في العمق: قراءة فـي مدلولات خطاب جلالة السلطان فـي عيد النهضة الثالث والخمسين المجيد
تاريخ النشر: 14th, November 2023 GMT
تفضَّل حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ فألقى خِطابه السَّامي في افتتاح دَوْر الانعقاد السَّنوي للدَّوْرة الثامنة لمجلس عُمان في الرابع عشر من نوفمبر لعام 2023 تزامنًا مع احتفالات سلطنة عُمان بيومها الوطني الثامن عشر من نوفمبر، وعيدها الثالث والخمسين المَجيد، حيث جاء خِطاب جلالته ـ أعزَّه الله ـ شاملًا جامعًا إجرائيًّا راصدًا للكثير من القضايا والمرتكزات الأساسيَّة الَّتي سَعَتْ نهضة عُمان المُتجدِّدة إلى تحقيقها في ظلِّ المعطيات العالَميَّة والإقليمية والوطنيَّة، حيث شكَّل الخِطاب مرحلة مُتجدِّدة في مَسيرة العمل الوطني تستلهم من منجزات عُمان العظيمة وإرثها الخالد ورؤيتها التطويريَّة وفِكْر جلالته السَّامي ـ أبقاه الله ـ وتلاحم العُمانيِّين وتكاتفهم نَحْوَ مَسيرة للبناء واستشراف المستقبل، استشعارًا لِمَا تحمله هذه المرحلة من متغيِّرات، والمراحل القادمة من متغيِّرات، متجاوبًا مع رؤية التجديد والتطوير والبناء الَّتي عملت رؤية «عُمان 2040» على تحقيقها في مختلف المجالات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.
لقَدْ تَحقَّق في السَّنوات الأربع منذ تولِّي جلالة السُّلطان المُعظَّم مقاليد الحُكم في البلاد تحوُّلات نوعيَّة كان لها أثَرها الإيجابي في قدرة سلطنة عُمان على التكيُّف معها وإدارة المخاطر والأزمات النَّاتجة عَنْها، وما كان لذلك أن يتحقَّقَ لولا تلك الروح الوطنيَّة العالية الَّتي عملت مع القيادة الحكيمة لجلالته ـ أبقاه الله ـ على تقديم نموذج وطني ريادي في بناء المرحلة، وتعظيم شأن الرأسمال البَشَري العُماني في صناعة التغيير، ومع تعدُّد القضايا الَّتي طرحها الخِطاب السَّامي وتنوُّع المسارات الَّتي وجَّه بالعمل عَلَيْها في إطار رؤية عُمان، فإنَّه يُمكِن الإشارة إلى بعض هذه القضايا، في الآتي:
تعاظم أدوار ومسؤوليَّة مجلس عُمان: مثمِّنًا حجم الجهود المبذولة والمبادرات النَّوعيَّة الفاعلة الَّتي طرحها مجلس عُمان في الفترات المنصرمة، وإشادة بتكامل جهود المجلس مع مؤسَّسات الدَّولة، جاء خِطاب جلالة السُّلطان المُعظَّم مؤكِّدًا على دَوْر مجلس عُمان بغرفتَيْه الدَّولة والشورى في تحقيق أولويَّات رؤية «عُمان 2040»؛ لِمَا يُمثِّله مجلس عُمان من شريك أساسي في منظومة البناء الوطني، وبالتَّالي تعاظم الطموحات الوطنيَّة في دَوْر أكبر لمجلس عُمان في المرحلة الحاليَّة والمقبلة، بما تطرحه الحكومة من مشروعات وبرامج وأجندة تطويريَّة، والتعاطي النَّوعي عَبْرَ التشريعات والقوانين والدراسات مع السِّياسات والإجراءات الاقتصاديَّة الَّتي اتَّخذتها الحكومة، وما يُمكِن أن يقدِّمَه مجلس عُمان في إنتاج سياسات تنمويَّة أكثر نضجًا وارتباطًا بالواقع ومتناغمة مع أولويَّات المواطن واهتماماته في سَعْيِها نَحْوَ تلمُّس أفضل الممارسات وأنضج الأساليب الَّتي يُمكِن أن يُسهمَ بها في تشخيص معالم التطوُّر وأنجع المعالجات والبدائل في التعامل مع متطلبات خطَّة التوازن المالي وانعكاساتها على حياة المواطن وضمان استدامة توفير سُبل العيش الكريم له، في ظلِّ تحدِّيات مُجتمعيَّة باتَتْ تفرض نَفْسَها على الواقع الاجتماعي وتستدعي مشاركة مُجتمعيَّة فاعلة وتحرُّكًا نَوْعيًّا يُقدِّمه مجلس عُمان عَبْرَ منصَّتَيْه في التعاطي الواعي معها، وسَبر أعماقها وفَهْم تطلُّعات المواطن حَوْلَها، تأكيدًا لِدَوْر منظومة القوانين والتشريعات في مَسيرة التنمية الوطنيَّة، وسَعيًا نَحْوَ مواصلة الجهد الوطني لصياغة مستقبل أفضل لعُمان وشَعبها في إطار تكامل جهود المجلس مع مؤسَّسات الدَّولة، بما يُعزِّز من بلوغ الأهداف والغايات الوطنيَّة، لذلك وجَّه جلالته ـ أعزَّه الله ـ أعضاء المجلسَيْنِ إلى أن يكُونُوا على قدر المسؤوليَّة، واضعين مصلحة عُمان نصبَ أعيُنِهم، موظِّفين اختصاصاتهم في تقديم المبتكر والأقرب إلى جهود التنمية ومشاريع المؤسَّسات، مسترشِدين بالنِّظام الأساسي للدَّولة وبالأحكام الواردة في قانون مجلس عُمان.
