الجزيرة:
2025-07-02@05:03:44 GMT

تسامح مسلمي الشرق في يوميات غولدتسيهر

تاريخ النشر: 25th, June 2023 GMT

تسامح مسلمي الشرق في يوميات غولدتسيهر

تحدثت في المقالة السابقة عن يوميات المستشرق اليهودي إيغناس غولدتسيهر، والتي تناول فيها رحلته لطلب العلم في الأزهر الشريف بمصر، وظلت تلك المذكرات منشورة باللغتين الألمانية والإنجليزية، وترجمها مؤخرا الدكتور محمد عوني عبد الرؤوف بعنوان "يوميات إيجناس جولدتسيهر"، وقد كان غولدتسيهر معتزا برحلته إلى المشرق الإسلامي وأفردها في كتاب مستقل بعنوان "يوميات جولدتسيهر الشرقية"، وترجمها أيضا الدكتور عوني عبد الرؤوف.

وفي يومياته -التي تكلم فيها عبر صفحات مختصرة نوعا ما- تحدث غولدتسيهر عن رحلته إلى سوريا وفلسطين ومصر، والتي يجد فيها القارئ -الذي يريد رسم صورة عن المجتمع في هذه الفترة- تفاصيل دقيقة ومهمة ومركزة عن الحياة العلمية في هذه البلدان والحياة الدينية والسياسية كذلك، فقد التقى برجال السياسة وعلماء الدين الكبار ورجال الإصلاح السياسي وحركات التحرر في المشرق الإسلامي.

استغرقت رحلته الأولى للمشرق عاما واحدا، وذلك بين عامي 1873 و1874، ومن أهم ما رصده غولدتسيهر في يومياته التعامل بين أتباع الأديان الثلاثة، وقارن عدة مرات وفي صفحات مختلفة بين التعايش والتسامح في بلاد المشرق -خاصة مصر وسوريا- وبين الدول الأوروبية، بل قارن بين التسامح الإسلامي في هذه البلدان وبين تعصب بعض رجال الدين من الأديان الأخرى مع طائفته اليهودية.

ما مر من مشاهدات غولدتسيهر أوضحت له بجلاء كيف يحظى أتباع ديانته اليهودية بحسن معاملة، بل يشفع عند تاجر مسلم ويذكّره بالقرآن والحديث، فيقبل شفاعته ويعيد الموظف ويزيد راتبه كما طلب

المناوشات المسيحية ليهود دمشق

مما رصده غولدتسيهر في رحلته لدمشق بشأن العلاقة بين أتباع الأديان الثلاثة في دمشق: الإسلام، والمسيحية، واليهودية ما رآه من توجس اليهود منه، لأنهم اعتقدوه مبشرا مسيحيا، وقد كتب كلاما في غاية الشدة والسباب لمسيحيي زمانه وما رصده من معاملتهم ليهود دمشق، حيث ذكر بعض ما عانوه منهم في الكنس اليهودية، فدعا إلى كراهيتهم وذكر أنهم كانوا يغطون جدران الحي اليهودي وجدران المعبد اليهودي بملصقات أيام الجمع اليهودية المقدسة، ودعا اليهود للصبر على رؤية هذه الملصقات المكتوبة باللغة العربية، وذكر أن هذه الأمور جعلته يعذر اليهود في رفضهم المبدئي له، ثم حظي بعلاقات جيدة معهم بعد ذلك.

تعصب بعض القساوسة رغم ثقافتهم

شكا غولدتسيهر من تعصب بعض القساوسة في الشام، خاصة رئيس الأساقفة واسمه "مكاريوس"، فقال عنه "وهو رجل متعصب، ولكنه مثقف، جاء من دير بلبنان ونصّب حبرا، واعتدت بعد ذلك زيارته مرتين أو 3 مرات أسبوعيا، كما أنه كان يستنكر صحبتي للمسلمين وإن كان راضيا عن مناقشاتي العلمية، وبيّن أنه بسبب هذه المعاملة ازدادت محبته للمسلمين لما رآه من حسن معاملة منهم".

