليم أو نشر العلم بشكل حقيقي فإن الأمر يرتبط بالمسؤولية العامة وهي بالدرجة الأولى مسؤولية الدولة، وأول خطوة يجب أن تبدأ بها هي إصلاح المناهج فلا بد من إعادة النظر فيها لتواكب الاكتشافات الحديثة، فلا يعقل أن نستمر في تدريس أشياء قديمة جدا عفا عليها الزمن بينما العالم يتغير بسرعة، يجب أن تدخل الأدوات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي والصور التفاعلية والرسوم المتحركة لأن تحريك عقل الطالب وتحفيزه بهذه الوسائل أمر مهم جدا، والمؤسسات العلمية أيضا تتحمل مسؤولية كبيرة سواء كانت جامعة الدولة أو معهد الأبحاث أو أي مؤسسة رسمية، هذه المؤسسات تملك ميزانيات ضخمة بملايين الدولارات ومع ذلك نجد إعلامها ضعيفا وميتا في حين أن المفترض أن يكون لها حضور قوي يشرح للناس ما الذي يجري في مختبراتها وما هي نتائج أبحاثها لا أن تكتفي بأخبار بروتوكولية من نوع التقاء وزير أو توقيع عقد مع وكالة ما، مثل هذه الأخبار لا تعني الجمهور، المطلوب أن تشرح للناس مثلا أن بحثا جديدا أنجز وتبسطه لهم أو أن تنتج مادة مرئية مثل أنيميشن أو كرتون يوضح هذا البحث، هذا هو النوع من الجهد الإعلامي الذي يخلق ثقافة علمية حقيقية.

وإلى جانب ذلك هناك صناع محتوى على منصات مثل يوتيوب وتيك توك بعضهم لديهم جماهيرية كبيرة ويقدمون محتوى علميا مبسطا يجذب الشباب، من الحكمة أن نستفيد من هؤلاء وندعمهم ونوفر لهم المصادر الموثوقة لأن تأثيرهم على الناس أكبر مما تفعله المؤسسات الرسمية، وبالتالي إذا أردنا خارطة طريق عملية لخمس سنوات فهي يجب أن تقوم على ثلاثة محاور: إصلاح المناهج لتواكب العصر، تقوية الإعلام العلمي داخل المؤسسات، ودعم المبسطين وصناع المحتوى، هذه اللبنات إذا وضعت في مكانها يمكن أن تغير المشهد بشكل فعلي. 

أخيرا ...إذا طُلب منك أن تختزل مشروعك المقبل في سؤال بحث شخصي واحد، فماذا سيكون؟

إذا كان هناك سؤال فسوف يكون كيف أتى الكون؟ وهذا هو الموضوع الذي أعمل عليه الآن، وسأطرح كتابا فيه قريبا.  

مقالات مشابهة

  • فكره الوسطي محل تقدير العلماء والمفكرين.. عبد الله نصيف.. مسيرة حافلة بالعطاء العلمي والأكاديمي وخدمة الوطن
  • يوسف البناي: العلم ليس عزاءً بل وعيٌ بموقع الإنسان في التاريخ الكوني
  • ¾ الأردنيين يرحبون بتركيب سارية العلم أمام المنازل والمباني
  • كلوب يجدد الثقة في «المانشافت»
  • كلوب: واثق في ناجلسمان والمنتخب الألماني سيعود بقوة في كأس العالم
  • رئيس المصريين الأحرار يشكر الرئيس السيسي على ثقته بتعيينه بمجلس الشيوخ
  • الإنسان: مخيَّر أم مسيَّر؟ (2 – 2)
  • دوري النخبة لكرة اليد.. 5 فرق تحقق الفوز بأكثر من محافظة
  • ليتك لم تفعل يا بروفيسور ياغي!
  • 5 مواجهات في انطلاق الدور الثاني من منافسات دوري النخبة لكرة اليد