صدى البلد:
2025-12-14@23:31:49 GMT

د. عصام محمد عبد القادر يكتب: مسؤولية الذات

تاريخ النشر: 14th, December 2025 GMT

أعتقد أن الإدراك له مستويات من التكوين والنضج؛ حيث يمنحنا المقدرة على تحليل الواقع، ويخلق فينا فلسفة الاتزان في تناول قضايانا المختلفة؛ ومن ثم نستطيع أن نقول بأن هناك تكاملًا بين عملياتنا الذهنية، ووجدانياتنا المتنوعة، وما نحوزه من خبرة، وهذا ما يؤدي إلى الممارسة في سياقها المقبول، بل، والعمل دومًا على تحسينها؛ لتتناسب مع التغيرات المحيطة بنا وتواكب التطورات، التي تشهدها صور التعاملات الإنسانية، سواءً أكانت في الواقع أم عبر العالم الافتراضي، وهنا نتوقف عند حدود المسؤولية النابعة من شعور نقي، تترجمه أفعال سوية، تقوم على معرفة قويمة؛ لنستطيع أن نصنع قرارات صحيحة، نتخذها برشد، ونتابع آثارها لنقوم المعوج منها.


مسؤولية الذات أرى أنها تقوم على فلسفة الرؤية المتكاملة؛ إذ يصعب علينا أن نحقق غايات ننشدها دون قراءة متعمقة للمشهد؛ لنخرج من حيز ظواهر الأشياء أو الأمور، ونبحر في بواطن نستفيد قطعًا من تفاصيلها؛ حيث يزول الغبن، ويبدد الجهل، بفهمٍ صحيحٍ، ومعانٍ لها دلالات، تمكننا من أن نتوقع النتائج في ضوء المعطيات التي نقدمها، وفي ضوء ذلك نصل بهدوء لمراحل متقدمة من طمأنة القلوب؛ حيث تتناغم خلجات العواطف في إطارها الطبيعي، مع ما يمتلكه العقل من ملكاتٍ تُستثمر في كل ما نؤديه من مهام تقع على كاهلنا؛ ومن ثم نخرج من حيز الشرذمة والتشتت إلى وضعية الاستقرار والانسجام.
تتأتى مسؤولية الذات من أساس لا جدال حوله؛ حيث الحرية المستندة على الإرادة، وهذا مناط الفلسفة الإنسانية القائمة على ماهية الكرامة؛ لكن الأمر لا يتوقف عند حد الاختيار فقط، بل، يتجاوزه إلى معايير بعينها، تضمن دقة القرار؛ ليتحمل الإنسان منا تبعات ما يؤديه، أو يفعله، أو يمارسه، وفي الحقيقة ينبري ذلك في بوتقة الحكمة من الوجود والاستخلاف على الأرض؛ لذا جاءت الضوابط الأخلاقية القيمية؛ لتضمن إعمال ما نسميه ضمير الإنسانية، الذي يشكل قمة مراجعة النفس؛ فلا فائدة من خير يقوم على ماهية الفساد أو الإفساد؛ فقد أثبتت التجربة أن الهوى يضير قطعًا بمسيرة الحياة البشرية قاطبة.
حرية الإرادة لا تفارق حيز مسؤولية الذات، وهنا نؤكد على أهمية تعديل السلوك لدى الإنسان؛ كي لا يجمح في ممارساته؛ بحجة إطلاق العنان، الذي يؤدي إلى الابتكار؛ فالأمر يقوم على تربية تعزز لديه البعد القيمي، باتصافات ندرك مدى اتساقها وتناغمها مع بعضها البعض؛ فلا يجوز أن نتحرى الصدق ونمارس جزءًا من الاحتيال؛ لذا تأتي أهمية المحاسبية التي تظهر لنا ماهية الآثار الناتجة عما نقوم به من أفعال وأقوال؛ لندرك جليًا أن الحرية والإرادة لا ينبغي أن تخرج قطعًا عن سياج يحمي صاحبهما من الوقوع في الخطأ، ناهيك عن حالة التوازن العائد نفعها على الجميع.
لدى يقين بأن تفهم ماهية وفلسفة مسؤولية الذات من قبل الإنسان، تعد من قبيل العبقرية المساعدة على حفظ النظام الحياتي له بكل أنماطه، ومن ثم تفتح مجالًا لأن يقوم من نفسه، وتوجهه نحو التمسك بقيمه النبيلة، وغاياته المنشودة، وتُحدث لديه فِقْهًا بمعنى الحرية، غير الضارة بالآخرين، وتؤكد عليه أن يتحرى الدقة في أحكامه، وأن يحرص على ممارسة أعماله بدقةٍ وتفانٍ وإتقانٍ، ويتابع اجتهاده ليحقق المراد؛ ومن ثم يهجر فوضى الانفعالات التي تسببها ضغوطات يصعب حصرها، ويغلق أبوابًا قد يتطرق منها أهواء تخلق السلبية، وتكرس الاتكالية، وتسلب حقوق الآخرين، وتورث في النفوس مرارة الظلم.
دعونا نحرص على التجديد من خلال تنمية الابتكار عبر بوابة مسؤولية الذات؛ لنؤكد بشكل صريح على أن بناء الشخصية العاشقة للإبداع وتفاصيله، يقوم على تعضيد الوعي الذاتي في صوره المختلفة؛ حيث التنوع المعرفي، الذي يعزز الموروث الثقافي لديه، وهنا نضمن إيجابية السلوك والانضباط في آن واحد، ناهيك عن توجيه واستثمار الطاقات نحو تحقيق الهدف؛ لذا ينبغي أن نكابد من أجل أن نصنع صاحب فكر رشيد، يعمل دومًا على رقي ذاته، ولا يتوقف عن العطاء بكافة ألوانه، ويحمل بين يديه راية التقدم والنهضة، ويرى بعين يملؤها الأمل صورة مستقبله المشرق.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.