ورغم ما أخذه غولدتسيهر على بعض القساوسة من تعصب فإنه لاحظ ملاحظة مهمة وهي سعة اطلاع القساوسة على التراث الإسلامي، فرئيس الأساقفة مكاريوس مثقف جدا، والتقى كذلك من بين علماء الدين المسيحي بالأب موسى الماروني الذي اعتاد زيارته عند بوابة توما بالحي اليهودي، وقال عنه "وهو رجل ذو علم وافر بالشريعة الإسلامية، وقد وجدت نفسي ممتنا له لتبصرتي وتعميق فهمي للاختلافات العقائدية الإسلامية، وقد قرأت كتاب "ميزان الشعراني" لأول مرة في حياتي في نسخة أبينا موسى".

دمشق باب الجنة

أبدى غولدتسيهر إعجابه الشديد بروح وأخلاق مسلمي الشرق في البلاد التي زارها، خاصة سوريا ومصر، بل إن أحد الأوروبيين الذين قابلهم في دمشق -وهو رئيس جماعة ماسونية- كان يقارن في هذه الجلسة بين المدن الأوروبية التي زارها ومدينة دمشق التي يعدها بوابة الجنة، وهو ما دعا غولدتسيهر للتعقيب عليه بهذه العبارات "ومنذ اختلاطي بهذه المجتمعات الإسلامية لم أشعر قط بأنني غريب عنها على الرغم من الزي الغريب الذي أرتديه، وعلى الرغم من أن ديني مغاير للإسلام فإنهم كانوا يعتبرونني واحدا منهم، ولم يتعرض لي أحد بسوء، سواء من الشيوخ المتطرفين أو من الطبقات الشعبية، وقد عشت هذه الأسابيع أنعم بهذه الروح الإسلامية".

شفاعته لموظف يهودي عند مسلم

من المواقف التي يشيد بها غولدتسيهر -والتي جعلته يقف أمامها طويلا- أنه في خان أسعد باشا -وهو أعظم أسواق دمشق وقتها- اعتاد أن يمر على تاجر عربي يدعى خليل ليتناول عنده فنجانا من القهوة، وكان عنده فتى يهودي يدعى "ليفي" يقوم بالأعمال الحسابية، وكان أجره في اليوم فرنكا واحدا، ولما تجرأ مطالبا برفع أجره ليصبح فرنكا ونصف فرنك استغنى عنه صاحب المتجر وطرده من خدمته.

يقول غولدتسيهر "فتوسل إليّ هذا الفتى اليهودي البالغ من العمر 15 أو 16 سنة ويعول بأجره أبوين فقيرين أن أتدخل لأحميه من قرار الطرد، لأنه رأى أن سيده يظهر لي المودة، فتدخلت للتوصية به عند خليل مستخدما كل ما يمكن أن أستشهد به من آيات القرآن والحديث، وبارك الرب مسعاي، فأعيد ليفي إلى عمله بالأجر الذي كان يطمع فيه بخان أسعد، وتمكنت من إسعاد العائلة".

استجبت لدعوة ليفي التي وجهها لي ودموعه على خديه لاستضافتي في منزله، فذهبت إلى منزله المتواضع النظيف واندمجت في مشهد مثير، إذ رحب والداه وإخوانه وأخواته ترحيبا ممتزجا بدموع ودودة وكأني فارس أو منقذ للأسرة، فملأني الاطمئنان لأنني قدمت خدمة لهذه الأسرة المكافحة التي يبدو عليها أنها عزيز قوم جار عليه الزمن.

كان للشاب اليهودي ليفي أخت تدعى "حيا" تعرف عليها غولدتسيهر ودارت بينهما حوارات وتواصل، وقد وجدتها مثقفة ومهتمة بالأدب العربي القديم والحديث، ولديها معرفة واسعة بالأحوال الدينية والاجتماعية تفوق ما كان يتوقعه -حسب قوله- من فتاة يهودية في سوريا، وبعد رحيله عن المشرق وعودته لبلاده بلغه من أخبارها أنها تزوجت تاجرا صغيرا يعمل بالإسكندرية، حيث توفيت نتيجة ولادة عسرة، فترحم عليها بقوله "رحم الرب هذه الفتاة اليهودية الدمشقية الحلوة الشجاعة".