الظواهر المُجتمعيَّة غير المقبولة وأهمِّية دراستها ومعالجتها: وفي ظلِّ التحدِّيات الفكريَّة والثقافيَّة الَّتي يتعرَّض لها المُجتمع وتأثيراتها غير المقبولة، فقَدْ جاء خِطاب جلالة السُّلطان المُعظَّم مُوجِّهًا إلى دراسة الظواهر السلبيَّة، ووضع الحلول المناسبة لها، خطوط عريضة لبناء مسار وطني واضح في إدارة هذه الظواهر وتتبُّعها والكشف عَنْها ودراستها وتحليلها، وفَهْم الدوافع والأسباب الَّتي أسهمت فيها، وإيجاد الحلول المناسبة لها بما يتناغم مع هُوِيَّة المُجتمع العُماني ويجسِّد جهود الحكومة في تحقيق رؤية «عُمان 2040» في محور الإنسان والمُجتمع، كإطار وطني فاعل لتحقيق التحوُّلات الإيجابيَّة والاستثمار في الفرص لبناء عُمان المستقبل، وبالتَّالي قراءة الأبعاد النَّاتجة عن هذه الظواهر والاستمرار في وضعها موضع الاهتمام والمتابعة والتشخيص من قِبل مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة والقِطاعات المعنيَّة والمنظومات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والأمنيَّة والتشريعيَّة والقانونيَّة والترويحيَّة والدينيَّة والقِيَميَّة والأخلاقيَّة في رصدِ هذه الظواهر، وتبنِّي المبادرات الجادَّة والحلول المقنَّنة لمعالجتها، واتِّخاذ الإجراءات المناسبة الَّتي تضْمَن سرعة احتوائها، بل تتَّجه لمرحلة متقدِّمة من العمل المؤسَّسي المُخطَّط والأداء المُنظَّم في تأكيد مبدأ الوقاية والاستباقيَّة في الكشف عَنْها بالشكل الَّذي يضْمَن سدَّ كُلِّ منابع ظهورها.
القِيَم والهُوِيَّة العُمانيَّة والمحافظة على كيان الأُسرة: وفي ظلِّ عالَم يموج بالتحدِّيات الفكريَّة والتشوُّهات المعرفيَّة، ويتَّسع للمنعطفات الخطيرة والمسارات المستجدَّة، والأفكار العشوائيَّة المرتجلة الَّتي بدَتْ تحمل لمستقبل الأجيال صورة مخيفة، وتعيش فيه الأخلاق حالة من التشويه والمزاجيَّة والازدواجيَّة، وتقرأ فيه المفردات والمفاهيم المرتبطة بحقوق الإنسان كمدخل لاختزال القِيَم وتنميط صورة السلوك الإنساني المتَّزن، لِيتَّجهَ إلى الشكليَّات والظواهر الصوتيَّة، لذلك الخِطاب السَّامي مساحة لالتقاط الأنفاس وموجِّهات تستشرف مستقبل القِيَم في ظلِّ هذه المعطيات، ومرتكزات عمليَّة للجهاز الإداري للدَّولة في تجسيد القِيَم في قواعد العمل الوطني وبناء منظومات الدَّولة العُمانيَّة وتشريعاتها، ومحطَّة تقف على المنجز القِيَمي العُماني والإرث الحضاري للانطلاقة من خلاله إلى المستقبل الواعد وتحقيق الأولويَّات الوطنيَّة؛ وبالتَّالي تبنِّي سياسات وطنيَّة مستدامة، تؤصِّل الصورة الحضاريَّة للقِيَم العُمانيَّة وتعظيم دَوْرها الريادي في بناء الأُسرة والمحافظة على الكيان الأُسري والشخصيَّة العُمانيَّة، بالإضافة إلى دَوْرها في صناعة مُجتمع المعرفة والاقتصاد والتقنيَّة والتنمية، وتعظيم حضورها في تفاصيل البناء الفكري للإنسان العُماني ومبادئ الدَّولة العُمانيَّة؛ كون القِيَم أوَّل أعمدة الإصلاح الَّتي يجِبُ على المنظومات الوطنيَّة التشريعيَّة والإداريَّة والرقابيَّة والتعليميَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة أن تستحضرَها في أجندة تنفيذ مستهدفات رؤية «عُمان 2040» ذات الصِّلة.
