مع احتفال العالم باليوم الدولي للتسامح، تملؤنا مشاعر الاعتزاز ببلادنا ونهجها المتفرد الذي جعل من التسامح مظلّة للبشر، في إطار تشريعي وعمل مؤسسي متكامل، انطلاقاً من قناعة راسخة بأنه مطلب أساسي لتحقيق التنمية والسلام، وحل المشكلات والصراعات.
فعلى امتداد مسيرتها، اتخذت الإمارات من تنوع مجتمعها وتعايشه وتسامحه، أساساً لاستقرارها وتنميتها وقوتها التي تتطلع دائماً لخير الإنسان، فأنشأت للتسامح وزارة، وتبنت تشريعات ضد التمييز والكراهية، وهيأت كل ما يمكن لحرية العبادة، بثقة واحترام.في موازاة ذلك، اختارت بلادنا أن يقوم مشروعها النبيل على الوسطية والاعتدال واحترام الاختلاف، ومواجهة آفات التطرّف والكراهية والإقصاء، ومن ثم بناء قواعد الحوار، مع مزيد من التركيز على ما يوحد بين أتباع الديانات، والاشتباك الثقافي مع جذور التعصب وسردياته ومظاهره.
ولأنها الإمارات، العربية بروحها وهويتها، المتحدة برؤيتها الإنسانية النبيلة، والواثقة بإرثها الحضاري العربي والإسلامي، آمنت بخياراتها في الانفتاح على الأمم والثقافات والمعتقدات.
ولأن التسامح السمة الرئيسية في وجهها الحضاري، خرجت من أرض الإمارات وثيقة خالدة لـ"الأخوة الإنسانية".. خرجت لتحكي عن شعبنا وقيادتنا، ووعينا وحكمتنا، وسياقنا التاريخي وإرثنا الثري، وواجبنا الأخلاقي، وقيمنا الإنسانية، بينما كانت الرسالة الواضحة بأنه على الجميع طيّ صفحات التاريخ الباهتة، وفتح كتاب المستقبل، وليكن التسامح سطرَه الأول.
والآن، وفي اليوم الدولي للتسامح، تتجدّد الرسالة لكل شعوب الأرض بأن يكونوا سفراء للسلام والأخوة الإنسانية، من أجل أن تتجلى القوة الحقيقية للإنسانية في مواجهة الكراهية والقتل والإرهاب، وتتسع دروب الأخوة، ويدشّن الجميع واقعاً ومستقبلاً أفضل للأجيال، ويبسطوا أرضية مشتركة للغد.
سيتعمّق خطابنا العقلاني، وسنواصل القيام بواجبنا تجاه الإنسانية، وسنظل نعمل بكل عزم وتصميم على أداء رسالتنا، ليبقى التسامح أحد أسرار قوتنا الناعمة، وأحد أكبر مسؤولياتنا التاريخية كدولة فاعلة وواعية.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي غزة وإسرائيل الحرب الأوكرانية عام الاستدامة الإمارات
إقرأ أيضاً:
عمان وتركيا.. من العمق الحضاري إلى التعاون المستقبلي
22-23 أكتوبر 2025م قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بـ«زيارة دولة» إلى سلطنة عمان، وكان في مقدمة مستقبليه مولانا صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق ـ أعزه الله ـ. وتتميّز «زيارة الدولة» بأنَّها أعلى مستويات الزيارات الرسمية بين الدول، وتعبّر عن صداقة راسخة بين الشعبين، وفيها تبرم اتفاقيات المشاريع الحيوية، وتوضع الاستراتيجيات الوازنة وبعيدة المدى.
تأتي هذه الزيارة في مرحلة حرجة من المتغيرات الدولية، وبحاجة ماسة لتفعيل المبادئ السياسية السامية سواءً في التعاون الاستراتيجي بين الدول، أم بمنع التدخل في الشئون الداخلية للدول، وتبنّي عقيدة السلام. وهذه هي المبادئ السياسية العليا التي تحكم العلاقة بين سلطنة عمان والجمهورية التركية.