طباعة شارك الإدراك التكوين النضج فلسفة الاتزان مسؤولية الذات

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الإدراك التكوين النضج ومن ثم

إقرأ أيضاً:

محمد صابر عرب.. المؤرخ الذي حمل الثقافة كذاكرة وطن

في رحيل بعض الرجال، لا ينطفئ شخصٌ بقدر ما تُطفأ شعلة من شعل الذاكرة العامة، هكذا بدا خبر وفاة الدكتور محمد صابر عرب، وزير الثقافة الأسبق، والمؤرخ الكبير، وكأن التاريخ نفسه فقد واحدًا من حرّاسه الأمناء، لم يكن عرب سياسيًا عابرًا في مقعد الوزارة، ولا مثقف مناسبات، بل كان رجل معرفة عميقة، تشكّلت رؤيته عبر الأرشيف، والوثيقة، وسجالات التاريخ، فحمل الثقافة بوصفها فعل وعي، لا أداة دعاية، وذاكرة أمة لا ديكور سلطة.

وفاة الدكتور محمد صابر عرب وزير الثقافة الأسبقوزير الثقافة ينعي الناشر محمد هاشموزير الثقافة يعلن موعد انطلاق فعاليات المؤتمر العام لأدباء مصر في دورته الـ37 بمدينة العريش 26 ديسمبر جاريوزير الثقافة يُهدي سلوى بكر درع الوزارة احتفاءً بفوزها بجائزة البريكس

مؤرخ من طراز خاص

وُلد الدكتور محمد صابر إبراهيم عرب عام 1945، وتخرّج في جامعة الأزهر، حيث ارتبط اسمه مبكرًا بقسم التاريخ والحضارة، وبدأ مسيرته الأكاديمية معيدًا عام 1974، ليتدرج علميًا حتى أصبح أستاذًا لتاريخ العرب الحديث عام 1994، وهو الموقع الذي ظل يشغله حتى رحيله.
تميّز عرب بانحياز واضح للمنهج التاريخي الصارم، القائم على الوثيقة والتحليل، بعيدًا عن السرد الإنشائي أو التوظيف الأيديولوجي للتاريخ، وقد انعكس ذلك في إشرافه ومناقشته لمئات الرسائل العلمية في مصر والعالم العربي، وفي حضوره الدائم كمرجع علمي رصين داخل الجامعات والمؤسسات البحثية.

دار الوثائق.. معركة الذاكرة

يمثل توليه رئاسة دار الوثائق القومية ثم الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (1999–2011) محطة محورية في سيرته، ففي هذه السنوات، خاض واحدة من أهم معارك الحفاظ على الذاكرة الوطنية، عبر تطوير الدار، وإنشاء قواعد بيانات رقمية، وتأسيس مركز لترميم الوثائق، وبناء مقر جديد حديث لدار الوثائق بعين الصيرة.
لم يتعامل عرب مع الوثيقة باعتبارها ورقًا صامتًا، بل باعتبارها شاهدًا حيًا على التاريخ، ومصدرًا لا غنى عنه لفهم الدولة والمجتمع، ومن هنا، لعب دورًا محوريًا في الدفاع عن الأرشيف الوطني من الإهمال أو العبث، وشارك في مشروعات دولية كبرى مثل «ذاكرة العالم» تحت مظلة اليونسكو.