المؤسَّسات التعليميَّة والبحثيَّة والفكريَّة صناعة الوعي والإنتاجيَّة: لقَدْ جاء الخِطاب السَّامي لجلالة السُّلطان مستشرِفًا دَوْر التعليم ومؤسَّساته والبحث العلمي في صناعة خيوط التوازنات المستقبليَّة، تأكيدًا أنَّ الاهتمام بقِطاع التعليم بمختلف أنواعه ومستوياته وتوفير البيئة الداعمة والمُحفِّزة للبحث العلمي والابتكار الطريق لصناعة الوعي وتعزيز إنتاجيَّة الموارد البَشَريَّة المُسلَّحة بالمعرفة الحقَّة والمهارة العمليَّة والقِيَم الأصيلة، لِيُشكِّلَ التعليم وإنتاجيَّته في خِطاب جلالة السُّلطان المُعظَّم، نقطة تحوُّل تضع التعليم أمام مرحلة جديدة من العمل النَّوْعي والأداء المُتفرِّد، وأن يكُونَ أكثر وضوحًا في سياساته وخططه وبرامجه؛ الأمْرُ الَّذي يؤكِّد على أهمِّية ربط التعليم بمتطلبات النُّمو الاقتصادي، وما تتطلبه من تنويع مسارات التعليم والتوسيع في خياراته المهنيَّة والتقنيَّة؛ لضمان امتلاك مخرجاته للمهارات النَّاعمة الَّتي يتطلبها سُوق العمل، ودراسة وتحليل نَوْعيَّة التخصُّصات الَّتي تحتاجها المرحلة الحاليَّة والقادمة وتوجيهها لصالح ربط التعليم بمتطلبات النُّمو الاقتصادي، بما يستدعيه ذلك من تمكينه من رصد مراحل تطوُّر سُوق العمل والاحتياجات الوطنيَّة المستقبليَّة من التخصُّصات أخذًا في الاعتبار التخصُّصات ذات القِيمة المضافة في مجالات الابتكار والبحث العلمي وريادة الأعمال، وحضوره في إدارة وإنتاج وهيكلة المشاريع الَّتي تقوم على الابتكار والذَّكاء الاصطناعي والتقنيَّات المتقدِّمة والابتكار الصناعي، وإنتاج تخصُّصات أكثر مواءمة لتحقيق مستهدفات رؤية «عُمان 2040». تقييم اللامركزيَّة وصناعة المنافسة المنتِجة في عمل المحافظات: شكَّل الاهتمام السَّامي بالمحافظات وعَبْرَ تعزيز الإدارة المحليَّة وتطبيق اللامركزيَّة، والَّذي تُوِّج بإصدار نظام المحافظات تجسيدًا عمليًّا للرؤية السَّامية لجلالته في الانتقال بالمحافظات إلى الاعتماد على النَّفْس، في سبيل ترسيخ إدارة كفؤة تقوم على تعظيم اللامركزيَّة، والمشاركة الفاعلة وإشراك المواطن في مختلف برامج التنمية الوطنيَّة، بما من شأنه تمكينها من تطوير مواردها والاستثمار في الفرص التنمويَّة الاقتصاديَّة والسِّياحيَّة والتراثيَّة والخدميَّة والرأسمال الاجتماعي البَشَري؛ الأمْرُ الَّذي يضع المحافظات أمام مرحلة مُتجدِّدة من العمل الوطني المسؤول، والمشاركة التنمويَّة الفاعلة، القائمة على توسيع قاعدة الشراكة، وترسيخ معايير الأداء الفعَّال، والعمل الجادِّ واستشعار المسؤوليَّة، ووضوح الأُطر والاستراتيجيَّات المُحقِّقة للتحوُّل الشامل، فإنَّ تأكيد جلالة السُّلطان في خِطابه السَّامي على تقييم هذه التجربة باستمرار وتوسيع نطاقها ترسيخًا لدَوْر المُجتمع في التنمية والتطوير مرحلة مُهمَّة تضع المحافظات أمام اختبار حقيقي في كيفيَّة إدارة معطيات هذا التحوُّل وإثبات جدارتها فيه، ومسؤوليَّاتها في استنهاض حسِّ التغيير