ما مر من مشاهدات غولدتسيهر أوضحت له بجلاء كيف يحظى أتباع ديانته اليهودية بحسن معاملة، بل يشفع عند تاجر مسلم ويذكّره بالقرآن والحديث، فيقبل شفاعته ويعيد الموظف ويزيد راتبه كما طلب، ومواقف كثيرة تعرض لها ودوّنها مشيدا بها ومقارنا بين كل موقف بموقف تعرّض له في أوروبا بتعصب.

لطف المصريين المسلمين وغلظة الأوروبيين

ما لقيه غولدتسيهر في دمشق من معاملة حسنة لقي نفسها من المصريين، فلا يخفي مشاعره تجاه اللطف الشديد الذي عامله به المسلمون، ولم يكن تصنعا منهم، بل رآه لطفا ينطلق من مشاعر وخلق حقيقي، مما جعله كثيرا ما يقارن بين المصريين والأوروبيين فقال "وكان أمين المكتبة آنذاك السيد شترن المتخصص في الدراسات المصرية القديمة، وهو تلميذ المستشرق بروجش والمستشرق بروتيجي إيبرس، ولكنه كان مستعربا متوسط المستوى في الدراسات الإسلامية، فضلا عن جهله في أمور كثيرة وغلظته وجفائه، إذ كان قليل المجاملة، وعلى العكس من ذلك كان المساعدون المسلمون بشوشين مرحبين"، وحكى عن مصاحبته لحسنين أفندي واتخاذه معلما له وفضله عليه في المشي به في شوارع القاهرة وتعليمه اللهجة العامية.

مظاهر من تسامح المصريين

نقل غولدتسيهر عددا من مظاهر تسامح المصريين مسلمين وغير مسلمين، فمنذ دخوله القاهرة لقي ترحابا وحسن معاملة، سواء من خادمه في الفندق، والذي كان يوقظه عند صلاة الفجر ويعد له حمارا يركبه ليتبلغ به مهامه في القاهرة من الذهاب إلى دار الكتب الخديوية، ثم مقابلته رياض باشا وكتابته توصية للمفتي وشيخ الأزهر الشيخ العباسي المهدي، وما لقيه من حسن معاملة من المفتي، والتوصية التي كتبها له، وما لقيه من حسن معاملة من طلبة الأزهر وشيوخه كذلك جميعا، وتأثره بهذه العاطفة من الحب والتسامح.

وغامر غولدتسيهر فذهب إلى صلاة الجمعة كما أسلفنا في مقالنا السابق، كل هذه المعاملة الرائقة والراقية من المصريين والأزهريين جعلته يقارن بحسرة، فيقول بعد تسلمه رسالة شيخ الأزهر ليتمكن من الدراسة "وبقلب يخفق أخذت هذه الأسطر من المفتي الصارم وقبّلت يديه وعاهدت نفسي عهدا مقدسا ألا أفعل أي شيء يجعله يتشكك في ثقته بي".

ويقول "وما أكثر ما تجتاحني الذكريات رغما عني! وما أكثر ما تطوف بذهني وأسترجع معها ذكريات مواقف صعبة من كل نوع مرت بحياتي عام 1868 وعانيت منها محاولا التغلب عليها عندما كنت أستمع إلى محاضرات الكاهن المأفون روزسكا عن اللاهوت الكاثوليكي بمدينة "بست"! فما أيسر ما مر بي هنا! أنا المقر بالله وبمحمد".

بل قال عن طلبة الأزهر الذين عاملوه بحب دون مصلحة منه أو منهم "وما أسرع ما أصبحت محبوبا لدى الطلاب والأساتذة، إذ كانوا يتعاملون معي كأنني واحد منهم رغم أنني لم أحاول أن أتظاهر بأنني مسلم، فإذا ما تأخرت يوما عن الحضور أو مكثت بدار الكتب الخديوية طوال فترة ما قبل الظهيرة ازداد القلق والحيرة في حلقة الشيخ محفوظ خاصة، وكان الطلاب والشيوخ يزورونني في مسكني كثيرا، كما كنت أحب أن أزورهم أيضا".