وزير الثقافة في زمن الاضطراب

تولى الدكتور محمد صابر عرب حقيبة وزارة الثقافة من مايو 2012 حتى يونيو 2014، في واحدة من أكثر الفترات اضطرابًا في تاريخ الدولة المصرية الحديث. جاء إلى المنصب محمّلًا بخبرة أكاديمية وإدارية ثقيلة، وفي مواجهة مشهد ثقافي منقسم، وضغوط سياسية حادة.
لم يكن وزيرًا صداميًا، ولا خطابيًا، لكنه تمسّك بفكرة مركزية: حماية استقلال الثقافة. رفض تحويل المؤسسات الثقافية إلى أدوات استقطاب أو دعاية، ودافع عن دورها التنويري، رغم ما واجهه من انتقادات وهجمات. كان حضوره هادئًا، لكن مواقفه كانت واضحة، تنطلق من إيمان راسخ بأن الثقافة لا تُدار بعقلية الغلبة.

إنتاج علمي غزير ومتنوّع

خلّف محمد صابر عرب تراثًا علميًا ضخمًا، تجاوز ثلاثين كتابًا، شكّلت مراجع أساسية في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، من بينها: الحركة الوطنية في مصر 1908–1914، حادث 4 فبراير 1942، العرب في الحرب العالمية الأولى، الدولة في الفكر الإباضي، الدين والدولة في الفكر الإباضي، بين التاريخ والسياسة.

كما قدّم دراسات عميقة عن الفكر الإصلاحي، خاصة في كتاباته حول محمد عبده وطه حسين، فضلًا عن إسهاماته المهمة في تاريخ الخليج العربي، والعلاقات العربية–العربية، والتاريخ العُماني.

لم يكن إنتاجه مجرد رصد للوقائع، بل محاولة دائمة لفهم العلاقة الشائكة بين التاريخ والسياسة، والسلطة والفكر، وهو ما عبّر عنه بوضوح في عنوان أحد كتبه: بين التاريخ والسياسة.

حضور عربي ودولي

شارك الراحل في عشرات المؤتمرات الدولية والعربية، ومثّل مصر في محافل ثقافية عالمية، من باريس إلى المكسيك، ومن دمشق إلى سيول. وترأس وفودًا رسمية في مناسبات ثقافية كبرى، وأسهم في حوارات الحضارات، وملفات التراث، والتوثيق، والتحول الرقمي للذاكرة العربية.

تكريم يليق بالسيرة

حصل الدكتور محمد صابر عرب على جائزة الدولة التقديرية عام 2012، واختير شخصية العام الثقافية في معرض الشارقة الدولي للكتاب 2017، كما نال درع الكمال الثقافي من الحكومة الجزائرية، وغيرها من الجوائز التي عكست تقديرًا عربيًا واسعًا لدوره العلمي والثقافي.

وداعًا لحارس الذاكرة

برحيل محمد صابر عرب، تخسر الثقافة المصرية مؤرخًا نادرًا، جمع بين الأكاديمية والإدارة، وبين المعرفة والمسؤولية، دون أن يتورط في استعراض أو ادعاء. كان يؤمن بأن الثقافة طوق نجاة، كما سمّى أحد كتبه، وبأن الأمم التي تفقد ذاكرتها، تفقد مستقبلها.

طباعة شارك الذاكرة العامة الدكتور محمد صابر عرب وزير الثقافة الأسبق المؤرخ الكبير

مقالات مشابهة

  • محمد صابر عرب.. المؤرخ الذي حمل الثقافة كذاكرة وطن
  • محمد ماهر يكتب: من خارج الخط
  • القيسي يكتب بحق المنتج محمد المجالي
  • د. محمد بشاري يكتب: الفتوى وسؤال الإنسان .. نحو بيان يستوعب الواقع ولا يضيع المقصد
  • شوبير: صلاح لا يزال يكتب التاريخ بصدارة
  • توقيف سوري بالجرم المشهود في كسروان.. ما الذي كان يقوم به؟
  • كيف تحمي نفسك من أدوات الذكاء الاصطناعي التي تجمع بياناتك الشخصية (فيديو)
  • جعجع: كل ما يقوم به بري هو افراغ العملية الديمقراطية في لبنان من مضمونها
  • مسؤول بالاتحاد الدولي للصحفيين: اختيار مهندسي الذكاء الاصطناعي كشخصية العام اعتراف عالمي بقوة التقنية وتأثيرها المتصاعد