رحلت من بيت لبيت في الخرطوم بأواخر السبعينات، وكانت هذه العبارة مكتوبه علي الباب الخلفي للوري الذي حمل عفيشنا. وتذكرتها اليوم وانا أغادر القاهرة إلي دبي حيث إبنتي (بتشديد الياء) عبير وزينب؛ تذكرتها وأنا علي متن Air Arabia بعد خمسة شهور متوترة في القاهرة، مليئة بالحزن والفجيعة والقلب المجروح علي ما حاق بالوطن، ليس لهجرانه مجبرا، وليس لأني فقدت العفيش والشقة والسيارة، ولكن لأن مصر نفسها أضحت من الملل والضحالة والسطحية والمساخة بمكان، وليس كالمرات الماضية التي كنت استمتع خلالها بقاهرة المعز وبمشهدها الثقافي والسياسي والفني الملهم منذ الستينات، تحت ظلال الروح الناصرية التقدمية.
أم لعلي قد تلبست الحالة التي قال عنها إيليا أبو ماضي: (والذي نفسه بغير جمال… لا يري في الوجود شيئا جميلا !). وأين الوجدان المفعم بالجمال والشعر وسط الأنباء المروعة المتواترة كل دقيقة من السودان علي جناح القنوات والإنترنت؟ لعن الله من كان السبب، ومن لازال يبطش بشعبنا بلا هوادة كضربات المطرقة المتلاحقة علي يافوخ الوتد. ورغم أني الآن في أيد حانية حبيبة، وسنرحل عما قريب لفيلا ابنتي زينب التي فاجأتنا بها بعد عشر سنوات عمل بملتي ناشونال في داون تاون دبي، فإن الغصة لم تفارق حلقي، بينما جافا النوم أجفاني، بسبب بلادي الجريحة. ولقد تناسانا العالم منذ اندلاع أزمة غزة، كأن شيئا لم يكن، إذ يبدو أننا لسنا من الأهمية بمكان لدي القنوات إياها الباحثة عن الإثارة، والتي كانت لا تغيب كامراتها عن الخرطوم لحظة واحدة طوال السبعة شهور المنصرمة. ولقد ضاعت مأساتنا بين أرجل إخوتنا العرب الذين يبدو أنهم ينظرون إلينا كنظرتنا لإبن السرية، وبين أرجل الغربيين الذين تناسونا كما تناسوا الصومال من قبل، علنا نصبح عما قريب Nonnationً بلغة جورج أورويل، ليسهل الحصول علي مواردنا القابلة للنهب من قبل ومن بعد، وربما الاستفادة كذلك من أيدينا العاملة كنوع من الرق الخديث المسخر لخدمة الآلة الرأسمالية الأوروببة والعربية المتشبهة بها.
رغم ذلك، فلا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون، ونحن أهل نخوة وإباء وشموخ، وسوف ننهض من الركام بشكل سوف يدهش القريب والبعيد، وسوف ندحر الجنجويد القادمين من دول جنوب الصحراء الكبري، وسوف نسعي في مناكب التحول الديمقراطي والتقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي والاجتماعي، وسوف نلملم شعثنا ونوحد أمرنا، كما فعل أسلافنا عام ١٩٣٨ عندما التفت جميع ألوان طيوفهم حول مؤتمر الخريجين؛ وكما فعلت كل قواه السياسية عندما أعلنت الاستقلال من داخل البرلمان رغم أنف البرحوازية الخديوية الممولة (التي لا زالت تردد الفرية: "السودان ومصر كانوا دولة واحدة")، ورغم أنف الاستعمار البريطاني الذي كان يأمل في تدرج أطول نحو استقلال مشبوه مستقبلي؛ وكما توحدت الحركة السياسية فأطاحت بدكتاتورية عبود ، ثم دكتاتورية نميري (صديق السادات)، ثم دكتاتورية الإخوان المسلمين التي جسدها نظام البشير البرغوثي اللصوصي الفاسد.
ولئن أصبحت القوي السياسية متشظية اليوم فإن الخيط الذي بجمعها في نهاية الأمر هو ثورة ديسمبر العظيمة، والتي لا يستطيع كائن من كان أن يسقطها من حسابه أو أن يلتف حولها، ويقلب لها ظهر المجن. فلا بد من تحقيق شعاراتها، وعلي رأسها (الجنجويد تنحل !)، ولن نقول للجيش اذهب للثكنات الان ،إذ أن في ذلك وضع للعربة أمام الحصان، وذلك يعني انتصار الجنجويد by default ، ولكننا حاليا نساند الجيش الذي يدافع عن أرضنا وشرفنا وهو في معامع المعارك، وغدا وبعد انحسار الغبار الجنحويدي لنا حساب مع قيادة الجيش التي تلكأت أحيانا في دحر مليشيا الجنجويد لأسباب مبهمة، ولأنها صادقت الإخوان المسلمين أعداء الشعب، وسمحت لهم بالاستمرار في التمكين وفي الامساك بعصب الدولة ومفاصل الحكم. وتحتاج هذه التوازنات الدقيقة لحكمة راسخة ونظرات ثاقبة وذكاء سياسي وشجاعة أدبية وصبر علي الآخر، حتي تتم الوحدة الفكرية والتنظيمية اللازمة للصمود أمام الهجمة الجنجويدية.