بلغ اندماج هذا المستشرق اليهودي بالمصريين الأزهريين أن رياض باشا بعد أن رأى معاملة الأزهريين له وسروره بذلك أنه كان يغريه بالبقاء في مصر، وأنه يمكنه أن يوفر له وظيفة متميزة.

حزن غولدتسيهر على وداع الشرق

لم يخفِ غولدتسيهر حزنه العميق على وداع الشرق، فكان عند وداعه لدمشق حزينا، إذ تمتع بالتنزه -كما قال- مع أصدقائه المسلمين، وتحدث معهم في مسائل العقيدة والشريعة الإسلامية والشعر والنحو، واستمتع بالمشاهد الجميلة فيها.

وكذلك ودع مصر بحزن شديد، فود لو طالت أيامه فيها، لكن مرض والده انتزعه انتزاعا من الرحلة، فختم الرحلة وهو على متن السفينة منطلقة من الإسكندرية قائلا في يومياته "كان البحر أول يوم عاصفا جدا، وتملكني اكتئاب شديد عندما رأيت مآذن المدينة تختفي شيئا فشيئا، إذ إن هذا يعني أنني أنهي رحلة قضيت فيها أجمل أيام حياتي وإن كنت لم أتوقع أن ما سألقاه في حياتي مستقبلا أشد قتامة مما كنت ألقاه قبلها".

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

إقرأ أيضاً:

عالم جديد… عالم متوحش جدا

يتوجب على كل دول العالم وبالأخص دول الشرق الأوسط، والدول العربية الأخرى، بعد الهجوم الإسرائيلي المفاجئ على إيران، وما تبعه من ضربة أمريكية على المواقع النووية الإيرانية أن تستخلص مجموعة من النتائج التي باتت أقرب من المسلمات في تعامل الحلف الصهيوـ أمريكي بشكل خاص، والغربي بشكل عام إزاء دول العالم الأخرى والتي تؤكد على ثوابت لا مجال للمساس بها.

هذه الثوابت هي من محرمات النظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية: أولا الرفض القاطع للمطالبة بمحاسبة إسرائيل على جرائمها (وآخر فيتو أمريكي في مجلس الأمن بخصوص العدوان على غزة، وارتكابها جرائم حرب، وإبادة جماعية، وعدم إدخال المساعدات، رغم موافقة 14 عضوا آخرين على مشروع القرار الأممي، والهجوم غير المبرر للإدارة الأمريكية السابقة واللاحقة على محكمة الجنايات الدولية بسبب إصدار حكم بإلقاء القبض على بنيامين نتنياهو ويولاف غالانت كمجرمي حرب لخير دليل على ذلك).

ثانيا حصر الحق في امتلاك القوة العسكرية والنووية في إسرائيل: (لا يحق لأي دولة، وخاصة دول الشرق الأوسط امتلاك قوة عسكرية تفوق، أو حتى تماثل قوة إسرائيل، وخاصة امتلاك السلاح النووي. (السلوك العدواني المشترك للحلف الصهيوـ أمريكي ضد المفاعل النووي العراقي أوزيراك، أو عملية بابل التي قامت بها إسرائيل بدعم أمريكي في السابع من حزيران 1981 ودمرت بها المفاعل العراقي، ثم تدمير المفاعل السوري، أو عملية البستان التي قامت بها إسرائيل في العام 2007، ثم إرغام ليبيا على تفكيك المفاعل النووي الليبي في العام 2003 بعد التهديد الأمريكي) هذا في الوقت الذي تمتلك فيه إسرائيل مفاعلا نوويا (مفاعل ديمونا) الذي قامت فرنسا ببنائه في العام 1958 دون إخطار الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهذا المفاعل أحد أبرز الأسرار المركزية في السياسة العسكرية الإسرائيلية، ولا يتم الحديث عنه إطلاقا إلا في ما ندر.