المُجتمعي، ومزيد من القوَّة في التنفيذ، والأمانة في التخطيط، والإدارة الكفؤة والفاعلة للموارد في ظلِّ توظيف الميزة النسبيَّة للحافظات، ضمانات لتحقّق الرقابة والمحاسبيَّة والمساءلة، والنَّزاهة الَّتي يجِبُ أن تسريَ في كُلِّ خطوات العمل، لذلك جاء تأكيد جلالة السُّلطان في خِطابه السَّامي على ضرورة أن تقومَ المجالس البلديَّة بِدَوْرها في استغلال ما أُتيح لَهُمْ من اختصاصات وممكنات للعمل بطُرق مبتكرة وفِكر متقدِّم ينعكس على سعادة المواطن.
أخيـــرًا، يبقى ما أشرنا إليه غيضًا من فيض مزون الحكمة السَّامية ـ فلقَدْ جاء خِطاب جلالة السُّلطان المُعظَّم شاملًا جامعًا مؤصِّلًا لفِقْهِ المرحلة وأولويَّات العمل الوطني، حاملًا معه روح الأصالة العُمانيَّة وجوهر المبادئ والأخلاق الَّتي ستظلُّ حاضرةً في كُلِّ تفاصيل العمل الوطني وبرامجه ومشروعاته وخططه، وفي سياسات الدَّولة في الداخل والخارج، وأنَّ حجم الإنجازات الَّتي تحقَّقت في السنوات الأربع الماضية والَّتي يستشعرها المواطن العُماني على هذه الأرض المباركة؛ إنَّما هي صناعة الإنسان العُماني نَفْسِه، وإيمانه بوطنه عقيدةً وفكرًا وسلوكًا وممارسةً، ونتاج يضاف لرصيد المواطن وشراكته الفاعلة ووعيه الأصيل، وتعاونه مع قيادته الحكيمة وإخلاصه وحرصه المستمر على أداء مسؤوليَّاته بكُلِّ مصداقيَّة وأمانة ونزاهة، وتبقى مسؤوليَّة الجهاز الإداري للدَّولة في تعظيم الثِّقة في قدراته وفتح آفاق أرْحَبَ له عَبْرَ التسهيلات وتبسيط الإجراءات للمزيد من العمل والإنجاز لتقدُّم عُمان وازدهارها..
حفظكم الله مولاي حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق، ووفَّقكم لخير عُمان وأبنائها الأوفياء وللإنسانيَّة جمعاء.
د.رجب بن علي العويسي
[email protected]
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: العمل الوطنی ة الع مانی ات الوطنی من العمل الم جتمع ه الله ـ م جتمعی مرحلة م الق ی م م جتمع ات الم
إقرأ أيضاً:
كوثر بن هنية: أصنع الأفلام لإعادة الإنسان إلى مركز الحكاية لا لتقديم خطاب سياسي
حوار ـ فيصل بن سعيد العلوي
شكّل فيلم «صوت هند رجب» محطة مهمة في مسار المخرجة التونسية كوثر بن هنية، إذ أعاد ترتيب موقع التجربة الإنسانية داخل السرد، مستندا إلى واقعة حقيقية خرج منها صوت طفلة محاصرة وسط النار في غزة... هذا الصوت تحوّل في المعالجة إلى مساحة بحث عن أثر المأساة في حياة أشخاص يعيشون الحدث كواقع يومي يواجهون فيه العجز والخوف ومحاولة النجاة ... حيث اقتربت المخرجة من علاقة الصورة بالذاكرة، ومن قدرة السينما على نقل تجربة حسّية تجعل المتفرج قريبا من القصة مهما كان موقعه الجغرافي أو السياسي... ومع وصول أعمالها إلى منصات دولية والتتويج بمهرجان البندقية، تواصل «هنية» النظر إلى الحضور العالمي من زاوية تتعلق بكيفية تفكيك الصور المسبقة عن المنطقة، وتقديم شخصيات بتجارب معقدة تراها جزءا من المشهد الإنساني العام وليس استثناء ثقافيا.