ولا مفر من تفهم أوضاع الجيش الداخلية بموضوعية وهدوء، وليس بولولة الهتيفة ونواح الحكامات وأدعياء النضال المنكفئين علي ذواتهم.
وفي نهاية اليوم لن يصح إلا الصحيح ، ولا بد من السلام المستدام والديمقراطية الراسخة ولو طال السفر.
حرية سلام وعداله
مدنية خيار الشعب.
والثورة خيار الشعب !
fdil.abbas@gmail.com
/////////////////////
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
عامان على الرحيل.. فراق الشقيق ولوعة الألم
العاشر من مايو 2023، أتوقف عند هذا التاريخ، إنه يوم رحيل الحبيب والشقيق، «محمود بكري»، اليوم، السبت، 10 مايو الذكرى الثانية، الأيام تمضي صعبة ومؤلمة، وجهك الطيب لا يفارق ذاكرتي، كلماتك تدوي في أذني، نبضات قلبك الجميل، كأنها تناجيني..
عامان مضيا على فراقك، الحزن لا يفارقني، الدموع تغالبني، أغلق على نفسي باب مكتبي، أتأمل صورتك الجميلة، أعود إلى تاريخ مضى، وذكريات خالدة لا تُنسى.
منذ كنا صغارًا وحتى يوم الرحيل، كنا روحين في جسد واحد، عشنا الأيام بحلوها ومرها، ترعرعنا، وناضلنا سويًا، لم نختلف رغم مضي العمر وطول السنين، بل كان الكثيرون يتساءلون عن معنى ودلالة تلك العلاقة التي بدت غريبة للبعض.
سبعون يومًا هي عمر المرض، سبعون يومًا وقلبي مخطوف، لم يرد في ذهني لحظة واحدة، أن أخي سيفارقني قبل أن أفارق أنا هذه الحياة، كنت دومًا تقول: أتمنى أن أرحل قبل رحيل أخي، لكنك رحلت وتركتني للوجع والآلام، عندما أذهب إلى بلدتي «المعنا» أمضي إلى مقبرتك حتى قبل أن أدخل إلى بيتنا، أقف أمامك، وكأنني أناجيك، انظر إلى حيث تنام، وكأنني انتظر حضنك ولهفتك مع كل أزمة وكل غياب..
عامان من الفراق يا أخي، أعرف أن روحك الطاهرة تحلق في السماء، تهمس بالنصائح في الأحلام، لكنها أبدًا لا تفارق عقلي أو خيالي.. أكاد لا أصدق أن محمود الحبيب، قد مضى إلى غير رجعة، لكنه قضاء الله - سبحانه وتعالى-.
لازلت أتذكر الحشود التي زحفت من كل حدب وصوب إلى بلدتنا لتشارك في تشييعك وعزائك الأخير، لازلت أتذكر كيف توقف ميدان التحرير عن الحركة لساعات طوال. لقد أراد الله أن يكرمك خير تكريم..
لقد كانت وصيتك أن تدفن إلى جوار أمي وأبي في بلدتنا بجنوب الصعيد، كنت مصممًا رغم كل الرجاءات، وها أنت هنا، حيث الأهل والخلان، حيث الناس الطيبين، كأنها استراحة محارب، ولكنها استراحة أبدية.. حيث صعدت الروح الطاهرة إلى بارئها، ولم يبق من الدنيا إلا أفعال الخير التي رهنت نفسك لها، لم يبق إلا إخلاصك وأمانتك ونزاهتك وتضحيتك من أجل الوطن بلا حدود، وبلا انتظار لجزاء أو ثمن!!
أراك دومًا في عيون أشقائك، في عيون أولادك، وفي عين حفيدك «زين» الذي كان قلبك يهفو إليه، وذاكرتك تسجل كل لحظات السعادة وهو بين يديك..
تمضي الأيام ثقيلة تتسارع الأحداث، تتقلب الأمزجة، لازال شعور الاغتراب يطاردني، تركت فراغًا كبيرًا في حياتي، ولكن ماذا أفعل، فأنت في دنيا أفضل من دنيانا، لكنك تبقى دومًا شمسًا لا تغيب، أدعو لك بالرحمة والمغفرة يا أخي..