(أثيرت قضية مفاعل ديمونا في أعقاب قضية مردخاي فعنونو الذي كشف عن بعض أسرار هذا المفاعل وقامت إسرائيل باختطافه والحكم عليه بالسجن 18 سنة). إلا أن المحافل الدولية لا تتجرأ إطلاقا الإشارة إلى ما تمتلكه إسرائيل من تكنولوجيا نووية، والسلاح النووي، ولكن الجميع يعلم ذلك والجميع يتجاهل ذلك أيضا، على الرغم من المطالبة المستمرة من الدول العربية بأن يكون الشرق الأوسط خاليا من الأسلحة النووية منوهين بذلك لامتلاك إسرائيل هذا السلاح، دون ذكره، لكن أكثر من مسؤول إسرائيلي بعد عملية طوفان الأقصى طالبوا الحكومة باستخدام السلاح النووي بما يؤكد امتلاكها لهذا السلاح.
"إطالة الحرب مع إيران قد تلجئنا إلى السلاح الاستراتيجي""
وقد ذكرت صحيفة «لومانيتيه» الفرنسية بعد الهجوم الإسرائيلي على إيران في عنوان عريض: «كيف امتلكت إسرائيل السلاح النووي في ظل غموض تام وتجاهل للقانون الدولي» وذكرت أن أيا من الرؤساء الأمريكيين يجرؤ بمطالبة إسرائيل بالتوقيع على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، بل أن دونالد ترامب انسحب في العام 2019 من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى ما فتح الباب على عالم يسوده الفوضى وتداس فيه القوانين الدولية دون رادع».

وتشير صحيفة «لو مانيتيه» إلى مصدر رفيع في «الموساد» الذي صرح مؤخرا إن: إطالة الحرب مع إيران قد تلجئنا إلى “السلاح الاستراتيجي»، والمقصود السلاح النووي.

وأصوات في الإدارة الأمريكية لم تستبعد الخيار النووي قبل توجيه ضربتها بقنابل خارقة للخراسانات. ثالثا: لم تعد أي دولة في الشرق الأوسط (أو غيره) بمنأى أن تمحى عن الخريطة في المخططات الصهيو ـ أمريكية حسب تصريحات نتنياهو نفسه الذي يريد أن يغير وجه الشرق الأوسط مؤيدا كلامه بخرائط جديدة عرضها على منبر الأمم المتحدة، ومتكئا على دعم دونالد ترامب الذي أهداه في شوطه الأول الجولان السوري بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية عليها.

منذ غزو روسيا «الدولة العظمى» لأوكرانيا، واحتلال أراضيها بالقوة العسكرية، وضمها إلى الأراضي الروسية، واحتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة، وأراض في لبنان وسوريا، ( ضاربة عرض الحائط بكل الاتفاقات الدولية بانتهاكها دون رادع اتفاقية فصل القوات في سوريا، والقرار الأممي 1701 بالنسبة للبنان، وانتهاك اتفاقية كامب دافيد مع مصر بتواجد قواتها على محور نتساريم) ومطالبات دونالد ترامب بضم كندا، واحتلال غرينلاند، والاستيلاء على قناة بنما، والتنويه إلى احتلال غزة وتحويلها إلى ريفييرا الشرق الأوسط، ثم الاعتداء الإسرائيلي على إيران بدعم الولايات المتحدة دون سابق إنذار، وبخداع الجانب الإيراني بالمفاوضات في الوقت الذي كانت القوات الإسرائيلية تجهز نفسها لتوجيه ضربتها لإيران وإطلاق تصريحات بنيتها تغير النظام، كما حدث في العراق واسقاط نظام صدام حسين.

(نذكر هنا باستراتيجية الاحتواء المزدوج التي أطلقها السفير الأمريكي السابق في إسرائيل مارتن إنديك والتي ترتكز على احتواء العراق وإيران وقد نجحت أمريكا في احتواء العراق في العام 2003 واليوم تحاول احتواء إيران) هذه الأحداث المتتالية خلال السنوات القليلة الماضية تؤكد أن عالما جديدا يتشكل يقوم على مبدأ القوة ولا وجود للضعفاء فيه، وهذا ما يفسر تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه يريد تغيير وجه الشرق الأوسط، وهذا التغيير في ذهنية إسرائيل هو التوسع في احتلال الدول المجاورة، وخلق كيانات جديدة من الأقليات تدين بالولاء لها.