في هذا الحوار... تجيب المخرجة التونسية كوثر بن هنية (الحائزة مؤخرا على جائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقية السينمائي لعام 2025 عن فيلمها «صوت هند رجب») عن هذه الأسئلة وسواها، مستندة إلى تجربتها ومسارها الممتد عبر أفلام متعددة..
بعد الفوز بالأسد الفضي في مهرجان البندقية... ما الذي مثّلته التجربة الأخيرة على مستوى علاقتك بالصورة، وعلى مستوى إدراكك لدور السينما في توثيق المأساة الإنسانية المعاصرة؟
قبل الوصول إلى مهرجان البندقية كان التحدي الأساسي هو صنع الفيلم نفسه، وجاءت الفكرة من شعور بالألم والغضب تجاه ما يحدث في غزة، وعندما استمعتُ إلى صوت الطفلة في تسجيل المكالمة بدا الأمر كأنه صوت جماعي يعبّر عن مدينة وشعب في حالة استغاثة... كان ذلك دافعا مباشرا للبدء في العمل، خصوصا أن إحساس العجز أمام حدث بهذه القسوة كان ثقيلا، وكان إنجاز الفيلم أحد الطرق للتعامل معه.
أؤمن بأن للسينما قدرة عملية على لفت الانتباه إلى قضايا إنسانية معقّدة، وعلى خلق تواصل شعوري بين الجمهور والواقع الذي يشاهده، حتى لدى الأشخاص الذين لا تجمعهم علاقة مسبقة بالقضية ذاتها. حين يرى المتفرج مثلا الصعوبات التي يواجهها العاملون في الإسعاف أثناء أداء مهامهم، يدرك حجم المأساة من خلال التجربة لا من خلال المعلومات فقط، وهذا النوع من الاتصال الإنساني هو ما يجعل الصورة ذات أثر.
إنجاز العمل كان خطوة أولى، لكن تقديمه للجمهور يحتاج سياقا يسمح له بالوصول إلى دوائر أوسع، حتى لا يظل محصورا في مسار ضيق أو ضمن جمهور محدد، وعرض الفيلم في البندقية كان فرصة لطرحه في مساحة مشاهدة دولية مفتوحة، وهو ما أعطاه حضورا أوسع وأتاح له الخروج من محيطه الأول.
في أعمالك تتقدم الشخصيات الهشة أمام منظومات سلطوية أو اجتماعية أكبر منها؛ كيف تشكّل هذا الهاجس في بداياتك، أترينه اليوم فكرة فنية أم مشروعا نقديا ممتدا؟
هذا الهاجس موجود منذ البداية، وهو ليس اختيارا طارئا بقدر ما هو انعكاس لعلاقتنا كبشر مع السلطة بصورها المختلفة، ففكرة الظلم وما ينتج عنه من اختلال في ميزان القوة حاضرة في معظم الأفلام التي قدمتها، لأنها جزء من الواقع الذي نعيشه سواء تعلق الأمر بسلطة سياسية أو اجتماعية أو مؤسساتية.
في التجربة الأخيرة يظهر هذا الجانب بشكل واضح، فالاحتلال ليس حاضرا في الكادر بصورة مباشرة، لكنه موجود من خلال آثاره التي تتحكم في مصير الشخصيات ومحاولاتها للنجاة... ظروف المسعفين، عائلة الطفلة، والعجز أمام منظومة أكبر كلها تعبيرات عن علاقة غير متكافئة بين طرف يملك القوة وطرف يعيش تحت تأثيرها.
يمكن القول إن الموضوع صار مع الوقت جزءا من مسار متواصل أكثر منه مجرّد فكرة تطرح في عمل واحد، لأن علاقتنا بالسلطة ليست ثابتة وهي عنصر يساهم في تشكيل الحياة اليومية ويترك أثرا على الشخصيات والخيارات والقصص التي تُروى.