بدأت العلاقة الدبلوماسية الحديثة عام 1973م، لتثمر عن فتح سفارة سلطنة عمان في أنقرة عام 1985م، وسفارة جمهورية تركيا في مسقط عام 1986م، وقد تطورت العلاقة إيجاباً في مختلف الجوانب؛ خاصةً في الاقتصاد والاستثمار، وقد صحب ذلك تعاون في المجالين التعليمي والثقافي؛ فبحسب الموقع الرسمي لوزارة الخارجية العمانية:
وقع البلدان عام 2010م على مذكرة تفاهم للتعاون في مجال المحفوظات، وتسهيل حصول سلطنة عمان على نسخ من الوثائق والمحفوظات من الأرشيف التركي. وفي عام 2019م وقعا على اتفاقية لتمكين اللغة التركية وتدريسها بجامعة السلطان قابوس. وفي عام 2022م وقعا على مذكرة تفاهم لإنشاء «معهد يونس أمره لتعليم اللغة التركية» في مسقط.
17 مايو 2023م أصدرت هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية بالسلطنة أربعة إصدارات بعنوان «عمان في الوثائق العثمانية.. ثلاثمائة وسبعون عاماً من العلاقات التاريخية» اشتملت الأجزاء الأولى على (الكشف عن عمق هذه العلاقات من خلال التدقيق في وثائق الأرشيف العثماني)، وخُصّص الجزء الرابع عن «العلاقات العمانية التركية في وثائق الجمهورية التركية»، كما نشرت خمسة مجلدات من هذه الوثائق باللغات العربية والتركية والإنجليزية. وبين 5-21 أغسطس 2024م أقيم معرض وثائقي بعنوان «ذاكرة وطن» في صلالة ركّز على العلاقات التاريخية بين عمان وتركيا.
وفي أكتوبر 2024م وقع البلدان على مذكرة تفاهم لتبادل المنح الدراسية والأكاديمية، والاعتراف المتبادل بين مؤسسات التعليم العالي، ونقل العلوم والمعارف والتكنولوجيا، وتنظيم الدورات والندوات، وإجراء الأبحاث العلمية. كل هذا التعاون؛ لتوطيد العلاقة بين البلدين، بيد أنَّه منحصر في الاتفاقات المتخصصة التي تأخذ غالباً البُعد الأكاديمي، وما ينبغي أيضاً هو التحول إلى «الاجتماع الثقافي»، وأقصد حضور الثقافة العمانية بين المفكرين الأتراك، والثقافة التركية بين المفكرين العمانيين. إنَّ هذا التجلي المعاصر للعلاقة بين سلطنة عمان والجمهورية التركية يعبّر عن مسار تأريخي طويل، لكنه غير حاضر كثيراً على المستويين الشعبي والثقافي؛ ولذا أرى أنْ يعزز البلدان تعاونهما الاستراتيجي بأنْ يولوا العناية للمسار التاريخي؛ فالحدث التاريخي هو القاعدة التي يبنى عليها الراهن، ويخطط بها للمستقبل.
ما لا يعرفه كثير منا أنَّ تركيا القديمة كان لها أثر في تطور الفكر الديني بالمنطقة، وربما امتد تأثيره إلى بقاع واسعة من العالم القديم؛ إذ وجد فيها «معبد جوبكلي تَبه» الذي يعود إلى الألفية العاشرة قبل الميلاد، وهذا تأريخ متقدم جداً في مسار بناء المعابد الفخمة على مستوى العالم عموماً. ومن ضمن عناصره الدينية النُصُب التي بنيت على شكل الحرف (T) الذي انتشر في العالم القديم، وله شواهد في عمان كتب عنه الابن عبدالرحيم بن خميس العدوي مقالاً بعنوان «الرمز T و12 ألف عام» نشره في جريدة «عمان» بتاريخ: 29/ 5/ 2023م. جاء فيه: (ما هي رقعة انتشار الرمز (T)؟ نجده موجوداً في أغلب مستوطنات العالم القديم؛ فمثلاً في إقليم عمان يوجد في مناطق جبال الحجر الشمالية الغربية محفوراً على الصخور. وخلال رحلتنا التوثيقية في مدينة كَدم والمناطق التي حولها كتنوف بنزوى وبلاد سيت ببَهلا وجبل السروج بمنح، وقفت على ذات الرمز).
كان أيضاً للأتراك السلاجقة نفوذ في عمان؛ حيث امتد وجودهم فيها حوالي القرن منذ منتصف القرن الخامس حتى منتصف السادس الهجري، وقد حكم عمان خلاله حوالي ثمانية أئمة جلهم من بني خروص كان مبتدأهم الإمام الخليل بن شاذان بن الخليل الخروصي البَهلوي (حكم:445-460هـ)، وآخرهم محمد بن أبي غسان الخروصي (حكم:510-549هـ)، ومنهم من يجعل إمامة الخليل بن عبدالله الخروصي البَهلوي خلال الوجود التركي بعمان، وعندي هو متأخر عنهم؛ حيث حكم بعدهم زمن الانبعاث النبهاني. وقد سك الأتراك عملة في عمان عام 450هـ من ضرب السلطان السلجوقي قرا أرسلان قاورد بك (ت:465هـ)، وكان مركز حكمهم في صحار.