وصرحت مديرة معهد تشاتام هاوس برونوين ما دوكس في لندن لصحيفة اوبزيرفر قائلة: « نحن نعيش الآن في عالم تستطيع فيه الدول القوية أن تفعل ما تشاء». ويرى بيتر ريكيتس، الرئيس السابق لوزارة الخارجية البريطانية، وأول مستشار للأمن القومي في بريطانيا، أن هذه الفترة أكثر إثارة للقلق من أي وقت مضى منذ الحرب الباردة. نهج القوة في الشؤون الدولية من أمريكا وروسيا والصين، المقترن بضعف الأمم المتحدة، لم نشهد هذا المزيج من قبل». ببساطة فإن الأمر يعيد إلى الأذهان عودة الإمبريالية المزدوجة البريطانية الفرنسية متمثلة اليوم بالإمبريالية الصهيو ـ أمريكية.

يكمن التهديد الوجودي للعرب في قوتين متناحرتين تسعيان كل واحدة من طرفها الهيمنة على بعض الدول العربية وخاصة دول الشرق الأوسط، وقد نوهت أكثر من دولة عربية لهذا التهديد المزدوج دون اتخاذ أي إجراء رادع، وآخر تحذير جاء على لسان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني الذي قال بأن الاحتلال الإسرائيلي يسعى لتوسيع رقعة الحرب بهدف رسم خارطة جديدة للشرق الأوسط، مشيرا إلى « فشل المجتمع الدولي في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين».

وأظهرت الحرب الإيرانية الإسرائيلية أن إسرائيل تنتهك أجواء الدول العربية في المنطقة دون موافقتها متجاوزة بذلك كل القوانين الدولية وسيادة هذه الدول، وبعبارة أخرى أن هذه الدول أصبحت مكشوفة أمام الطيران الإسرائيلي، وفي تحليل للكاتبة الصحافية الأمريكية كاثلين جونستون في رد على رسالة سفير أمريكا لإسرائيل مايك هاكابي الذي مجد فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ونوه فيها لاستخدام السلاح النووي قالت: «إن مجرد التلويح باستخدام السلاح النووي يعد أمرا مرعبا، وأن رفض واشنطن وتل أبيب لحصول إيران على السلاح النووي» لا ينبع من الخوف في استخدامه بل من فقدان القدرة على تغيير الأنظمة في المنطقة، إنهم يريدون إسقاط طهران لضمان السيطرة الإقليمية الكاملة، ولو لم تكن إيران تسعى لأن تمتلك السلاح النووي لبحثوا عن ذريعة أخرى».

القدس العربي

مقالات مشابهة

  • وهم الحل الليبي الليبي
  • ترامب: لا أفكر في تمديد مهلة الرسوم الجمركية التي تنتهي 9 يوليو
  • يوميات جاري أبو فرح في الحرب(2)
  • عقب استدعائه من قبل النيابة.. وليد فواز يتصدر التريند من جديد
  • ما هي الدولة الأوروبية التي تعيد معظم المهاجرين غير الشرعيين؟
  • عالم جديد… عالم متوحش جدا
  • ممداني يحدث زلزالا سياسيا ببلدية نيويورك ويلهم مسلمي أميركا
  • الخارجية الأمريكية تكشف عن العقوبات التي لن يرفعها ترامب عن سوريا
  • رئيس مجلس إدارة شركة المها الدولية محمد العنزي: على بعد كيلو مترات من هذا القصر ولدت أول أبجدية عرفتها البشرية وعلى هذه الأرض خط الإنسان أولى الحروف التي تحولت لاحقاً إلى حضارات وتراث إنساني لا يزال نوره يهدي العقول والأمم ومن هنا من دمشق نطلق مشروعنا الث
  • تامر أمين: السير عكس الاتجاه على الطريق الحر أو الصحراوي جريمة موت لا تسامح فيها