... وهل يمكن اعتبار اهتمامك بموضوع الظلم وعلاقة الفرد بالسلطة مسارا مستمرا في أعمالك المقبلة؟
من الصعب تحديد ما إذا كان هذا الخط سينتهي عند مرحلة معيّنة أو يستمر في المستقبل. المسألة ليست قرارا مُسبقا بقدر ما هي استجابة لواقع ما يزال مليئا بأشكال مختلفة من الظلم، وهذا يجعل هذه الأسئلة حاضرة تلقائيا في التجارب التي أشتغل عليها، فطالما تستمر هذه الظروف في تشكيل حياة الناس فسيبقى هذا المحور مطروحا في الأعمال، لأنه جزء من طبيعة العالم وليس موضوعا يُغلق بعمل واحد.
كثير من المخرجين في المنطقة يبدأون من المحلية ثم يتجهون إلى العالمية، بينما يبدو مسارك معكوسا.. كيف ترين علاقتك بالسياق التونسي والعربي في مقابل حضورك الدولي؟
القصص التي تأتي من منطقتنا تستحق أن يكون لها حضور دولي، وهذا لا يرتبط بحجم المكان ولا بطبيعته الجغرافية، فتصوير فيلم في قرية صغيرة في تونس أو في أي مكان آخر لا يعني أن القصة محلية بالمعنى الضيق أو غير قابلة للوصول إلى جمهور عالمي... فما يحدد مدى الانتشار ليس موقع الأحداث، بل طبيعة التجربة الإنسانية التي تحملها القصة، وقدرتها على لمس المتفرج أينما كان، فالبعد الجغرافي ليس معيارا لتحديد قيمة العمل أو حدود جمهوره، بينما البعد الإنساني هو الذي يفتح المجال للانتشار والحضور في سياقات أوسع.
يجرى الحديث دائما عن تمثيل القضايا في السينما، كيف تميزين بين تقديم فيلم يستلهم الواقع وبين التحول إلى لسان خطاب سياسي مباشر؟
أنا لا أميل إلى الخطابات السياسية المباشرة، لأن هذا النوع يضع المتفرج أمام موقف جاهز، وكأنه يتلقّى استنتاجًا نهائيا لا مساحة فيه للتأمل أو بناء رأي شخصي، فالفيلم بالنسبة لي مساحة للطرح والسؤال وليس للتلقين، وما أبحث عنه هو إدخال الجمهور داخل التجربة نفسها وجعلهم يعيشون الحدث من خلال الشخصيات وظروفها وتوتراتها، بدل وضعهم في مقعد يتلقى موقفًا مكتملًا مسبقًا.
إذن العنصر الأساسي هو البعد الإنساني والحسي في السرد، هل تصل الحكاية إلى المشاهد من خلال التجربة والمعايشة وهل يمكن أن يرى نفسه في القصة حتى لو بدت بعيدة عن حياته المباشرة؟ عندما يحدث ذلك، يتولد فهم أعمق من أي خطاب سياسي واضح، لأن مصدره التعاطف والوعي بالمصير الفردي داخل الحدث، لا الحُكم عليه من الخارج. هذا الاتجاه يجعل السياسة موجودة في الخلفية من خلال الواقع نفسه وتفاصيل الحياة اليومية، لا عبر الشعارات، وعندما يرى المتفرج ما يعيشه المسعفون أو العائلات أو الأفراد في سياق معيّن، يفهم طبيعة الوضع دون أن يفرض عليه أحد طريقة القراءة فالقصة هي التي تفتح الأسئلة، والمشاهد يساهم في الإجابة عنها من موقعه الخاص، وبهذا الشكل يتحول الفيلم إلى مساحة للتجربة والفهم، لا إلى قناة تُعاد من خلالها أفكار جاهزة، الوسيلة ليست إخفاء البعد السياسي، بل تقديمه داخل حياة أشخاص حقيقيين لهم أسماء ومشاعر وهواجس واختيارات، لا مجرد رموز داخل خطاب عام.
في تجربتك يظهر تداخل بين الوثائقي والروائي، وبين الشهادة والدراما، ما الذي يحدد شكل السرد الذي تعتمدينه في كل عمل؟
شكل السرد يرتبط بطبيعة القصة نفسها، لأن كل قصة تحمل بنية داخلية تقترح الطريقة الأنسب لتقديمها. عندما أبدأ مشروعًا جديدًا أسأل نفسي عن الطريقة التي يمكن أن تنقل التجربة بأكبر قدر من القوة والوضوح إلى الجمهور، ثم أراجع الأدوات المتاحة داخل السينما، سواء كانت وثائقية أو درامية أو مزيجا بينهما، وأختار منها ما يخدم الفكرة ويجعل المتفرج قريبا من الشخصيات... وهنا القرار لا يقوم على تفضيل شكل محدد أو الالتزام بنمط واحد في كل الأعمال، بل على فهم ما تحتاجه القصة من زوايا تصوير ومونتاج وبناء زماني ومسافة بين الكاميرا والحدث، وهناك قصص تحتاج حضورا مباشرا مع الواقع وشخوصه، وتستدعي بناءً وثائقيًا يترك فرصة للتفاعل اللحظي مع ما يحدث، وهناك قصص أخرى تتطلّب عملا سرديا مركبا يعتمد على الأداء التمثيلي وبناء مشاهد تتيح قراءة داخلية أعمق للشخصيات..