ومن ذلك أيضاً التعاون العسكري بين عمان والدولة العثمانية زمن الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي (ت:1198هـ) مؤسس الدولة البوسعيدية؛ لامتلاك عمان حينها أسطولاً عسكرياً قوياً يجوب الخليج، فاستعان به العثمانيون؛ لتخليص البصرة من الفرس.
إنَّ هذه المسار التاريخي جدير بأنْ يبنى عليه تمتين العلاقة بين البلدين بشكل إيجابي وحضاري؛ أولاً بتتبعه وتحليله بحثياً، ثم بتسليط الضوء عليه ثقافياً، فالبناء عليه سياسياً واقتصادياً؛ لأنَّ هناك الكثير ممن يتصور أنْ العلاقة بين العمانيين والترك حادثة في العصر الحديث، وبكشف العمق التاريخي يجعل الروابط أمتن والعلاقات أقوى في تلاقح الفكر أولاً، ثم في تبادل المصالح، لاسيما أنَّ هناك توجهاً متبادلاً بحضور الأتراك في عمان للعمل والاستثمار، وحضور العمانيين في تركيا عبر السياحة والاستثمار.
وبعد؛ فالمقال يقترح لتقوية الروابط الثقافية بين البلدين الآتي:
- تكوين مشروع ترجمة متبادل بين الشعبين باختيار مجموعة من الكتب العمانية، وترجمتها إلى اللغة التركية، ومجموعة من الكتب التركية، وترجمتها إلى العربية، تشمل أهم الأعمال في الجوانب التاريخية والدينية والفكرية والأدبية. وأرى أنْ يتولى المنتدى الأدبي بوزارة الثقافة والرياضة والشباب هذا المشروع.
- إقامة مشروع للتعريف الثقافي يقوم على التواصل بين المفكرين والأدباء من الطرفين؛ بحيث يتعرف كل طرف على نظرائهم من الطرف الآخر. وهو مشروع لا يقتصر على عصرنا، وإنَّما ينبغي كذلك دراسة كبار الشخصيات في البلدين، ومدى تأثيرهم على الفكر الإسلامي والإنساني. ففي تركيا مثلاً: المؤرخ مصطفى بن عبدالله المعروف بحاجي خليفة (ت:1068هـ) صاحب معجم «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون»، وقد ذكر ضمن كشفه «ديوان الإمام جابر بن زيد»، والأديبة خالد أديب المعروفة بشاعرة الحرية (ت:1964م)، والعرفاني بديع الزمان سعيد النورسي (ت:1960م)، والفيلسوف نيرمي أويغور (ت:2005م). وفي عمان مثلاً: المتكلم أبو بكر أحمد بن عبدالله الكندي (ت:557هـ)، واللغوي سلمة بن مسلم العوتبي (ق:6هـ)، والسلطان الشاعر سليمان بن سليمان النبهاني (ت -:915هـ)، والمؤرخ حميد بن محمد بن رزيق (ت:1291هـ).
- بما أنَّ سلطنة عمان تقوم بدور ريادي في نشر التسامح الديني بين المسلمين وإحلال السلام في العالم، وتتطلع لتحولات فكرية ناهضة بالأمة الإسلامية، وبما أنَّ تركيا لها تجربة عميقة في العبور بالسياسة من «العلمانية الجذرية» إلى ما أسميته بـ«السياسة المدنية الإسلامية» متجاوزةً تقلبات تيار الإسلام السياسي؛ فتوجد فرصة بأنْ يبلور المفكرون من البلدين رؤية استراتيجية في الفكر السياسي تسهم في إخراج المسلمين من مأزقهم السياسي الحالي إلى وضع أكثر اتزاناً، وأقوم سبيلاً في الإصلاح الديني. وهذا مشروع رائد، قد يبدو بعيد المنال، لكن الأعمال الكبيرة تبدأ بفكرة، وكل من سار على الدرب وصل.
وليكن هذا من أعمال «المجلس التنسيقي العماني التركي» (الذي يهدف إلى متابعة تنفيذ مذكرات التفاهم والاتفاقيات الموقعة، وتعزيز التعاون الثنائي في مختلف المجالات) الذي أعلن عن إنشائه في الزيارة الأخيرة.