وقد تقود القصة أحيانا إلى صيغة تجمع بين مناخ الشهادة وحضور الدراما في الوقت نفسه، لأن التجربة لا تنتمي بالكامل إلى أحد الشكلين، وفي هذه الحالة يكون العمل أقرب إلى مساحة بحث، تُستخدم فيها أدوات متعددة للوصول إلى التعبير الأكثر صدقًا، ضمن حدود تحافظ على جوهر القصة دون أن تُحمّلها بناءً لا يناسبها.. إذن اختيار الشكل هنا قرار مرتبط بما يسمح للقصة بأن تتحقق على الشاشة، ويمنحها المسافة التي تحتاجها كي تصل إلى الجمهور بوصفها تجربة كاملة لا مادة تقريرية أو سردًا مغلقًا.
تتعاملين في أعمالك مع شخصيات حقيقية وتجارب معيشة، كيف تُدار العلاقة مع هؤلاء خارج الكاميرا، وهل تشعرين بمسؤولية أخلاقية تجاه صورتهم في المستقبل؟
التعامل مع أشخاص حقيقيين جزء حساس جدا في العمل الوثائقي، لأن ظهورهم أمام الكاميرا لا يعني أنهم يؤدّون دورًا منفصلًا عن حياتهم اليومية. هم يدخلون الفيلم بصفاتهم وتجاربهم وهوياتهم، وما يظهر على الشاشة يتحول إلى جزء من صورتهم العامة مستقبلًا، وهذا يجعل قرار العمل معهم مسؤولية مشتركة، ويحتاج وعيا بمسار طويل يتجاوز لحظة التصوير... فمن اللحظة الأولى أضع في الاعتبار أنني أدخل مساحة خاصة من حياة هؤلاء، وأن العلاقة معهم لا تنتهي عند انتهاء المشروع، لذلك يكون التواصل مستمرا، وأحيانا يتحوّل إلى علاقة إنسانية طويلة المدى.. وهذا الاتصال يساعد على فهم السياق الذي يعيشونه، ويجعل التصوير قائما على ثقة متبادلة وليس على جمع مشاهد للاستخدام الفني فقط، فالمسؤولية لا تقتصر على الوجود داخل الفيلم، بل تمتد إلى طريقة تقديم المادة وكيف سيستقبلها الجمهور، ومن المهم حماية التجربة من أي تأويل يجرّد الشخصيات من معانيها أو يضعها في موقع لم تختره، لذلك أفكر دائمًا في كيفية صياغة اللقطات والمقابلات والمونتاج بحيث تنعكس التجربة كما هي، دون توجيه المتفرج إلى صورة مسبقة أو استنتاج جاهز، وهذا النوع من العمل يتطلّب وضوحا في النية واحتراما لخصوصية الأشخاص ووعيا بما يمكن أن تحمله الصورة من أثر مستقبلي، لأن الفيلم يستمر بعد عرضه، ويظل جزءًا من السجلّ العام لحياة الشخصيات التي شاركت فيه.
ما الفهم الذي تبحثين عنه عندما تُعرض أعمالك في الغرب، أترغبين أن تُقرأ كأعمال فنية مستقلة أم كمدخل لفهم المنطقة؟
ما أطمح إليه هو أن تكون مدخلا إنسانيا لفهم الإنسان قبل أي تصنيفات أخرى، عندما نتحدث عن الجمهور في الغرب أو في أي مكان آخر، فإن الناس عموما يحملون صورا نمطية جاهزة عن الآخرين، لأن العقل البشري يجد هذا النوع من التصنيف أسهل... لذلك يكون الهدف من العمل هو تفكيك تلك الصور، وإظهار الشخصيات القادمة من منطقتنا كما هي، بتعقيداتها وتنوعها وتناقضاتها، لكني لا شك لا أسعى لتقديمهم بصورة مثالية، بل بوصفهم بشرا يمتلكون نقاط قوة وضعف وتجارب متباينة تماما مثل أي شخص آخر في العالم.
هناك من يرى أن السينما العربية لا تزال أسيرة التلقي الخارجي ومعاييره الفنية، كيف ترين هذا الجدل؟ وهل تمثل الجوائز العالمية محطة ضرورية أم مجرد أثر جانبي للعمل؟
هناك جانب يتعلق بطبيعة الفن نفسه، الحكاية والسرد جزء من الثقافة الإنسانية ككل، وليست ملكا لثقافة دون أخرى... نحن لدينا في العالم العربي تراث سردي غني وممتد تاريخيا، ومن المهم أن نستعيد هذا المخزون ونشتغل عليه من داخل ثقافتنا بدلا من النظر إليه من الخارج.
وفي المقابل نعيش اليوم داخل منظومة ثقافية مهيمنة، تتمثل في النموذج الأمريكي وصناعة هوليوود، وهذا يجعل أفلام هذه الثقافة تتمتع بانتشار كبير تلقائيا، بينما لا تحظى الأعمال القادمة من مناطق أخرى بنفس المساحة، وعندما نصنع أفلاما تنطلق من سياقاتنا وتجاربنا قد لا تصل إلى الجمهور العالمي بسهولة، لأن السوق منحاز أصلا لمن يملك القوة الإنتاجية والإعلامية... لهذا السبب تصبح المشاركة في المهرجانات الكبرى مساحة ضرورية حتى يُشاهَد العمل ويُتاح له الانتشار، وإلا سيظل محصورا في نطاق محدود، وليست هذه مكافأة إضافية أو ترفا بل نتيجة لبنية عالمية تمنح امتيازات لمن ينتمي إلى ثقافة مهيمنة.. وكل هذه العملية معقدة وتحتاج وعيا بكيفية التعامل معها والتفاعل معها دون الاستسلام لشروطها أو فقدان خصوصية التجربة الفنية.
ما التحول الأكبر في رؤيتك منذ أفلامك الأولى حتى اليوم... ما زالت الأسئلة نفسها تقودك أم أن الدوافع تغيرت مع الزمن؟
مسألة الظلم لا تزال دافعا كبيرا في الأعمال، لكنها تتطور مع كل تجربة لأن الأدوات تتطور أيضا، ومن فيلم إلى آخر تصبح القدرة على استخدام لغة السينما أوضح وأكثر نضجا، والهدف في كل مرحلة هو تقديم فيلم أفضل من السابق من حيث البناء والرؤية والتقنيات، وهذا التغيّر لا يعني التخلي عن الأسئلة الأولى، لكنه يرتبط بنضج التجربة وتطور الوسائل التي تُروى بها الحكاية.
في المرحلة المقبلة... تتجهين نحو مزيد من التجريب الفني، أم ترين أن الحاجة الإنسانية تفرض الاقتراب أكثر من القصص الواقعية؟
العمل على قصص مستمدة من الواقع لا يتعارض مع التجريب الفني ويمكن أن يفتح مجالًا واسعًا للتجريب الفني، لأن التجربة الحية تحمل طبقات متعددة تسمح باستخدام أدوات مختلفة في السرد والبناء البصري، وهناك قصص تتطلب تقنيات مباشرة تحافظ على قرب الكاميرا من الحدث، وهناك قصص أخرى تحتاج إلى معالجة مركبة تتيح قراءة داخلية أعمق للشخصيات والسياق، وأحيانًا يجتمع الاتجاهان في مساحة واحدة إذا احتاج العمل ذلك. الاهتمام بالقضايا الإنسانية لا يعني تكرار الأدوات نفسها في كل مشروع، فكل قصة تُفرَض بطريقة مختلفة، وتحتاج إلى شكل يبرز تفاصيلها ويجعل حضورها أقرب إلى المتفرج.. وأحيانًا تكون التجربة في التفاصيل الصغيرة التي لا تحتاج إلى بناء بصري معقد، وأحيانًا تحتاج إلى اشتغال بصري وصوتي يفتح طبقة جديدة من الفهم.
فالتجريب هنا طريقة لفتح مسارات تواصل مختلفة مع الجمهور، ويأتي من داخل القصة نفسها، لا من رغبة في اتباع قالب فني محدد، ولكن من المهم أن تظل التجربة نتيجة لاختيار واعٍ يستجيب لروح القصة ولما يمكن أن تتركه من أثر لدى المشاهد، سواء كانت قادمة من واقع يومي أو من معالجة فنية تعتمد إعادة بناء الحدث.